المخدّرات.. ترِكة ثقيلة للحرب السورية وتنمو في شمال شرقها

لم يُكمِل عمار دراسته الجامعية رغم اجتهاده وتفوقه، نتيجةً لأزمةٍ صحية ألمّت به بعد أن تعاطى المواد المخدرة، وأدمنها، ولا يزال في رحلة علاجٍ طويلة وشاقة من تبعات المخدرات بعد تعافيه من الإدمان. الشاب العشريني من مدينة الرقة، اختار اسماً مستعاراً له، نظراً لتخوّفه من أن يلحق به وصماً اجتماعياً عند سرده لقصته مع إدمان المخدرات. 

“عُدتُ مسرعاً إلى الرقة من المحافظة التي كنت أدرس بها (تحفّظ عن ذكرها للخصوصية)، وذلك بعد أن سمعتُ نبأً مفجعاً.. وهو وفاة والدي، وبعد عودتي، تعرّفت على مجموعةٍ من الشباب الذين دفعوني لتعاطي المخدرات.” يقول عمار.

كانت تلك الصداقات التي كوّنها عمار سبباً لبدء تعاطيه المخدرات حتى وصل إلى مرحلة الإدمان، فقد كانوا يقدمّون له الحبوب المخدرة على أنها مهدّئة حين تجتاحه موجات الحزن والغضب على وفاة والده، دون أن يعلم ماهيتها.. إلى أن اعتادها، واكتشف لاحقاً أنه أدمنها، بحسب ما يقوله عمار. 

لم يعد عمار ليُكمِل دراسته، فقد أصبح مسؤولاً عن رعاية والدته وإخوته، وبدأ العمل في محلٍّ يعود لوالده حتى يؤمن تكاليف معيشة عائلته، وكل ذلك في ظل إدمانه للمخدرات، الأمر الذي فاقم التحديات التي واجهت العائلة وعمار معاً، فتقول والدة عمار (لم ترضَ الكشف عن اسمها)، إنها لاحظت شحوباً واضطرابات في السلوك لدى ابنها، حتى أنه فقد أكثر من نصف وزنه. “لم أتخيل يوماً أن يصبح أحد أولادي مدمناً للمخدرات؛ لقد كنت على وشك أن أفقده.” تقول والدة عمار. 

وبحسب تقرير المخدرات العالمي للعام 2023 الصادر عن الأمم المتحدة، فإن الفئة الشابة هي الفئة الأكثر عرضة لتعاطي المخدرات، في حين أنه لا يزال الطلب على علاج تعاطي المخدرات أو اضطرابات المخدرات غير ملبّي إلى حدٍّ كبير ولا تزال هناك تفاوتات في الحصول عليه.

المخدرات تشق طريقها إلى من يعانون/ين تفككاً عائلياً 

نشأ سليمان (اسم مستعار لشاب عشريني من الرقة) في عائلةٍ لم يسبق أن عاشت يوماً هادئاً دون خلافٍ أو نزاع، حتى انفصل والداه حين كان في الثالثة من عمره، ليجد نفسه في سوق العمل حين بلغ العاشرة من عمره، يصف نفسه بـ “بيئة خصبة” للبعض من مروّجي المخدرات. 

“كانوا يرددون على مسامعي أنه مَن لا يتعاطى (إتش بوز) ليس رجلاً، كنت يافعاً وتأثرت بحديثهم، لذا بدأت بتعاطيه لأثبت لهم بأنني رجل.” يقول سليمان. 

يرى سليمان أن افتقاده لعائلةٍ تحتضنه كان من أبرز الأسباب التي دفعته إلى اللجوء لأشخاصٍ تسببوا بإدمانه للمخدرات، وقد دفع ضريبة الأمر بأن استمر التداوي من الإدمان لسنوات، إلى أن تمكّن من السفر إلى خارج البلاد ليبدأ حياةً جديدة خالية من المواد المخدّرة. 

المخدرات تشق طريقها إلى من يعانون/ين تفككاً عائلياً – الصورة من الإنترنت

أما عمار فلم تكن رحلة علاجه من الإدمان سهلةً البتّة، فقد تعافى من الإدمان، إلا أن المضاعفات الصحية لم تفارق جسده، فقد بدأ يعاني العديد من الآلام التي لا يزال يتعالج منها حتى الآن. 

إن انتشار المخدرات أحد النتائج التي تخلّفها تبعات الحرب التي تمتد لسنواتٍ طويلة، بحسب ما يراه الاستشاري النفسي عبد الفتاح حميدي، على اعتبارها ثاني أكبر تجارة في العالم بسبب الحروب، ومن أهم الدوافع وراء اللجوء لها هي وجود اكتئاب أو اضطرابات نفسية أو عقلية جرّاء الحروب، كما أن مروّجي/ات المخدرات يستثمرون/ن نتائج الحرب للترويج لهذا المواد على أنها السبيل للتخلص من الضغوط النفسية، بحسب عبد الفتاح. 

