المقدمة:
يمتاز الإنسان بأنّه كائن علائقي، ينمو نفسياً وعقلياً واجتماعياً من خلال تواصله وتفاعله مع المحيط الذي ولد فيه، ويتطلب هذا النمو الإنساني أن يكون هناك علاقات بين أفراد المجتمع الواحد بطريقة صحية توصل الإنسان إلى حياة آمنة ومستقرة.
من هنا نحتَ علماء الاجتماع مصطلح ” التماسك المجتمعي” كمفهوم يُعبّر عن العلاقات الإنسانية والترابط بين أفراد المجتمع المنسجم اجتماعياً ونفسياً.
وسأتكلم في هذا المقال عن أهمية التماسك المجتمعي وأبعاده المختلفة وبالأخص دور الأديان كعامل أساسي في ترابط المجتمع الشرقي، وأنهي حديثي باقتراحٍ يساهم الدين به بتعزيز التماسك المجتمعي بطريقة إيجابية.
مفهوم التماسك المجتمعي:
منذ ظهور المجتمعات الإنسانية بأشكالها البدائية وكان يرافقها الشعور بضرورة البقاء معاً والحفاظ على وجودها وحياتها ضد الأخطار المحيطة بها كجماعة واحدة.
وهذا ما نراه بدءاً من مجتمعات الصيد والرعي التي تعلم فيها الإنسان كيف يتعاضد ويتعاون مع أخيه الإنسان للحصول على المستلزمات الأساسية للحياة ن مروراً بالمجتمعات الزراعية التي اعتمدت بالدرجة الأساسية على تعاون الأفراد في الزراعة والحصول على الطعام وانتهاءً الى ما وصلت إليه المجتمعات المعاصرة والحديثة التي قامت على أساس فكرة توافق الأفراد على تكوين الدولة والنظام السياسي، وكذلك التوافق على ممارسة الطقوس والأديان وتشريع القوانين وسيادة القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تمثل بمجموعها عوامل جاذبة للتماسك فيما بينهم.
وهذا يدعونا للقولِ بأن أية مجتمعات إنسانية لكي تقوم وتُبنى على أساسٍ حضاري ومستقر، عليها أن تترافق مع عملية توازن المكونات الاجتماعية المختلفة في سياقٍ من التوافق بين الأفراد والتضامن أو التآزر أو التعاون مع بعضهم البعض وهو ما نُسميه “بالتماسك المجتمعي” الذي يُمثل أساساً من عوامل قيام هذه المجتمعات البشرية.
وأهمية البحث في دراسة التماسك المجتمعي انطلاقاً من علم الاجتماع والعلوم الإنسانية والنفسية، ينبع من خلال عملية التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وهذا التفاعل يكون إيجابياً فيعزز التماسك المجتمعي، أو قد يكون سلبياً فيؤثر على التماسك المجتمعي.
لهذا فإن عملية التماسك المجتمعي تمثل جانباً مهماً من الحياة الاجتماعية لأي مجتمع من المجتمعات، كونها تنطلق من المجتمع ذاته من خلال التفاعل الإيجابي بين أفراده وتوافقهم على قواعد سلوك معينة تفرضها البيئة الاجتماعية بفعل عوامل عدة، وأبرزها الدين والعادات، والقيم، والتقاليد، ومعطيات الثقافة، التي تتفق مع ثقافة المجتمع بصورة عامة.
مقومات التماسك المجتمعي:
مما لاشك فيه أنَّ التماسك المجتمعي لا يتحقق إلَّا بوجود عدة مقومات، من خلال توفرها على أرض الواقع يصل التماسك المجتمعي إلى أعلى مستوياته ، وهذه المقومات أنَّما تَبرز من خلال تفاعل أفراد المجتمع فيما بينهم بالشكل الذي يضمن ديمومة المجتمع واستقراره.
