على قارعة الطريق وجوه بائسة مكفهرة تخفي وراءها معاناة وآلام، ورغم ذلك لا يعرفون/ن اليأس والاستسلام ويحبون/ن الحياة ما استطاعوا/ن إليها سبيلاً، لكل واحد/ة منهم/ن حكاية خاصة تحمل في ثناياها الأمل والوجع على حدٍّ سواء، حيث الظروف القاسية التي سرقتهم/نّ من طفولتهم/نّ وسارت بهم/نّ إلى وجهةٍ ليست بوجهتهم/نّ، والنزوح باتجاه المجهول، بات خيارهم/نّ الوحيد.
بالكاد يحاول التقاطَ بعض بقايا الطعام بيديه الشائبتين من تلك الحاوية التي تألَفها القطط بجانب منزل بهيّ بالقرب من الحديقةِ، مقتفياً المجهولَ في الشارع. أبواب المنازل باتت مغلقةً، يرتدي ثياباً واسعةً باليةً، حافي القدمين، شعرٌ طويلٌ بني يتهدَّل فوق حاجبيه، ولفرط جوعه يريد باستعجالٍ الحصولَ على لقمةِ طعامٍ تسُدُّ رمقه بعيداً عن أعين الناس – حيث الساعةُ لم تتجاوز الثانية ظهراً بعد – محدقاً في كل الزوايا من حوله وبات يردِّد وبنبرة صوت خفية بينه وبين نفسه، باحثاً بين تلك النفايات والتي مهما يكن مذاقها وطعمها فالجوع لامبالٍ بذلك: “إنَّني جائعٌ.. أريد شيئاً آكله.”
ماني طفلٌ عمره 10 أعوام من مدينة عفرين، لا يعرف كيف وصل به الحال إلى مدينة قامشلي، حيث فقد والدَيه أثناءَ الحربِ على منطقته عفرين ولم يبق له أحدٌ يرعاه.
كان نهاراً مظلماً قرّاً، والهدوء يعم كل أرجاء المدينة، لم يمض وقت طويل على بحث ماني عن لقمةٍ تخفِّف من جوعه حتى افترش الأرض دون وعي، وفي تلك اللحظة يسرع شاب ثلاثيني في السير نحوه كي يلتقطه من الأرض ويضعه في زاويةٍ على الرصيف مغطياً جسدَه الخَضِلِ بمعطفه الأسود.
ولبرهةٍ ليست بطويلة فتح ماني عينيه وبات يراقب ما حوله متكوِّراً على نفسه متسائلاً: “أين أنا؟”، فيسأله الشاب الثلاثيني: “ما اسمك؟”، يرد عليه بصوت مرتجف: “ماني”.
“وأين أهلك؟”، ساد السكون والصمت للحظاتٍ، ثم أمسك يده وبدؤوا بالمشي مسرعين من شدة البرد والطقس الحالك، وهما في طريقهما إلى بيت ذلك الشاب، فجأة ترك ماني يد الشاب وتوقف عن المشي سائلاً إياه: “إلى أين تأخذني؟”، أجابه: “إلى بيتي”، رفع ماني رأسه مبتسماً وعيناه مغرورقتان بالدموع.
ظل يمشي برفقته وأثناء سيرهما على الرصيف بات ماني يحدِّق كثيراً في الجهة اليسرى، وفجأةً يركض وعلى عجلةٍ إلى تلك الزاوية، حيث قطةٌ شقراء بعينين زرقاوتين، تلك القطة تشبه قطة ماني عندما كان في بيته وللوهلة الأولى عندما رآها، ظن أنها قطته فيقول بنبرةٍ شجيَّةٍ ومرتجفة، ملامساً بأطراف أصابعه جسد تلك القطة: “إنها قطتي.. إنها تشبه قطتي.. ولكن عندما ضرب الصاروخ بيتنا ماتت ولم أعد أراها.. فما ذنبها حتى يقتلوها؟”.
هي أشياءٌ صغيرة ولكنها تعني له الكثير، تعني له الأمان، والحب، والطفولة، علّه وجد في تلك اللحظة التي مسك بها يد الشاب ما كان يحلم به لسنينٍ بعد نزوحه وتهجيره من بيته، ولكن لا شيء يعادل حنان وحب الوالدين، فالظروف قد نالت منه وأبعدته عن أهله الذين التهمتهم الحرب، وكذلك عن أصدقائه الذين كانوا يدرسون ويلعبون معه حتى غروب الشمس فيقول بابتسامةٍ مكسورةٍ:”صديقي رام الكسلان والذي كان يضربني، اشتقت إليه، وفور عودتي سأرافقه ولن أغضب منه.”
يقول ماني وقلبه يئنُّ حنيناً وشوقاً لقلمه ودفتره المدرسي وحقيبته البنفسجية التي كان يحملها أثناء ذهابه إلى مدرسته، موِّدعاً أمه في كل مرةٍ، بقبلة صباحية بريئة: “منذ سنين وأنا لم أرَ المدرسة.. ولم أعد أذهب اليها، أريد أن أرتدي صدريتي المدرسية مثل قبل، وأرسم على السبورة،” متابعاً والابتسامة لا تفارق شفتيه الغضتين: “مدرستي في عفرين كانت جميلة جداً، عند عودتي إليها لن أتركها مرة أخرى، سأهتم بها كثيراً وأجلس على مقعدي البني المكسور ذاته.”
ليس مستغرَباً أن يعيش أطفالٌ/طفلاتٌ بعمر الزهور في شوارع هذه المدينة ضمن ظروف حالكة كهذه، حيث الحرب والتهجير وطبيعة الحياة الخشنة أجبرت طفولتهم/نّ الطاهرة والنقية على محاكاة واقعٍ ليس بواقعهم/نّ، وإبعادهم/نّ عن زينة وإيقاع ذاك العالم الطفولي الأغرّ.
“أنام على أرصفة الشوارع،” تقول تيريفا والبرد قد اعترى جسدها، ذات الشعر الأشعث، وملامح وجهها مكفهِرَّة أكثر من غيوم السماء في تلك الليلة الظلماء المطرية المثلجة، تبحث عن ملجأٍ يقيها البرد القارس محدِّقةً في نقطةٍ غير محددةٍ في السماء مُجْهَشةٌ بالبكاء: “أريد العودة إلى منزلي.. اشتقت لغرفتي الزهرية، لخزانتي.. للوحي الخشبي الذي كنت أرسم عليه دائماً بالطبشور.. ترى هل هو على حاله أم لا؟.”
تيريفا ذات الـ 9 أعوام من مدينة كوباني، نزوحها إلى بلدةٍ غير بلدتها الأم جعل بريق عينيها تائهاً بين ثنايا الحياة الجِلفة، ولم تكن بمنأىً عن مآسيها التي رُسِمَتْ في قلبها وعقلها والصعوبات التي واجهتها حين القصف والحرب.
تسير تيريفا ساهيةً في طريقها في ذلك الشارع المظلم وهي تحمل بيديها المنهكَتين كيساً بداخله علب المحارم التي تقوم ببيعها كل صباح، لتجني بعض المال يؤمِّن لها الطعام والشراب يومياً، ساندةً كتفها على حائط ذاك البناء الإسمنتي ومن شدة ما ناله الصقيع من أطراف أصابعها المنمَّلتين، جلستْ على غفلةٍ في زاوية إحدى الأزقة الضّيقة في تلك الحارة.
إيجاد منزل تسكنه بات كالحلم أو كطلب الحصول على قطرة ماء في صحراءٍ قاحلة تقول بتنهيدةٍ غارقةٍ بالألم والهُزال قد بدا على وجنتيها الورديتين الناعمتين: “ليتني كنت الآن مع أبي وأمي، لكنت فعلت ما كانا يطلبانه مني،” وبحزنٍ بادٍ عليها تعبِّر عن اشتياقها لهما: “أبي.. أمي أريد معانقتكم و تقبيلكم.”
لم تكن تيريفا كما كانت من قبل, فقساوة الحرمان وفقدانها لأهلها جعلتها في أسوأ حالاتها لدرجة أنها لم تعد تتذكر اسمها الحقيقي الذي كانت تُنادى به عندما كانت في بيتها فتقول والحزن واليأس يخيّمان على ملامحها الطفولية: “ينادونني باسم تيريفا بعد فقداني لأهلي وهروبي إلى هنا.. وهذا ليس اسمي الحقيقي.. فأنا أتذكَّر أنه كان لي اسم آخر ولكن غير قادرة على تذكُّره.”
ران كبقية الأطفال/الطفلات ممن نزحوا/ن من مدينتهم/نّ واستقروا/ين في مدينة قامشلي، خرجوا/ن إلى عالمٍ مغاير تماماً، حيث الجوع واليأس والمرض والاضطرابات النفسية والعنف، وغيرها الكثير من الصعوبات، بعد أن كانوا/كنّ يقطنون/نّ في ديارٍ كلها حب ودفء وطمأنينة مع ذويهم/نّ.
“عندما أعود سأركب درَّاجتي الهوائية التي تركتُها في فناء منزلنا، لا أعرف ما الذي حلَّ بها،” هكذا يقول ران ذات الإثني عشر عاماً بعفوية روحه الطفولية، محاولاً تذكره بعضاً من ذكريات طفولته وألعابه التي كان يلعب بها مع أخته الصغيرة لارا والتي تكبره بعام واحد فقط.
يعيش ران مع أمه وأخته الصغيرة في بيت مهدَّم في أحد الأحياء الشعبية في مدينة قامشلي فهو يخرج من بيته بعد الظهيرة بحثاً عن لقمة العيش، يقف عند إشارة المرور في أحد شوارع المدينة، يشحذ من المارة أو في بعض الأحيان من الجالسين/ات في الأماكن العامة فيقول بوجعٍ واستحياءٍ: “يجب أن أقوم بتأمين بعض الحاجات لأمي وأختي، ولكن أتعرض للمضايقات، فالقليل يتعاطف معي ونادراً ما يساعدونني والبعض الآخر يستهزئ بي.. لا أحد يقدِّم لنا المساعدة.”
يجلس ران على حواف إحدى الأرصفة وفي يديه دمية خشبية بسيطة ملفوفة بخيطٍ مهترئ قائلاً بحيرةٍ مرتسمةٍ على شفتيه: “قمت بصنع هذه اللعبة التي تشبه لعبة أختي التي تركَتْها في بيتنا، كي أرى نظرة السعادة مرةً أخرى في عينيها،” مردفاً وهو يمسح بيديه المرهَقتين على جبينه: “نحن الآن في بيت غير بيتنا، ولسنا بسعداء هنا، ليت هذه الحرب تنتهي ونعود إلى بيوتنا،” متابعاً بصوت مضطرب:”أمي دائماً تقول لي بأن الله شاهد على ما فعل بنا أولئك الوحوش وسيجازيهم على فعلتهم تلك، وسنرفع شكوانا لله فقط ونروي له ما حدث معنا.”
“رحلة نزوحنا من عفرين كانت بقالب ومشهد من أعمق ما يمكن للنفوس أن تفهمها، حيث الموت قبل أن يبلغ أجله، وكل شيء متبدل فالهواء ليس الهواء، والأرض ليست الأرض، حتى الروح ما بعد عفرين، تجردت وباتت مختلفة.. هرباً من ذاك الموت الذي ينادي هل من مزيد؟ تركنا بقاع أرض الزيتون نحو التيه في جغرافية أخرى.. أصبحنا غرباء والغريب يبقى غريب.. عبرنا الحدود جسداً والروح بقيت هناك لامحال”، هكذا تصف أم ران إحساسها وبقايا مشاعرها الخالية من أية روح.