إن الرغبة في إنجاب الذكور، قد يدفع بعض الأزواج والزوجات لسلك طرق غير آمنة، أو اللجوء للإجهاض فيما إذا كان الجنين أنثى، أو قد ينتج عن ذلك حالات طلاق أو تعدد للزوجات، فيما يتحمّل القسم الآخر ضغوطاً نفسية واجتماعية، إلى حين قدوم الجنين الذكر، وذلك ما حدث بالفعل مع رشا (اسم مستعار لامرأة من مدينة قامشلي)، والتي تسرد قصتها لـ نيكستوري وتُعدّد الآثار المترتبة على حالات عدم إنجاب الذكور.
في هذا الصدد، تقول الناشطة النسوية نور برهان، إن الرغبة في إنجاب الذكور تعود إلى أسباب جذرية متاصّلة بتفاوت القيمة المجتمعية لكل من الذكور والإناث، منها، اعتبار الذكر حاملاً لنسب العائلة، وبالتالي يتم تحويله إلى مركز السلطة والاستمرارية للحفاظ على “اسم العائلة”.
“أمّا الإناث، فإنهن عائدات لعائلات أزواجهن، وبالتالي فإنهن الحلقة الأضعف في هذه القضية”، تضيف نور.
في مقالة بحثية لـ نادية سميث (الأستاذة في قسم علم الأوبئة والإحصاء الحيوي ومعهد علوم الصحة العالمية بجامعة كاليفورنيا)، تبيّن أن النسب غير المتكافئة بين الجنسين يمكن أن تؤدّي إلى زيادة العنف، فأشارت الأبحاث في الهند أن النساء اللاتي يعشن في مجتمعات ذات نسبة جنس غير متساوية، أكثر عرضة للإبلاغ عن الاعتداء الجسدي من قبل الزوج، والشابات أكثر عرضة للتحرش، كما أشارت البيانات الواردة من الصين أن النساء اللاتي يعشن في مناطق ذات نسبة غير متوازنة بين الجنسين، كنّ أكثر عرضة للإبلاغ عن إجبارهنّ على ممارسة الجنس.
الرغبة في إنجاب الذكور ثقافة تكرّست لدى النساء أنفسهن
تسرد رشا معاناتها مع قضية تفضيل الذكور على الإناث، حيث بدأ الأمر عند زواجها من رجلٍ وحيد لعائلته، ما ضاعف الضغط عليها، على حد قولها، وحمّلها مسؤولية إنجاب الذكر للحفاظ على “اسم العائلة”، تقول رشا، “لا أعلم لمَ يتجلى اهتمام المجتمع باسم العائلة المرهون بالذكر، دون الاهتمام بضرورة تنشئة أطفال وطفلات على الأخلاق والتربية السليمة”.
“إن من أهم عواقب الأمر، خلق حالة من عدم الثقة بالنفس لدى النساء، والاتّكال على الرجال على اعتبارهم المعنيين بالعناية بالنساء، ويعتبر ذلك سبباً من أسباب تحجيم دور النساء مجتمعياً وفي جميع مناحي الحياة، وتنميط أدوار الأنواع الاجتماعية”، تقول رشا.
ومن الناحية الصحية، توضّح زوزان أوسي (الطبيبة المختصة بالأمراض النسائية) لـ نيكستوري، أن الطرق المتّبعة لتحديد جنس الجنين آمنة لكنها غير مثبتة علمياً، وتقول “لقد صادفتُ حالاتٍ كثيرة في عيادتي الخاصة، لنساءٍ شعرن بإحباط شديد بعد أن علمن أن جنس الجنين أنثى”.
“في إحدى المرات، طالبت إحداهن أن تقوم بإجهاض جنينها، لكن من المؤسف عدم الوعي بخطورة هذه العمليات التي قد تسبب أمراضاً من قبيل انتانات باطن الرحم أو الالتصاقات بباطن الرحم، الذي تظهر أهم أعراضه في حدوث العقم الثانوي، أي مواجهة المرأة الحامل سابقاً، مشكلات في القدرة على الحمل مرة أخرى” تقول زوزان.
“إن رغبة المجتمع في إنجاب الذكور أكثر من الإناث، أدت إلى خلق حالة من التمييز والتفرقة بين الجنسين، وشعوراً لدى الإناث بأنهن أقل قيمة بسبب جنسهن”، تقول ليلى (اسم مستعار لإحدى ساكنات مدينة قامشلي)، وتضيف أن هذه الثقافة المتوارثة كرّست لدى النساء أنفسهن الرغبة في إنجاب الذكور، حتى بلغ الأمر شعورهن بالنقص إذا لم ينجبن ذكراً، كما أنه بات تحقيق الأمر سبباً للتفاخر مجتمعياً.
الموروث المجتمعي الذي يميل إلى التمييز ضد النساء، يؤثر على أدوارهنّ في المجتمع، ويعزز الاختلافات الاجتماعية بين الجنسين، من قبيل فرض القيود والتحديات على نشاطاتهنّ ومشاركتهنّ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحسب ما توضحه نور.
وتشير نور إلى أن انعكاسات هذا الأمر تظهر جليّاً في قلة تمثيل النساء في المناصب القيادية وصنع القرار، وذلك انطلاقاً من اعتبار النساء غير مؤهلات للمشاركة المجتمعية ككل، ما يؤدي إلى تعزيز الأدوار النمطية بحقهنّ، وبالتالي تقييد حقوقهن وفرصهن في التطوّر والتقدم في مختلف مجالات الحياة.
عايشت رشا حالة الإقصاء في عائلتها، واصفةً الحالة بأنها كانت “مستمرة وليست في بعض الأحيان” فيما يتعلق بتفضيل إخوتها للمشاركة في حل المشكلات التي تواجه العائلة، وهو ما وصفته بالنهج المتّبع في العائلة.
ثقافة تفضيل الذكور على الإناث .. ضغطٌ يلاحق الرجال أيضاً
إن الموروث المجتمعي التمييزي، يعزز فكرة السلطة والهيمنة الذكورية، أي يجعل من الذكور مسؤولين عن “حماية” و”توجيه” النساء، وذلك ما يشكّل ضغطاً عليهم بوجوب ممارسة هذه الهيمنة للحفاظ على صورة “الرجولة” التي تفرضها المعايير المجتمعية، بحسب رأي نور.
صالح محمد، رجلٌ ستيني ينحدر من ريف مدينة ديريك/المالكية، يروي تجربته وما تعرّض له خلال فترة زواجه من ضغوط، نظراً لإنجاب زوجته إناثاً في بداية زواجهما، ويقول “أنظر لبناتي على أنهن سنداً لنا، رغم ذلك، فقد تعرّضتُ للكثير من الضغوط كي أتزوج مرة أخرى في سبيل إنجاب الذكور، لكنني تمكنت من التخلص من تلك الضغوط وتجاوز الأمر”.
لم تفلح رشا وزوجها في مواجهة الضغوط المشابهة لتلك التي واجهها صالح، فقد وصل الأمر بهما إلى أنه مورست عليهما ضغوطاً من قبل أشخاص لا تربطهم/نّ بهما أية قرابة حتى، ولم تنتهِ المعاناة رغم إنجابها طفلها الأول، وكانت الضغوط على زوجها أشد منها.
“حين أخبرت زوجي أنني حامل للمرة الثانية بعد مرور عامين على إنجاب الطفل الأول، بدأ بالبكاء، وقال لي إنه وأخيراً سيتخلص من الضغوط الممارسة عليه”، تقول رشا.
أما علي حسين (أربعيني من مدينة ديريك/المالكية) فإنه عاش أيضاً المعاناة نفسها بسبب إنجابه إناثً فقط دون ذكور، يقول علي “المجتمع المحيط بنا لا يرحم أحداً من توجيهاته، يقومون بالتدخل في عدد الأطفال الذي يجب علينا إنجابهم، بالإضافة إلى تحديد الجنس المرغوب به، وكأن الأمر يتم تحديده متى ما رغب المرء بذلك”.
رفع الوعي المجتمعي سبيلٌ إلى تخفيف حدّة التمييز
تصف نور دور منظمات المجتمع المدني بـ “القاصر” أمام إحداث التغيير انطلاقاً من جذور المشكلة، وعلى الرغم من أن إحداث التغيير مسؤولية الحكومات بالدرجة الأولى، إلا أن منظمات المجتمع المدني يمكنها أن أن تقوم برفع الوعي لتحقيق التغيير تراكمياً، وذلك عبر مشاريع تصب في التنمية، ومناصرة سن قوانين تحمي النساء من التمييز، على حد قولها.
من جهتها، تقول أورشينا حنا الناشطة المدنية أن قضية تفضيل الذكور على النساء، هي قضية شائكة ومعقّدة، تدخل في صميم الحياة المجتمعية والأسرية، نظراً لارتباطه الوثيق بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد المجتمعية.
“من خلال تكثيف النشاطات التي تصب في رفع الوعي المجتمعي بأهمية دور النساء إلى جانب دور الرجال، ومن خلال العمل مع رجال الدين لتصحيح المفاهيم الخاطئة حول الدور الذكوري والأنثوي مجتمعياً، ستبدأ رحلة التغيير” تقول أورشينا.
“إن اختيار نوع المولود لصالح الذكور، هو عادة راسخة في المعتقدات، وتمثّل ظلماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافيً للمرأة، وخرقاً لحقوقها الأساسية، وعبر العقود المتوالية، أدت هذه الممارسة إلى اختلال في نسبة المواليد في العديد من الدول، خصوصاً في جنوب وشرق ووسط آسا، مع ارتفاع النسب لتبلغ في بعض الأحيان، 130 صبياً مقابل كل 100 فتاة”، ذلك ما جاء في نص بيان صادر عن خمس منظمات تابعة للأمم المتحدة في العام 2011.
وأكدت المنظمات ضرورة بذل المزيد من الجهود من قبل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني لمعالجة التمييز المبني على النوع والذي يؤدي إلى اختيار نوع الجنس، كما واقترحت اتخاذ إجراءات شاملة لمعالجة المشكلة بما في ذلك جمع المزيد من المعلومات عن حجم الظاهرة والعوامل التي تقف وراءها واتخاذ تدابير لدعم الفتيات والنساء مثل الحوافز للأسر التي لديها فتيات فقط وغيرها من الإجراءات القانونية والتوعوية الأخرى.