أطلقت مجموعةً من أهالي مدينة الرقة مؤخّراً في العام 2024، مبادرةً تحمل اسم “صحتك بالدنيا” بدعمٍ من منظمة “نيكستيب” في إطار مشروعها “معاً أقوى”، وذلك بعد مسحٍ ميداني أجراه فريق المبادرة للبحث عن أهم المشكلات التي يعاني منها أهل المدينة ليتبيّن أن انتشار المخدرات من أبرز المشكلات المجتمعية التي أفرزتها الحرب السورية، في ظل غياب فرص الرعاية الصحية لمدمني/ات المواد المخدّرة في المدينة، بحسب حسين الحسين، المشرف الميداني للمبادرة. 

“إن غياب فرص العمل، والتفكك الأسري، وغياب الجهود لتحسين المستوى المعيشي في المنطقة، إلى جانب حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني من أبرز التحديات التي ساهمت في انتشار المخدرات في المدينة،” يقول حسين حول أهم التحديات التي ذُكرت في الأنشطة الحوارية ضمن المبادرة. 

مكافحة المخدرات وتأمين الرعاية الصحية من الأولويات للعمل عليها

وفقا للتقرير العالمي عن المخدرات الصادر عن مكتب الأمم المتحدة  المعني بالمخدرات والجريمة في العام 2019، فإن 35 مليون شخص في العالم يعانون/ين من اضطراب تعاطي المخدرات ويحتاجون/يحتجن إلى العلاج، وهي نسبة ليست بالقليلة مما يشير إلى ضرورة العلاج المبكر لمدمني/ات المخدرات ومعالجة هذه الآفة الاجتماعية.

ويرى الاستشاري النفسي عبد الفتاح أن المخدرات تبدأ في بيئةٍ ضيّقة لتنتهي بمكشلاتٍ مجتمعية، حيث يشعر/تشعر المتعاطي/ة بسعادةٍ مؤقتة تدفعه/ها لبذل أي جهدٍ كان أو التورط في أي أمرٍ كان لتأمين ثمن الجرعة القادمة، وذلك ما عايشه عمار في رحلة الإدمان، حيث كان يقوم بدفع مبلغ  750 ألف ليرة سورية (50 دولار أمريكي)، في حين أن مردود المحل الذي استلم العمل فيه لم يتجاوز 250 ألف ليرة سورية ( 16 دولار أمريكي)، الأمر الذي تسبّب بفقدانه لمصدر دخله وعائلته، ما دفعه للاعتراف لوالدته التي ساهمت في بدء ولدها بالعلاج والتعافي من الإدمان. 

وذكر مصدر أمني مطّلع رفض ذكر اسمه أن ثلاث حالات أو أكثر يومياً من الجرائم المتنوعة يكون سببها غير المباشر هو تعاطي المخدّرات. 

وانطلاقاً من مخاطر انتشار المخدرات، يرى عبد الفتاح أن الحاجة ملحّة للتنسيق بين المجتمع والسلطة المحلية لمكافحة هذه الآفة، وذلك من خلال القضاء على مسببات التعاطي وإنزال أقصى العقوبات على مروّجي/ات المخدرات، والعمل على تأسيس المراكز الصحية لتقديم الرعاية الصحية لمدمني/ات هذه المواد. 

من جهتها، توضّح تماضر العبد الله عضوة في مبادرة “صحتك بالدنيا” أنهم/نّ نفّذوا/ن عدة جلسات حوارية ضمن المبادرة للوصول إلى أهم مسببات انتشار المخدّرات وأهم التوصيات التي يمكن البناء عليها للوصول إلى حلول لمكافحة هذا الانتشار المتزايد للمخدرات. 

ومن أهم التوصيات التي خرجت عن هذه الجلسات هي ضرورة تأسيس مصح يقدّم العلاج بشكل مجّاني لمدمني/ات المخدرات في مدينة الرقة، إلى جانب زيادة فرص العمل وخاصةً للفئة الشابة، بالإضافة إلى ضرورة العمل على رفع الوعي لدى الفئة الشابة الأكثر عرضة للإدمان حول مخاطره، وزيادة التنسيق بين السلطة ومنظمات المجتمع المدني، وتسليط الضوء على هذه القضية إعلامياً، ورفع اأي نوع من الحصانة عن المروّجين/ات، بحسب تماضر. 

“الفئة الشابة تحتاج إلى فسحة للترفيه، وتعزيز أدوراهم/نّ في المجتمع، وربط المناطق الجغرافية ببعضها لتبادل الخبرات والأفكار والمشاريع بين هذه الفئة، من أهم السبل لمواجهة انتشار المخدرات.” تقول تماضر.