لم تنعم مريم يوماً بنظرٍ قوي يجنّبها الكثير من المواقف الصعبة التي واجهتها طيلة حياتها، حتى تلقّت ضربةً أفقدتها الرؤية بإحدى عينيها بشكلٍ نهائي.
مريم راجي (25 سنة)، تنحدر من جسر الشغور بمدينة إدلب، عاشت فترةً من الزمن في مدينة إسطنبول بتركيا، وعند زواجها، عادت مع عائلة زوجها إلى سوريا في العام 2020، لتستقر في مدينة الرقة بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
خاضت مريم رحلةً طويلةً ومتعبة، قبل وبعد زواجها في محاولةٍ لعلاج ما تعانيه من ضعف النظر، حتى أن مشكلتها الصحية تحولت إلى وصمٍ اجتماعي، تحمّلت تبعاته حيث فُرض عليها زواجاً لم تكن راضيةً عنه، ولم تتمكن من الرفض نتيجة ضغطٍ تعرّضت له من قبل عائلتها، لكنها تمكنت من بناء علاقةٍ تحمل من الود الكثير بينها وبين زوجها.
“حين رُزقت بابنتي الثانية، قررت عائلة زوجي العودة إلى سوريا والاستقرار في مدينة الرقة بعد أن أصبحت آمنة، ولكن عند العودة، بدأت حالتي الصحية تتدهور يوماً بعد يوم.” تقول مريم.
تمكنت مريم قبل زواجها من أن تعرف ماهية المشكلة التي تعانيها، وهو مرضٌ يُعرف باسم “رهاب الضوء“، لذا فإن تعرّضها المباشر والكثيف للشمس في سوريا، ضاعف من أزمتها الصحية، وبدأت تشعر بحكّة شديدة في عينيها
“حين قمنا بمراجعة طبيبٍ مختص، أخبرني أنني بحاجة إلى تصحيح شبكية العين عبر الليزر، وحينها حلّت عليّ المصيبة.”
حين أنهت مريم العملية تبيّن أنها فقدت الرؤية بعينها اليمنى في حين أنها تشعر بوجود طبقةٍ تمنع الرؤية بشكلٍ واضح في عينها اليسرى، وحين راجعت الطبيب أخبرها أن الأمر مؤقت وستشعر بالتحسن في الفترة القادمة، وذلك ما لم يحدث، حيث استمر الأمر بالتدهور، حينها قررت أن تقوم بمراجعة طبيبٍ آخر، لتكتشف أن العملية التي أجرتها تسببت لها بالعمى في عينها اليمنى، وأن الأمر كان يتطلب نظارة للحماية وعدم التعرض للضوء القوي فقط.
بحسب تقريرٍ صادر عن منظمة الصحة العالمية في العام 2023، فقد تبيّن أنه يتأذى قرابة مريض/ة من كل 10 مرضى في مرافق الرعاية الصحية وتتسبب الرعاية غير المأمونة في حدوث أكثر من 3 ملايين وفاة سنوياً. ويموت في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل نحو 4 أشخاص من كل 100 شخص بسبب الرعاية غير المأمونة.
وتبيّن في التقرير أيضاً، أنه تشير بعض التقديرات إلى أن نحو أربعة من كل 10 مرضى يتعرضون/ن للأذى في أماكن الرعاية الأولية والرعاية المتنقلة، في حين يمكن تجنب ما يصل إلى نسبة 80% من هذا الأذى.
أخطاءٌ طبيّة أفقدت البعض أهم ما يملكون/ن بالنسبة لهم/نّ
لم تكن مريم الوحيدة التي فقدت جزءاً من جسدها نتيجة خطأٍ طبي، فقد عايشت إيمان رجب من ساكنات مدينة الرقة أيضاً معاناةٍ لم تتمكن من تجاوز آثارها بعد تجربتين من التداوي الخاطئ، كانت الأولى حين لم تتمكن من الحمل، وعند مراجعة طبيبة مختصة، أخبرتها أنها تعاني من وجود كتلة ليفية على الرحم، وبدأت المعالجة بتناول بعض الأدوية التي أدت لإصابتها بإعياء وصداع شديدين وبشكلٍ مستمر.
وحين قررت إيمان أن تقوم بمراجعة طبيبٍ آخر، فقد اكتشفت أن التشخيص كان خاطئاً، وأنه من ما من كتل ليفية، إنما هو كيسٌ مائي على الرحم، وعلاجه ليس بالأمر الصعب، وبعد التداوي، فقد شُفيت ورزقت بطفلها الأول بالفعل، وبعد مرور عام، فقد حملت إيمان بطفلتها الثانية، إلا أن ولادتها لم تكن سهلة، لذا فقد لجأ الطبيب إلى توليدها عبر عمليةٍ قيصرية.
لم تنتهِ معاناة إيمان من آثار الخطأ الطبي الأول، حتى بدأت آثار الخطأ الثاني، حيث عانت بعد مرور يومين على ولادتها من آلامٍ شديدة، بالإضافة إلى حدوث انتفاخٍ في بطنها بدأ يزداد حجماً يوماً بعد يوم، وبعد إسعافها إلى المستشفى، اكتشف الطبيب المشرف وجود قطعة من القماش المستخدم أثناء عملية التوليد (شاش) لا زالت موجودة في رحمها، وبعد أن شخّص الطبيب الجراح حالتها، أخبرها وزوجها أنه يستوجب عليها استئصال الرحم، الذي سيتسبب لها بنزيفٍ قد يؤدّي للموت.
