طريقٌ محفوفٌ بصورٍ نمطية يجب إزالتها للمرور إلى التماسك المجتمعي

“رغم أننا مجتمعات مختلفة ونعيش معاً في ذات البقعة الجغرافية، لكن لا زلنا نجهل الكثير عن بعضنا.” بهذه الجملة، تصف عدلة ابراهيم المنحدرة من قرية كرنكو بريف مدينة عامودا، العلاقات التي تجمع بين مختلف المجتمعات المتعايشة في شمال شرقي سوريا. 

هذه المنطقة التي تعتبر من أكثر المناطق التي تحتضن المجتمعات المختلفة عرقياً ودينياً وإثنياً، إلا أن هذا التنوّع لم يتم استثماره بالشكل الذي يتعزز به التماسك المجتمعي والسلام المستدام فيما بينها، وقد لعبت الكثير من العوامل دوراً في التباعد بين هذه المجتمعات غياب المعرفة الحقيقية عن كل منها. 

“إن العادات والتقاليد، إلى جانب غياب التعريف الصحيح بالمجتمعات في المناهج التعليمية، بالإضافة إلى الدين والنزعة القومية، جملة العوامل التي شكّلت طبيعة العلاقة بين مجتمعات شمال شرقي سوريا.” يقول جالينوس عيسى الأستاذ في كلية هندسة الحاسوب بجامعة روجآفا (التابعة للإدارة الذاتية)، والمنحدر من مدينة قامشلي في وصفه لأهم أسباب التباعد بين مجتمعات المنطقة.

ويضيف جالينوس أن العلاقات التي تربط بين مجتمعات المنطقة لم ترقَ إلى المستوى الذي يمكن من خلاله بناء مجتمع ديمقراطي وناضج ويُحتذى به، كما هو الحال في الكثير من الدول التي تمكنت من تنفيذ العدالة الاجتماعية، وتمكّنت من استثمار التنوّع بين أفرادها للوصول إلى مجتمعٍ نامٍ. 

“هناك الكثير من الصور النمطية المنتشرة حول مجتمعات المنطقة، أدّت إلى حدوث تفكك حقيقي في العلاقات التي تربطها بعضها ببعض.” تقول كوهار خجادوريان الرئيسة المشتركة لـ “المجلس الاجتماعي الأرمني في القامشلي”.

عوامل عديدة ساهمت في انتشار الصور النمطية حول مجتمعات المنطقة

“أبلغ من العمر 22 عاماً، وحتى الآن لا تربطني علاقة صداقة أو معرفة بأحد من المجتمع السرياني أو الأيزيدي، ويمكنني القول أنني لا أعلم عنهم شيئاً،” تقول كليستان محمود المقيمة في أحد أرياف مدينة ديريك/المالكية، وتضيف أن لديها الرغبة الشديدة للتعرف على ثقافات المجتمعات المحيطة بها، وبناء علاقات اجتماعية مع أفرادها، مؤكّدة أن هدفها الرئيسي من هذه الرغبة هو إزالة الكثير من الصور النمطية المرسّخة لدى عائلتها والوسط الاجتماعي المحيط بها. 

التماسك المجتمعي الى أين؟

إن الحكومات المتعاقبة فرضت ثقافات وأيديولوجيات معيّنة، نبعت غالبيتها من الإقصاء، لذا فإن المجتمعات المختلفة المتعايشة في منطقة واحدة، لم تتمكن من التسلح بمفاهيم السلم والتعاون، بل تُرجِم الأمر إلى سلامٍ سلبي، بحسب ما يراه الباحث الأكاديمي فريد سعدون، واصفاً النزاعات بين هذه المجتمعات بـ “نار تحت الرماد”. 

لقد أدى انعزال المجتمعات وتقوقعها على نفسها، إلى خلق الكثير من الصور النمطية حولها، ورغم صحّة البعض منها لفترة زمنية محددة وتغيّرها بمرور الزمن، إلا أنها راسخة في أذهان سكّان/ساكنات المنطقة.

وذلك ما توضّحه كوهار في حديثها عن أبرز الصور النمطية التي لا زالت مأخوذة عن المجتمع الأرمني بأنه لا يسمح بالاختلاط مع باقي المجتمعات في المنطقة، وتؤكّد أن هذا الرأي قد يكون صحيحاً في الفترة التي تعرّض فيها الأرمن لـ “مذابح وإبادات جماعية” أفقدته الثقة بالمجتمعات المحيطة به، لكن في الوقت الحالي، لم يبقَ الوضع كما هو.

بل بدأ الأرمن بالاختلاط والانفتاح على الآخر المختلف، الأمر الذي يستدعي بذل الجهود نحو إزالة مختلف الصور النمطية بحق مجتمعات المنطقة. 

وفي سياقٍ متصل، نفّذت منظمة نيكستيب مشروعاً عام 2022 بعنوان “خلّونا نتعرّف” وقد أظهرت نتائج هذا المشروع أن الكثير من الصور النمطية لا زالت منتشرة وتؤثّر على طبيعة العلاقة بين مجتمعات المنطقة، حيث أوضحت نتائج عدّة جلسات حوارية عقدتها المنظمة ضمن المشروع، أن أكثر العوامل المسببة لنشوء هذه الصور النمطية هي: سياسات الحكومات المتعاقبة لتنفيذ أجنداتها، إلى جانب المناهج التعليمية التي انتهجت تفضي مجتمع على آخر، بالإضافة إلى غياب دور فاعل لمنظمات المجتمع المدني، وأخيراً الخلط، في كثير من الأحيان، بين الدين والقومية الذي شكّل جداراً منيعاً بين مجتمعات المنطقة.

“في مدننا، يلتصق منزل الأيزيدي بمنزل السرياني، أو منزل العربي بمنزل الكردي، ويلعب أطفالهم معاً دون تفكير بهذا الاختلاف، إلا أن التربية المنزلية تجعلهم يبتعدون عن بعضهم نتيجة ترسيخ الأفكار الخاطئة لديهم،” يقول سيبان سلو من ساكني مدينة تربه سبيه/القحطانية، ويشير إلى أن زراعة الصور النمطية وتبادلها بين الأجيال المتعاقبة تبدأ من المنزل الذي يعتبر اللبنة الأولى لبناء التفكير لدى الأطفال والطفلات، لذا فإن إزالتها أيضاً يجب أن يبدأ من المنزل، حتى يتم الوصول إلى جيلٍ يحترم الاختلاف والتنوع، ويحتفي به. 

جهدٌ كبير لإيصال المجتمع لسلامٍ مستدام 

تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً كبيراً في تعزيز التقارب بين المجتمعات المتنوعة، وذلك من خلال الترويج لمفاهيم التقارب الاجتماعي، وتنظيم المجتمعات، وتعزيز التواصل إلى جانب المشاركة في كافة الفعاليات المحلية وصولاً إلى المشاركة في صنع القرار.

بحسب ما يوضّحه جمعة خزيم مدير مركز آسو للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، (وهي مؤسسة تُعنى بإجراء البحوث في الشرق الأوسط، وخاصة سوريا والعراق، وتقدّم مساهمات في مجال الاستشارات والدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والأمنية والتدريب الإداري).

ويؤكّد جمعة إنه لا بد من مراجعة انتشار الظواهر السلبية التي تسيء إلى العلاقات الاجتماعية، والاهتمام بالقيم المجتمعية، ونبذ خطاب الكراهية، والعمل على تشجيع خطاب اللا عنف، بهدف تعزيز السلام المجتمعي. 

من جهته، يؤكّد جالينوس أنه ينبغي على منظمات المجتمع المدني بتوفير مساحات الالتقاء بين أفراد المجتمعات المختلفة، إلى جانب ضرورة القيام بالأبحاث والدراسات التي من شأنها تقديم التحليل المعمق لجذور المشكلة في طبيعة العلاقات الحالية بين هذه المجتمعات، الأمر الذي سيسهّل مهمة إيجاد الحلول الجذرية. 

وعن دور الإعلام، تقول ماريا حنا الإدارية في مؤسسة سورويو الإعلامية ( وهي مؤسسة إعلام سريانية تضم ضمنها ثلاثة فروع، التلفاز، الإذاعة، ووكالة أنباء، وتبث محتواها باللغتين السريانية والعربية)، إن الإعلام في شمال شرقي سوريا لايزال بعيداً عن إنتاج المحتوى الذي من شأنه تسليط الضوء على ثقافات المنطقة ومجتمعاتها المتنوعة.

“في بداية نشاط العمل الإعلامي بعد العام 2011، كانت أعياد ومناسبات المجتمعات مادة دسمة للإعلام، لكنها تحوّلت لاحقاً لتغطية نمطية لا تأثير لها،” يقول الصحفي آختين أسعد، الذي يشير إلى أن الإعلام لم يتعمّق في تسليط الضوء على العلاقات السابقة التي كانت تجمع بين المجتمعات المختلفة التي لطالما تشاركت الزراعة والتجارة ومختلف قطاعات الحياة. 

ويؤكّد آختين أن تمتين أواصر العلاقة بين المجتمعات هي من مهام السلطات الحاكمة ومنظمات المجتمع المدني بشكلٍ رئيسي، حيث يتوجب على الأخيرة القيام بمشاريع حقيقية على أرض الواقع لتسهم في تحقيق التقارب الفعلي والتحاور بين أفراد هذه المجتمعات، أما الإعلام فهو المكمّل لتعزيز هذا التماسك عبر إنتاج محتوى يوضّح أهمية السلم الأهلي، وتسليط الضوء على قصص النجاح في هذا الصدد. 

“رجال الدين ذوو دور مهم في حث الناس على تقبّل الاختلاف، والترويج للخطاب الديني المعتدل،” تقول كوهار في وجهة نظرها لإيجاد الحلول لإزالة الصور النمطية، وتضيف أن التنشئة الأسرية أيضاً تلعب دوراً مهماً في تنشئة جيل قادم يحترم الاختلاف. 

ختاماً، يمكن القول إن الصور النمطية التي تتشكل بعوامل عدّة بدءاً من التنشئة الأسرية وصولاً إلى سياسات الحكومات، تلعب دوراً رئيسياً في طبيعة العلاقات بين المجتمعات المختلفة المتعايشة في ذات البقعة الجغرافية، لذا فإن إزالة هذه الصور هي مسؤولية يتشارك فيها العديد من الجهات ومن ضمنها المجتمع المحلي نفسه الذي يحتاج للوعي بالمخاطر التي تهدد التماسك المجتمعي فيما بينها، وكذلك وسائل الإعلام بأشكاله المختلفة، وليس آخراً القادة المجتمعيين الذين لهم دور كبير في التأثير على الرأي العام.

تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا