“في كل مرةٍ يتجه أطفالي إلى الحي بغرض اللعب، يقوم رفاقهم بطردهم ويلقبونهم بـ “الدواعش” ويعودون إليّ ببكاءٍ شديد،” تقول أم باسل (34 سنة) إحدى النساء العائدات من مخيم الهول في وصفها للحياة مع أطفالها بعد خروجها من المخيم.
دخلت أم باسل التي تزوجت من أحد عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى مخيم الهول في بداية العام 2019، وخرجت منه في العام 2020، تنحدر من مدينة دير الزور، لكنها نزحت إلى مدينة الرقة، لديها أربعة أطفال وأربع طفلات، وتعيش في منزلٍ “غير قابل للسكن” بحسب تعبيرها، حيث لا يوجد في هذا المنزل نوافذ وأبواب تقيها وأطفالها من درجات الحرارة المنخفضة أو المرتفعة.
“حين عدت من المخيم، لم تستقبلني عائلتي، والمجتمع يرفضني، وأعمل في المياومة بالزراعة، كما أنني أرسلت أطفالي للنبش في حاويات القمامة، حتى نؤمن لقمة عيشنا.”
تعاني النساء اللواتي خرجن من مخيم الهول، ممن تزوجن من عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” وصماً ورفضاً مجتمعياً، الأمر الذي يسبب حدوث مشاكل لتلك النسوة لا حصر لها، بدءاً من صعوبة إيجاد السكن وليس انتهاءً بعدم قبولهن في أية فرصة عمل.
ويؤوي مخيم الهول أكثر من 50 ألف شخص بحسب إحصائياتٍ تعود للأمم المتحدة، منهم/نّ 10 آلاف شخص من عائلات مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”، ويبعد المخيم ما يقارب من 40 كم شرقاً عن الحسكة.
أما أم قتيبة (36 سنة) فقد دخلت إلى المخيم في العام 2019، وخرجت منه في العام 2022، لتعود إلى مكان إقامتها في بلدة الشعفة بمدينة دير الزور، وفي توقعاتها أن زمن المعاناة قد انتهى، لكنها فوجئت بالنبذ من المجتمع المحيط بها، حتى صديقاتها لم يتقبلنها من جديد.
“بتّ أشعر بالازدراء تجاه من يحيط بي، ولا يؤلمني سوى عدم امتلاك أية ثبوتيات لأطفال، فقد كان زوجي سعودي الجنسية من عناصر التنظيم.”
وتحاول سعدة الثابت (30 سنة) والتي تقطن في دير الزور بعد أن خرجت من المخيم، أن تجد فرصة عمل لتعيل أطفالها وطفلاتها الأربع، لكن الوصم الاجتماعي الذي بدأ يلاحقها مذ خرجت من المخيم في العام 2023، يحيل دون نجاحها في ذلك، لذا فقد بدأت تتعلم مهنة الخياطة بمجهودٍ ذاتي، علّها تتمكن من خلال هذه المهنة أن تؤمّن قوت يومها، خاصةً أنها لم تحظَ بأي دعم سواءً أكان من قبل عائلتها أو عائلة زوجها.
نبذٌ مجتمعي وواقع اقتصادي رديء .. مهددات للتماسك المجتمعي
إن استمرار حالة عدم التقبّل المجتمعي للنساء العائدات من مخيم الهول، ينطوي على الكثير من النتائج السلبية، حيث يسبب الأمر أذىً نفسياً لهن، ونقل هذا الأذى إلى الأطفال والطفلات، ينذر بأن المجتمع أمام جيلٍ سينشئ على الكراهية، وذلك ما يمكن اعتباره أهم المهددات لحالة التماسك المجتمعي في شمال شرقي سوريا، بحسب ما توضحه الناشطة الاجتماعية والنسوية سمر شهابي من الطبقة.
“إن العمل على إعادة إدماج النساء العائدات من الهول يحتاج إلى خطة مدروسة بدقة، حتى نتجنب أي تدخل ضار في هذه القضية الحساسة مجتمعياً،” تقول سمر وتضيف أن هؤلاء النساء طاقات يجب العمل على تفعيلها، من خلال توفير فرص عمل لهن، الأمر الذي من شأنه أن يعيد بناء ثقتهن بأنفسهن، ويساهم في إزالة الصور النمطية التي تلاحقهن، التي باتت وصماً اجتماعياً قد ينتج عنه الكثير من النتائج غير المرجوة.