وكما أنَّ هذا الاستقرار من شأنِه أن يقودَ الى مستويات من النشاط لدى الأفراد ودفع عجلة التنمية في مجالات عدة نحو الأفضل، ومن هذه المقومات:
الأهداف المشتركة:
إن المصالح والأهداف المشتركة هي الأساس لبناء المجتمعات وتماسكها، وأن الأفراد الإيمان الكامل بأهداف المجتمع لأنها تحقق مصالحهم جميعاً.
وإن هذه الأهداف يجب أن تنبع من حاجات حقيقية للأفراد أو أنها تعالج مشكلاتهم داخل المجتمع. مثل مشكلات الاضطهاد والتهميش ومظاهر الانحرافات السلوكية، أو نقص الخدمات الأساسية للمجتمع.
ولتحقيق مصالح الأفراد وأهدافهم يجب أن يشترك الجميع في رسم وتحديد هذه الأهداف حتى لا تتحول إلى عامل للصراع والتفكك.
الدين:
يعتبر الدين من أهم آليات تحقيق التماسك المجتمعي ويتولى بامتياز إشباع حاجة المجتمع إلى التماسك المجتمعي. هناك تطابقاً أو تماهياً متبادلاً بين الدين والمجتمع.
والكثيرون يعتبرون المعتقد الديني جزء من الموروث الحضاري والثقافي لأية أمة، ويُسهم بشكل كبير في تشكيل القيم، والعادات، والتقاليد في المجتمعات. وفي المجتمع الشرقي لعب الدين دوراً مهماً في تشكيل الشخصية المشرقية ولاسيما الدين الإسلامي الذي كان مصدراً للفخر والاعتزاز.
وإنَّ المشاركة في الأنشطة المقدسة كالطقوس والحفلات الدينية شكلت وظيفة اجتماعية أساسية للدين تتمثل في انها منحت المشاركين هيبة خاصة، وهي وحدت بين الأفراد، وحققت فيما بينهم نوعاً من التكامل.
منظومة القيم والمعايير والثقافة:
من المتغيرات المهمة والجوهرية في جميع الثقافات، منظومة القيم والأفكار التي تُحدّد ما هو مهم ومحبذ ومرغوب، وما هو غير مرغوب وضار من سلوكيات في المجتمع، وإنَّ هذه المجموعة من الأفكار والسمات الثقافية والقيميَّة تُـضفي معنى محدداً وتوجه الأفراد من خلال مؤشرات إرشادية لتفاعلهم مع المحيط الاجتماعي.
المواطنة:
المواطنة هي الإطار الجامع لتفاعل المواطن مع وطنه، وعلاقة المواطنين فيما بينهم ضمن الدائرة الوطنية للدولة المحددة في جغرافيتها السياسية ومركزها القانوني وطبيعتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالمواطنة ليست ولاءً عاطفياً وانتماءً للوطن فحسب، بل هو انتظام عام له محدداته وأبعاده في حياة الناس الذين ينتمون الى المجتمع بعينه، وهذه المحددات هي المساواة والحرية والهوية والعدالة. وهذه المحددات هي التي تمنح المواطنة معناها الحقيقي، ويخرج المواطن من حالته السلبية المجردة وتتضح حقوقه وواجباته.
وتعتبر الحرية المبدأ الأساسي للمواطن حيث ينعم المواطن بكل الحقوق التي يبلورها ويمنحها نظام الحرية الواقع الاجتماعي النشط.
العدالة الاجتماعية:
مفهوم العدالة الاجتماعية هو الحق في تكافؤ الفرص، ومنع استغلال وتقدير عمل الفرد تقديراً صحيحاً، وإشباع حاجاته الطبيعية والاجتماعية باعتدال بدون اخلال حق الآخرين، ولا يعتدي على شؤون الجماعة ولا يمس القيم العامة في احترام شؤون المجتمع والتقيد بالصالح العام.
وترتبط العدالة الاجتماعية بشكل أساسي بالأخلاق، وكذلك ترتبط بالتنمية الاجتماعية والاستفادة من موارد المجتمع واستثمارها بشكل صحيح وإيجاد تنمية مستدامة تساهم في القضاء على البطالة وتحقيق رفاهية اجتماعية ومحاربة الفقر.
3- الخاتمة:
أودُّ في ختام مقالي أن أتلمس بعض النقاط التي تُحقّق التماسك المجتمعي في مجتمعاتنا الشرقية، وإيضاح ما هي الأدوات التي يجب أن نشدّد عليها وخاصة دور الأديان في تعزيز التماسك المجتمعي على أرض الواقع.
علينا أولاً الاعتراف بأنَّ البعد الديني في مجتمعاتنا الشرقية له مكان مؤثر في العلاقات الإنسانية، وهنا يبرز تحدّي كبير يأتي من التنوع الديني والثقافي والإثني والقومي والطائفي والعشائري لمجتمعاتنا. وكل هذا التنوع يدعونا لتعزيز التماسك المجتمعي للحفاظ على هذا التنوع والغنى منه، بعيداً عن الصراعات والحروب والنزاعات المدمرة لحياة الفرد في محيطه الإنساني.
وأتوقف قليلاً لتسليط الضوء على سببٍ من مجمل الأسباب التي تُعيق بل تُدمر التماسك المجتمعي وهو العقل الشرقي. فواقعنا الشرقي المعاصر يمتاز بتشديده على هويته. الهوية العربية تُجاه الهوية الأخرى، كذلك تُجاه الهُويات والانتماءات الإقليمية والقوميات المختلفة والأنظمة السياسية والديانات والمذاهب والطوائف. فهمُّنا الشرقي يبدأ بالهوية وينتهي بها، ساعياً وراء جذب هوية الآخر أو استبعادها، عندما يواجهها، بدلاً من التعرف إليها والاعتراف بها فيستوعبها ويعتني بها.
إنَّ هذه العقلية تُعبر عن الاكتفاء الذاتي لا بل التقوقع على الذات وانغلاق الهُوية على نفسها وتشنجها وتمسكها بذاتها من دون انفتاحها على الأخر المختلف. ولهذا لا نستغرب من مشاهدة جميع ألوان التعصب على الساحة الطائفية والسياسية الناجمة عن هذا الوضع. فإنَّ الواقع الشرقي يدور حول المماثل والشبيه والمطابق، لا حول الاختلاف والجديد والتجديد. وفي النهاية الأمر إنَّ ميلنا الشرقي هو الحذر مما هو جديد، بل رفضه وأحياناً محاربته، لأنَّه مختلف لا مُماثل. وهذا ما نراه ونسمعه بالخطاب الديني الشرقي الذي يرفض التعددية الخطابية ويكتفي بخطاب أحادي النمط ويعبر عن الهُوية، ويحافظ عليها ويدافع عنها، لأنها تمنح الأمان واليقين والاستمرارية والديمومة.
أخيراً وأمام هذا التحدي، كيف تساهم الأديان وخاصة (الإسلامية، والمسيحية) في تعزيز التماسك المجتمعي في مجتمعاتنا الشرقية.
ومن الأهمية بمكان أن نعود إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني ليعزز الترابط المجتمعي في مجتمعنا الشرقي من خلال الاعتراف بالغيرية أي الآخر المختلف عني وينفتح عليه ويثق به، بدون خوف وعدم الاكتفاء الذاتي المتزايد والنرجسية المتضخمة والتقوقع على الذات، مما يفضي بها إلى موت الذات، بل إلى قتل الآخر المختلف وتدمر المجتمع وزعزعته وانهياره، في حين أن الأديان جاءت للحفاظ على حياة الإنسان ونموّه الإنساني وسط بيئة صحية ومجتمع معافى في علاقاته وتماسكه وأخذ دوره الحضاري مع الشعوب الأخرى.
تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا.