أن تعنّف/ي طفلك أو طفلتك دون دراية بذلك 

نيكستوري – عليا محمد 

عاشت طفولتها وهي في حيرة وقلق من أن لا تكون ابنةً حقيقية لعائلتها، نظراً لما تردّد على مسامعها (من العائلة وكذلك من المحيط الاجتماعي) أنها ليست ابنة العائلة، وذلك بسبب لون بشرتها المختلف عمّا ي/تملكه إخوتها وأخواتها. 

تعرّضت بتول زهير (الفتاة العشرينية من مدينة حسكة) لمواقف أخرى كثيرة لم تتمكن من تجاوز آثارها، فقد كانت توضَع في مقارنةٍ مع أخواتها وإخوتها على الدوام، ما شكّل لديها عقدة نفسية ترتّب عليها رغبتها في تغيير كل ما يمكن تغييره، لاسيّما شكلها الخارجي. 

اعتقدت بتول أنه من الطبيعي أن يعامل الأهل أطفالهم/نّ وطفلاتهم/نّ بهذه الطريقة، إلا أنّها، وبعد أن بلغت سن الرشد، باتت تعي أن ما تعرضت له كان عنفاً لفظياً، لم ينته مع انتهاء مرحلة الطفولة، فقد استمر الأمر في مقارنة تحصليها العلمي مع أخواتها وإخوتها ممن يدرسن/ون في كليّات الطب والهندسة، في إشارة إلى التقليل من شأن تخصّصها الدراسي في كلية أخرى.  

الضرب ليس الصورة الوحيدة لاستخدام العنف في التربية

تقول ليلى رجب مهدي (الاستشارية في الصحة النفسية والدعم النفسي) لـ نيكستوري إن البعض يلجأون/ن إلى التنمّر كوسيلة في تربية أطفالهم/نّ وطفلاتهم/نّ بزعم تحفيزهم/نّ على تعديل سلوكهم/نّ، سواءً أكان هذا التنمّر لفظياً أم بدنياً، دون إدراك ذلك من الوالدَين، كونه يتم بحجة الخوف على الطفل/ة. 

ولتوضيح معنى مصطلح التنمّر وما يندرج تحته من سلوكيّات، تقول ليلى “من أشكال التنمر انتقاد شكل جسم الطفل، لون بشرته، أو شكل أسنانه، أو وضعه في مقارنة مع إخوته أو أحد أقرانه وتوجيه النقد له بشكل مستمر، كما يشمل التقليل من شأن الطفل والضحك المستمر عليه أمام إخوته حتى يغار ويعدُل عن طبيعته، وكذلك التشكيك في قدراته، والتعمد في استخدام الألفاظ التي لا يحبها الطفل، ومناداته بألقاب مضحكة”. 

وبحسب اليونيسف فإنه، وعلى عكس المتعارف عليه، الضرب ليس الصورة الوحيدة لاستخدام العنف في التربية، إنما  يشمل العنف النفسي أيضاً، مثل إهانة الطفل/ة، وانتقاده/ها بشكل سلبي، أو تخويفه/ها إلى جانب استخدام الألفاظ الجارحة معه/ها، وحرمانه/ها من الأمان. 

شكّلت الممارسات التمييزية بحق بتول، دافعاً لديها، إن تزوجت وأنجبت طفلة، أن تقوم بحمايتها من التعرّض لمواقف تشبه تلك التي تعرّضت لها في طفولتها، وخاصّة فيما يتعلق بالتعليق على شكلها الخارجي، نتيجةً لما لَحِق بها من أذىً نفسي حتى الآن.

 وتكمل بتول قولها “حتى الآن أشعر أنني أقل شأناً من أخواتي، سواءً أكان بالجمال، أو بالدراسة، ولست مقتنعة بشكلي الخارجي بسبب ما كنت أسمعه في طفولتي، حتى أنني أصبحت أفكّر، بعد أن أستقل مادياً، بإجراء عمليّات تجميلية، رغم معرفتي بخطورة البعض منها، ورغم معرفتي أن الأمر خاطئ”.

وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن العنف ضد الأطفال/الطفلات يشمل جميع أشكال العنف ضد الأشخاص دون الثامنة عشر من العمر، سواءً أكانت تُرتكب من قبل الأبوَين أو غيرهما من مقدمي/ات الرعاية أو الأقران، كما توضح أنه على الصعيد العالمي، تشير التقديرات أنه في العام 2021 تعرّض/ت نحو مليار طفل/ة في المرحلة العمرية من عمر الثانية حتى السابعة عشر عاماً، لعنف بدني، أو جنسي، أو وجداني، أو عانوا/ين من الإهمال.   

كما تشير المنظمة إلى أن العنف الوجداني والنفسي يشمل تقييد تحرّكات الطفل/ة، والتوبيخ، والسخرية، والتهديدات والترهيب، والتمييز، والنبذ، وغير ذلك من الأشكال غير الجسدية للمعاملة العدائية.

التدخّل المجتمعي أحد أسباب تعنيف الأطفال والطفلات في التربية

يقول روني (اسم مستعار لشاب ثلاثيني من مدينة قامشلي) لـ نيكستوري إنّه تعرّض للعنف النفسي من قبل والده في طفولته، مشيراً إلى أن بعض العادات المجتمعية ومفهوم الغالبية للحرص على الأطفال/الطفلات، ولاسيّما الذكور كانا من أسباب تعرّضه للعنف النفسي، والذي نتج عنه تولّد الشعور بالخوف لديه من والده، وامتناعه عن القيام بالكثير من السلوكيات، ليس بسبب اقتناعه أنّها تصرفات خاطئة، بل بسبب خوفه من ردّة فعل والده، إن كانت بالضرب أو بالتوبيخ. 

أمّا رنا (اسم مستعار لفتاة تبلغ من العمر 19 عاماً) فإنّها تؤكّد أن الكثير من الآباء والأمهات لا يقدّرون/ن أطفالهم/نّ وطفلاتهم/نّ، وذلك ما يجعل أولئك الأطفال والطفلات يعتقدون/ن أن أهاليهم/نّ لا يحبّونهم/نّ، لذا فإنّه من الضروري رفع الوعي لدى الأهالي بكيفية التعامل السليم مع الطفل/ة، وذلك نتيجةً لتجربة شخصية عاشتها رنا، التي تقول “لقد شعرت بنفس الأمر عندما كنت طفلة، حيث كنت أعتقد أن أهلي لا يريدونني بينهم، وأنهم يكرهونني، حتّى أنني رغبت في الموت أحياناً نتيجة ذلك”.

وفي السياق نفسه، تؤكّد ليلى أن تعرّض الطفل/ة للتنمر من قبل الوالدين والأهل يؤدي إلى بناء الحواجز بينه/ها وبين الوسط المحيط به/ها، إلى جانب العزلة التي تؤدّي إلى فقدان الطفل/ة للشعور بالأمان، حيث بات هذا المصدر يشكّل تهديداً له/ها، إلى جانب فقدان الطفل/ة ثقته/ها بنفسه/ها، مع الشعور المستمر بالقلق والتوتر، وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب الشديد أو التفكير بالانتحار.

وتستكمل ليلى القول “قد تؤدي هذه الممارسات إلى تعزيز السلوك العدواني لدى الطفل وجعله يقوم بنفس السلوك وممارسته على من هم أصغر منه سنًا، ويمكن أن يؤدي التنمر إلى تدهور الأداء الأكاديمي والتعليمي للأطفال، لذا يجب على الآباء أن يكونوا على وعي بأساليب التربية الإيجابية للأطفال، وتوفير بيئة آمنة وداعمة لأبنائهم، وعليهم تعزيز الثقة بالنفس لدى أطفالهم، كما أنه يتوجّب على الأهل العمل على تعزيز الصحة النفسية لأطفالهم وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم”.

ويُعتبر تدخّل المجتمع المحيط في تقييم الأطفال والطفلات سبباً لممارسة بعض الآباء والأمهات التعنيف النفسي على الأطفال والطفلات، حسب ما عايشته أفين محمد، وهي أم لثلاث طفلات، وتقول “أنا صارمة مع طفلاتي، حتى بوجود الآخرين حولنا، فإن قمنَ بأمرٍ سيء، أقوم بمعاقبتهنّ، وأعتقد أنّ أيّة أم ستفعل ما أقوم بفعله، وذلك تجنّباً لتقييم طفلاتي بأنهنّ غير مؤدّبات”. 

بدوره، يقول أحمد إبراهيم، من مدينة قامشلي إنه يجب أن يكون لدى الطفل/ة بعض الخوف من الوالدين كي لا ي/تكون “شاذاً أو خارج عن القاعدة” على حد تعبيره، ويعتبر أنه بسبب “سوء المجتمع المحيط بهم” يكون صارماً بعض الأحيان مع أطفاله وطفلاته كي لا يتأثروا/نّ  بمحيطهم/ن.

تختلف ليلى في مقاربتها في شكل العلاقة بين الوالدين وأطفالهم/نّ، حيث ترى “إنه إذا كنت لا تقبل سلوك طفلك وتريد منه أن يتصرف بشكل مختلف أو طريقة أفضل، يجب أن يكون حديثك معه على انفراد بعيداً عن الآخرين، والتحدث إليه بهدوء عند ارتكابه للأخطاء، ومن المهم اتّباع أسلوب النقاش بدلًا من الهجوم، فذلك يخلق لدى الطفل احتراماً لشخصيته، فضلًا عن المسؤولية لعدم ارتكابه أيّة أخطاء أمام الآخرين، لأن إحراجه أمامهم يؤدي إلى إظهار الحزن والإحباط والانزعاج لديه، وسوف يؤثر ذلك على صحته النفسية”. 

وتضيف ليلى أنه من الضروري أن ي/تهتم مقدّم/ة الرعاية للطفل/ة بالطريقة التي ي/تتعامل بها معه/ها أمام الآخرين/الأخريات، حيث يتسبب توبيخ الطفل/ة أمام الآخرين/الأخريات بشعوره/ها بالإحراج ويقلل من احترامه/ها لذاته/ها.

وبحسب الأمم المتحدة  فإن العنف ضد الأطفال/الطفلات لا يعرف حدوداً للثقافة أو للطبقة أو للتعليم، فقد يحدث ضدهم/نّ في المؤسسات، والمدارس، والمنزل، في إشارةٍ إلى أن العنف بين الأقران هو أيضاً مصدر قلق، حيث ي/تعيش الأطفال/الطفلات المعرضون/ات للعنف في عزلة ووحدة وخوف، ولا يعرفون/ن إلى أين يتوجهون/ن للمساعدة، خاصة عندما ي/تكون الجاني/ة قريبًا.

يكمن الحل في قانون يحمي الطفل/ة من أي تعنيف

“في المادة 20 من الدستور السوري، تم ذكر حماية الأمومة والطفولة، دون التطرّق إلى شرح تفصيلي لآلية هذه الحماية، لاسيّما حماية الطفل من العنف، كما أنه لم يتم تصنيف العنف ضمن المادة، وعلى الرغم من توقيع سوريا على اتفاقية حقوق الطفل، إلا أنه يوجد اختلاف واضح بين بنود الاتفاقية والقانون السوري من ناحية العقوبات وغيرها” يوضّح المحامي عدنان سليمان لـ نيكستوري موقف القوانين السورية من تعنيف الأطفال والطفلات. 

أما فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بالإدارة الذاتية، يشير عدنان إلى أنها أصدرت قانوناً لحماية الطفل/ة في العام 2022، وأوضحت فيه التزامها التام بجيمع الاتفاقيات الدولية التي تحمي حقوق الطفل/ة.  

وبحسب منظمة العفو الدولية  تسعى “اتفاقية حقوق الطفل” إلى حماية الأطفال/الطفلات من الأذى، وتوفير الخدمات اللازمة لنموهم/نّ وتطورهم/نّ، وتمكين مشاركتهم/نّ في المجتمع، وتركز المادة 42 من الاتفاقية على الالتزام بتثقيف الأطفال/الطفلات والبالغين/البالغات حول حقوق الطفل/ة، ولكن نادراً ما يحدث ذلك، وتوضح المنظمة أن  الجهل بحقوق الأطفال/الطفلات يعرّضهم/نّ بشكل أكبر لخطر الإساءة والتمييز المجحف والاستغلال.

غالباً ما يتم التعامل مع قضية تعنيف الأطفال/الطفلات على أنها تربية وليست عنفاً موجهاً ضدّهم/نّ، ما يجعل أطفال/طفلات كثر/كثيرات معرّضين/ات لسوء المعاملة من قبل أقاربهم/نّ، ويرى عدنان أن الحل يكمن في وجود قانون لحماية الطفل/ة وحقوقه/ها، يتم فيه توضيح كافة الحقوق وآليّة حمايته/ها، إلى جانب رفع الوعي بها حتى تتحوّل إلى ثقافة مجتمعية، كما يوضح أهمية إدراج هذه الحقوق كمادة في المناهج الدراسية ليكون/لتكون الطفل/ة على دراية بحقوقه/ها وكيفية حماية ذاته/ها من الخوف والضرب والاعتداء، سواءً الذي ي/تتعرض له من قبل المجتمع أو الأهل.

“لوقاية الأطفال من العنف الممارَس ضدهم، يجب دعم وتثقيف الوالدين وتزويدهم بالمعلومات والمهارات الإيجابية اللازمة لتربية الأطفال ورعايتهم وتحسين معارفهم فى ميدان تنمية الأطفال، وتشجيعهم على انتهاج استراتيجيات إيجابية فيما يخص تنشئة الطفل من أجل تجنب الآثار النفسية السلبية للعنف ضد الأطفال” تقول ليلى.

تبقى الكثير من السلوكيات المجتمعية سبباً في ظهور المشكلات والفجوات في شخصيّات أبناء وبنات المجتمع بعد بلوغ سن الرشد، ووفق ما يتم رصده من آراء الخبراء والخبيرات في المجالات المختلفة المتعلقة بالقضايا المجتمعية، فإن رفع الوعي، إلى جانب وجود قوانين ناظمة لآلية التعامل مع هذه القضايا وإيلاء الاهتمام بالصحة النفسية، من جملة العوامل التي تؤدّي إلى تقليص آثار المشكلات المجتمعية على المدى البعيد.