وفي ورقة بحثية أعدّتها منظمة IMPACT، وقابلت فيها 25 سيدة من العائدات من مخيم الهول، تبيّن أن 17 امرأة منهنّ يعشن مع أطفالهن وطفلاتهن دون وجود مصدر إعالة أو معيل ثابت، وبالتالي فإن محدودية فرص العمل للنساء، في ظل صعوبة الوضع الاقتصادي والمعيشي، يعتبران من أهم التحديات التي تحد من فعالية جهود إعادة الإدماج.
تعتبر حالة عدم التقبّل المجتمعي للنساء العائدات من الهول، ظاهرةً تخلق حالات نفسية وتلحق الضرر بهنّ، الأمر الذي سوف ينعكس على المجتمع سواءً أكان في المستقبل القريب أم البعيد، بحسب ما يوضحه عبد الصمد الحاج جاسم الباحث في الشؤون النفسية والاجتماعية من مدينة الرقة.
“تحميل النساء العائدات من الهول ذنب خراب المنطقة، وتعريضهن للإهانات، يولّد حقداً دفيناً لديهن، والمخيف في الأمر هو نقل هذا الحقد إلى الأطفال،” يقول عبد الصمد ويشير إلى أن خلق نظرة عدائية للمجتمع لدى أطفال وطفلات هؤلاء النساء، هو مؤشر لقدوم جيل مشحون بالحرمان والأذية، الأمر الذي يشكّل خطراً حقيقياً على حالة التماسك بين أفراد المجتمع في قادم الأيام.
جهودٌ يتم بذلها .. لكنها تحتاج للمزيد من التكاتف
في أواخر العام 2021، بادرت منظمة “شباب أوكسجين” (وهي منظمة مجتمع مدني محلية غير حكومية وغير ربحية ومركزها الرئيسي مدينة الرقة، تنشط في عدة قطاعات كالسلم الأهلي، والمشاركة المجتمعية، والتماسك المجتمعي، والتنمية، ودعم الاستقرار، وسبل العيش)، إلى تشكيل لجنة باسم “حل النزاع” في الرقة وريفها، وتكوّنت في البداية من عشرة أشخاص، وذلك بهدف العمل على دمج النساء العائدات من الهول وأطفالهنّ وطفلاتهنّ مع المجتمع، وعملت اللجنة على توسيع فريق العمل ليتناسب مع الاحتياجات، بحسب ما أوضحه بشار الكراف المدير التنفيذي للمنظمة، ويشير إلى أن اللجنة تقوم بتقديم الدعم التمكيني للنساء العائدات من الهول، وذلك من خلال إخضاعهنّ لتدريباتٍ تساهم في بناء الثقة بينهن وبين المجتمع من جديد، بهدف تعزيز التماسك المجتمعي، وإزالة الصور النمطية بحقهنّ.
وخرجت 900 عائلة من مخيم الهول نحو مدينة الرقة، منذ بداية رحلات الخروج من المخيم، من بينها 90 عائلة قد خرجت في العام 2023، وفق إحصائية حصلت عليها نيكستوري من منظمة “شباب أوكسجين”.
ويضيف بشار أن صعوبات كثيرة تواجه هؤلاء النساء، يكمن أهمها في غياب الثبوتيات الشخصية، وخاصة للأطفال والطفلات من آباء مجهولي الجنسية أو من جنسيات غير سورية، إلى جانب صعوبة تأمين المأوى والمواد غير الغذائية، حيث تكون العائدات أمام خيارات محدودة، إما العيش في منازل عائلات مستضيفة وتحمّل ما يحمله الأمر من تبعات، أو العيش في مخيمات عشوائية، أو منازل غير قابلة للسكن، وذلك بسبب صعوبة تأمين أجرة المنازل.
ويُعتبر غياب فرص العمل والواقع الاقتصادي المتردّي الذي ينعكس سلباً على صحّة هذه العائلات، وعدم القدرة على إكمال التعليم أو البدء به من جديد سواءً أكان بسبب غياب الثبوتيات الشخصية أو عدم القدرة على تأمين تكاليف التعليم، وصعوبة تأمين كفيل/ة للحصول على بطاقة وافد/ة للعائلات النازحة من العائدات، جملةٌ من الصعوبات التي تواجه هؤلاء النساء، وسط الرفض المجتمعي الذي يعتبر أساس لغالبية هذه المشكلات، بحسب ما يوضحه بشار.
وسط هذا الرفض، تنمو بعض المبادرات التي من شأنها تخفيف العبء الذي تتحمله النساء العائدات من الهول، منها “مطبخ باب بغداد الخير” الذي أسسته ريم الخلف من مدينة الرقة وزوجها بمساندة أحد أطباء المدينة في العام 2021، والذي يهدف إلى تأمين الطعام للنساء المعيلات لعوائلهن، وقد كان للنساء العائدات من الهول، النصيب الأكبر مما ينتجه هذا المطبخ من طعام.
“بدأت فكرة تأسيس هذا المطبخ تراودني حين لاحظت زيادة عدد النساء العائدات من الهول، وشعرت حينها بأنني أحمل جزءاً من مسؤولية تحسين واقعهن وسط الصعوبات التي يعانين منها،” تقول ريم وتضيف أنها تمكّنت من تكوين علاقة صداقة مع الكثيرات منهنّ.
“كان هدفي الرئيسي من تكوين هذه الصداقات، أن أقوم بالتأثير عليهن، وأزيل بعض الأفكار السيئة التي قد يكنّ اكتسبنها خلال فترة عيشهن مع عناصر التنظيم، وحققت ذلك بالفعل.”
تقوم ريم بجمع التبرعات والمساعدات سواءً أكانت ملابس أو مستلزمات منزلية أو أدوية لهؤلاء النساء، وذلك بدعم من مبادرة مجتمعية مكونة من عدة أشخاص من المجتمع المحلي بالرقة، وتحمل هذه المبادرة اسم “صنائع المعروف”، وتروي بعضاً من المواقف التي حُفرت في ذاكرتها بعد أن بدأت بالتواصل معهن.
“إحدى هؤلاء النساء كانت على وشك أن تزوّج ابنتها الصغيرة لرجل يكبرها كثيراً في السن، لكنني تمكنت من إقناعها ألا تعيد الخطأ الذي ارتكبته عائلتها بحقها سابقاً،” كما تشرح ريم حالة بعض النساء وتصفها بـ “المأساة”، حيث قابلت امرأة من العائدات تعيش في منزلٍ دون سقف، وتتطاير الحشرات فوق وجبة طعام جمعت أطفالها حولها، لذا فقد ساعدتها في إيجاد شخص قام بتكفّل أيتامها، كما خضعت المرأة لتدريبات محو الأمية، وبدأت بتعليم أطفالها أيضاً.
التكاتف المجتمعي ودراسة دقيقة للسياق .. أبرز الحلول
تقول ريم إنه وفقاً لما شاهدته من حالات لنساء عدن من الهول وعشن تبعات الرفض المجتمعي لهن، فإن هذه الظاهرة بحاجة إلى حلول فعلية من قبل مختلف الجهات ذات الصلة، حيث يجب حمايتهن من الاستغلال والابتزاز، عدا عن حالات التحرش التي يتعرضن لها.
من جهته، يرى عبد الصمد أنه من الضروري أن تكون الدراسات دقيقة للسياق المجتمعي، لتُبنى عليها تدخلات سليمة وذات نفع، كما أنه يجب التركيز على رفع الوعي المجتمعي لكافة أطياف المجتمع بما تحمله هذه الظاهرة من خطورة على حالة التماسك المجتمعي.
والحل من وجهة نظر سمر يكمن في تعزيز دمج هؤلاء النساء في المجتمع من خلال توفير فرص العمل اللازمة لهن، بما يحقق اكتفاءاً ذاتياً لهن وللمجتمع، الأمر الذي سوف يساعد في بناء ثقتهن بأنفسهن، وقد تكون الخطوة الأولى نحو تحقيق التقبّل المجتمعي لهن.
إن الضغط نحو إيجاد ثبوتيات شخصية لأطفال وطفلات هؤلاء النساء، وإدماجهن في مشاريع سبل العيش، والتشبيك بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية لتغطية احتياجاتهن التمكينية والمادية، والعمل على رفع الوعي المجتمعي تجاه هذه القضية، من أبرز الحلول والتوصيات التي يجدها بشار قد تكون ناجعة في حل هذه المشكلة.
إن قضية الرفض المجتمعي للنساء العائدات من الهول، معقّدة بقدر حساسيتها، لذا فإنها تتطلب تضامناً وتفهماً وتكاتفاً بين مختلف الأطراف المجتمعية، ولا يمكن حل هذه المشكلة بتجاهلها، إنما بالحوار والتوعية والدعم النفسي والقانوني للمجتمع ككل وللنساء العائدات على وجه الخصوص.
تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا