“ورثتُ الزراعة عن أبي وجدي، وكانت مصدر دخلٍ لعائلتي المكوّنة من سبعة أشخاص؛ اليوم أقوم باستئجار أراضٍ زراعية وأتحمل أعباءً مادية كبيرة بعد أن جف نهر الخابور.” يقول عواد الجاسم (52 عاماً) من قرية جرمز التي تبعد 10 جنوباً عن بلدة الشدادي.
يعمل عوّاد مزارعاً مذ كان صغيراً، حيث كانت أرضه على سرير نهر الخابور، إلا أن انخفاض منسوب مياه النهر إلى أن وصل إلى الجفاف شبه التام، وتحوّله إلى أرضٍ قاحلة، دفعته إلى استئجار أرضٍ زراعية في مكانٍ آخر، متحمّلاً بذلك أعباءً مادية كبيرة، نتيجة الحاجة إلى حفر الآبار لاستخراج المياه، إلى جانب الحاجة للعديد من الآليات الأخرى حتى يتمكن من الزراعة.
يسير عوّاد بحسرة، وهو يستذكر سرير نهر الخابور الذي كان أرضاً خصبة للكثير من المزروعات، أما اليوم، فإنه يواجه صعوبةً في إيجاد البديل للتكاليف التي يتكبّدها ليتمكن من تأمين لقمة عيشه عبر استئجار الأراضي الزراعية، وقد تسببت التكاليف المرتفعة بتأخر ري الأرض، الأمر الذي أدى إلى إنتاج غير متناسب مع تلك التكاليف.
ويُعتبر نهر الخابور من أشهر وأهم الأنهار السورية، لما أقيم على جوانبه من تجمعات بشرية تدل عليها بقاياها التي تتخذ شكل تلال أثرية، وكان ينبع من عدة ينابيع في مدينة سري كانيه/رأس العين، من أهمها عين كبريت، وعين الحصان، وعين الزرقاء الشمالية، وعين الزرقاء الجنوبية وعين المالحة وعين الفوارة.
وبحسب تقريرٍ يعود لـ (The Water Diplomat) (وهي مجلة إخبارية وبحثية شهرية، متخصصة بنشر أخبار المياه من جميع أنحاء العالم)، فإن أكثر من 84 بلدة وقرية ريفية تفتقر إلى المياه للاستخدام المنزلي والزراعي الأساسي، ويقدر أن حياة وسبل عيش آلاف الأسر مهددة، وذلك بعد قطع تركيا للمياه عن نهر الخابور بعد اجتياح الفصائل الموالية لها لمدينة سري كانيه/رأس العين، بحسب التقرير نفسه، والذي صُدر في العام 2021.
وأوضح التقرير أنه مع تسجيل انخفاض بنسبة 70٪ في مستويات المياه في سوريا، تواجه المجتمعات التي تعتمد على نهر الخابور، الجوع والنزوح القسري ما لم تتم إزالة السدود ومناقشة الحلول المتعلقة بتدهور الموارد الطبيعية المرتبطة بتغير المناخ بسلام.
نهر الخابور بات أرضاً جافة بحاجة لحلولٍ مستدامة
يقطن عبد الله القرش (38 عام) في قرية الحميدية بريف بلدة الشدادي الجنوبي الشرقي، ويقول إنه كان معتاداً على زراعة أرضه بمحصولَيّ القمح والشعير، وهي التي تُعرف بأنها محاصيل شتوية، إلا أنه حاله كحال باقي المزارعين في المنطقة، فقد لجأ إلى زراعة الكمون الذي يتميز بعدم حاجته للمياه الوفيرة كما هو الحال بالنسبة للقمح والشعير.
لم يكن عبد الله من المزارعين الذين يعتمدون على نهر الخابور في الزراعة، حيث يعمل على زراعة أرضه في المنطقة البرية القريبة من قريته، إلا أن جفاف نهر الخابور أثر على زراعته بشكلٍ غير مباشر، حيث انتقل الكثير من المزارعين المتضررين من نهر الخابور، للزراعة في المنطقة البرية، وزادت عملية حفر الآبار مما أدى إلى نقص كمية المياه المتاحة للمزارعين في تلك المنطقة، الأمر الذي دفع بـ عبد الله لأن يقوم بتغيير المحاصيل التي اعتاد على زراعتها.
قبل أن يجف نهر الخابور إثر قطع المياه والتغيرات المناخية التي نتج عنها قلة الأمطار خلال السنوات الماضية، كانت تبلغ مساحة الأراضي المزروعة على سرير النهر ما يقارب من 50 ألف دونم، أما اليوم فإن المساحات المزروعة حالياً تقارب من ألف دونم، بحسب نسرين نجم الرئيسة المشتركة لمديرية الزراعة والري في الشدادي.
وتوضّح نسرين أنه قبل السنوات الثلاث الأخيرة، كان يتم إطلاق المياه عبر السد بين الحين والآخر، أما بعد ذلك، لم يعد هناك فائض للمياه، حيث لم يتم فتح باب السد لسنوات، للمحافظة على المنسوب اللازم للد والذي يصل لـ 80 مليون متر مكعّب حتى يتم الحفاظ على السد من التشققات، لذا فإنه ما من كميات مناسبة من المياه لإطلاقها عبر السد، الأمر الذي فاقم من حالة الجفاف في النهر.
وبحسب تقرير The Water Diplomat السابق ذكره، فإن العراقيل التي تمنع وصول المياه إلى مناطق شمال شرقي سوريا، تفيد الوكالات الإنسانية بأن أكثر من 12 مليون سوري/ة تأثروا/ن بهذا الوضع.
بعض الحلول للجفاف ممكنة… لكن لا تعيد المياه كما كانت
“استحالةٌ أن تعود الزراعة في المنطقة إلى ما كانت عليه في العقود الماضية، إلا أنه يمكن القيام ببعض الإجراءات للحفاظ على ما تبقّى من السكان والأشجار والبيئة الخاصة بسرير نهر الخابور.” بهذه الجملة بدأ الدكتور أسعد مجباس شيخو المدرّس في كلية الزراعة بجامعة الفرات بالحسكة حديثه عمّا يمكن فعله لتعويض الخسائر الناتجة عن جفاف نهر الخابور.
يقول أسعد أن تدفق نهر الخابور في سبعينيات القرن الماضي يقارب من 10 متر مكعب في الثانية، ويزيد أحياناً، وكان مصدراً جيداً لمحاصيل كثيرة منها القمح والأشجار المثمرة والقطن والخضار بكافة أنواعها بكثافة عالية، أما شرقي الحسكة إلى مصبها في نهر الفرات فكان مصدراً هاماً لاستقرار الفلاحين وزراعة القطن والخضار والقمح.
“إن التغيرات المناخية والجفاف السائد منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، أدت لتراجع كبير في الزراعة والبيئة النباتية وحتى الحيوانات، كمجموعة عوامل ما إن يتراجع أحدها حتى يختل التوازن البيئي في المنطقة.” يقول أسعد.
إن تطبيق أساليب الري الحديثة، ودعم أهالي المنطقة في هذه العملية أحد الحلول التي تشمل الري بالرذاذ والري بالتنقيط، للحفاظ على ما تبقّى من الأشجار المثمرة والحراجية، نظراً لأن الأشجار تُعتبر الحل الوحيد للحفاظ على المياه الجوفية، بحسب أسعد الذي يرى أن مساعدة العاملين/ات في القطاع الزراعي وتأمين المعدات والمواد اللازمة من أهم ما يجب فعله من قبل الجهات المعنية.
من جهته، يرى المهندس الزراعي سامي الدولان أنه يمكن البدء بزراعة المحاصيل التي تتحمل الجفاف، واستنباط أصناف من الخضار المقاومة للجفاف والتي تتحمل درجات الحرارة المرتفعة، إلى جانب الاعتماد على حفر الآبار لاستعادة حيوية نهر الخابور.
ومن الحلول الأخرى أيضاً، بحسب رأي أسعد هو دعم عملية حصاد المياه، حيث يفيض النهر أحياناً في فصليّ الربيع والشتاء، ويمكن بناء سدود محلية للحفاظ على المياه السطحية واستجرارها بشكل مقنّن، عبر تشكيل جمعيات المياه، ومنح كل مزارع كمية من المياه تتناسب مع مساحة محصوله الزراعي، كما يمكن اعتماد طريقة الري بالرشح التي تتناسب مع بيئة حوض الخابور.
فيما يتعلّق بأفضل الزراعات التي يمكن أن استثمارها في منطقة الخابور بحسب أسعد، فإنها الأشجار، وحوض الخابور بيئة ملائمة لزراعة أشجار العنب والمشمش والرمان والدراق، لذا فإن حصاد المياه وتقنين استجرار المياه عاملان مهمان للحفاظ على البيئة المحلية.
بحسب تقريرٍ يعود لـرابطة تآزر (هي مؤسسة غير حكومية، غير ربحية، تهدف إلى إنصاف ضحايا النزاع في سوريا)، فإنه وبينما كانت مصادر المياه المختلفة المتمثلة بالأنهار وأهمها الفرات والمياه الجوفية التي ترفدها الهطولات المطرية الموسمية، تغطي احتياجات ما يقدّر بـ 4,800,000 مستفيد/ة في شمال شرق سوريا، بينهم/نّ أكثر من مليون نازح/ة داخلي/ة، فإنّ الأزمة تُلقي بظلالها على ما لا يقلّ عن النصف بشكل مباشر، كما تُهدّد السلم الأهلي أيضاً، حيث أنّ شح الموارد المائية أدى إلى خلق نزاعات بين الأهالي على مصادر المياه وأولوية الوصول إليها.