“استيقظت بعد العملية، لأكتشف أنني فقدت جزءاً مهماً من جسدي؛ فقدت رحمي، نتيجةً لاستهتار الطبيب، الذي قدّمت شكوى ضده، ولكن النتيجة كانت فصله من المستشفى دون أي إجراء قانوني آخر.” تقول إيمان.
وعن الأخطاء الطبية المتكررة في حالاتٍ عدة، تقول زينة الحسن الاختصاصية في أمراض الأطفال/الطفلات في مدينة الرقة، إن الأخطاء الطبية واردة في أيّ مكان، لكن على الأطباء والطبيبات تحمّل المسؤولية الأخلاقية تجاه أرواح الأهالي، في ظل وجود قوانين تعاقب مرتكبي/ات الأخطاء الطبية التي تُلحق الأذى بضحايا هذه الأخطاء، بحسب رأيها.
“توفّي خالي نتيجةً لخطأٍ طبي، حيث تلقّى جرعة تجريبية من العلاج الكيميائي لمعالجة سرطان الكولون، ولم تكن تلك الجرعة مناسبة لحالته، لذا فقد حياته على الفور.” تقول الطبيبة زينة.
يعاقب القانون مرتكبي/ات الأخطاء الطبية، لكن ثقافة الشكوى شبه غائبة
لم يكن فقدان مريم لقدرتها على الرؤية المعاناة الأبدية الوحيدة التي لا زالت تعايشها حتى الآن، فقد تسبب فقدانها للرؤية بفقدانها لعائلتها وطفلتها الصغيرة.
“حين فقدت الرؤية، باتت رعاية أطفالي أمراً صعباً للغاية، وفي إحدى المرات، أحرقت طفلتي الصغيرة قدمها بإبريق الماء الساخن، ولم أتمكن من رؤية الإبريق، فقمت باحتضانها دون أن أعلم سبب بكاءها.” تقول مريم.
تلك الحادثة كانت سبباً لأن يقوم والد زوجها بطردها من المنزل، وفرض على ابنه أن يقوم بالانفصال عنها، مبرراً ذلك بأنها لا تستطيع رعاية أطفالها، وحدث الانفصال بالفعل، وحين عادت إلى عائلتها، رفض والدها التقدّم بشكوى ضد الطبيب الذي ارتكب الخطأ الطبي بحق ابنته قائلاً “هل ستتمكنين من الرؤية مجدداً إن قمنا بالادّعاء عليه؟.”
وعن عقوبة الأخطاء الطبية في القوانين السورية، يقول الحقوقي قهرمان عيسى إنه تنص المادة (189) من قانون العقوبات على ما يلي “يكون الخطأ إذا نجم الفعل الضار عن الإهمال أو قلة الاحتراز أو عدم مراعاة الشرائع والأنظمة”، بينما تنص المادة (190) على “تكون الجريمة غير مقصودة سواء لم يتوقع الفاعل نتيجة فعله أو عدم فعله المخطئين، وكان باستطاعته أو من واجبه أن يتوقعها وسواء توقعها فحسب أن بإمكانه اجتنابها”.
ويوضّح قهرمان، أنه بناءً على المادتين، يُلاحق الطبيبة/ة في حالة ارتكابه/ها للخطأ الطبي أمام القضاء الجزائي، حسب النتيجة الجُرمية، ويُحاكم/تُحاكم أمام محكمة صلح الجزاء في حالة التسبب بالإيذاء للمريض/ة، وأمام محكمة بداية الجزاء في حالة تسبُّب إهماله/ها وفاة المريض/ة، وفي حالة ارتكابه/ها القتل القصد، يُ/تُلاحق أمام قاضي/ة التحقيق ثم قاضي/ة الإحالة تمهيداً لمحاكمته/ها لأمام محكمة الجنايات.
وفيما يتعلّق بالقوانين التي تتبعها “الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا”، يقول قهرمان إنه تتم ملاحقة الطبيب/ة في حالة ارتكابه/ها الخطأ الطبي أمام القضاء، ابتداءً من النيابة العامة، ومن ثم أمام ديوان العدالة، كما تتم ملاحقته/ها بدعوى الحق العام، ويستطيع المتضرر/ة أو وليّه/ها الادّعاء شخصياً أو تقديم شكوى، ما يدفع النيابة العامة بتحريك دعوى الحق العام.
“أصدرت الإدارة الذاتية قانوناً باسم قانون المهن الطبية، ويتم تطبيقها على المنضوين العاملين تحت مسمّى المهن الطبية من الناحية المسلكية،” يقول قهرمان ويضيف أن العقوبات التي تطال مرتكبي/ات الأخطاء الطبية تبدأ بالإنذار، والغرامة المالية، وإيقاف مزاولة المهنة مؤقتاً، وإيقاف الترخيص لسنتين، وصولاً إلى المنع الدائم لممارسة العمل الطبي.
يُحتفى منذ عام 2019 باليوم العالمي لسلامة المرضى في جميع أنحاء العالم سنوياً في 17 أيلول/ سبتمبر، بدعوة جميع البلدان والشركاء الدوليين إلى التضامن العالمي والعمل المتضافر من أجل تحسين سلامة المرضى. وتهدف الحملة العالمية، التي يخصص لها موضوع محدد كل سنة، إلى إذكاء الوعي العام والفهم العالمي لسلامة المرضى وحشد أصحاب المصلحة من أجل العمل على إزالة الأذى الذي يمكن تجنبه في مجال الرعاية الصحية ومن ثمّ تحسين سلامة المرضى.