نيكستوري – عليا محمد
عند مصادفته لأي طفلٍ يعمل في مكانٍ ما، يستعيد محمد (اسم مستعار لشاب عشريني من مدينة حسكة) شريط الذاكرة لِما عاشه من معاناة في طفولته، حيث بدأ العمل في سنٍّ مبكّرة لم يتجاوز فيها (12) عاماً، في مطعمٍ وسط مدينة الحسكة، وذلك بهدف تأمين مصاريف استكماله للتحصيل العلمي؛ ذلك ما لم تتمكن عائلته من تأمينه.
يسرد محمد تفاصيل تلك المعاناة لـ نيكستوري قائلاً “كان عملي يبدأ في الثالثة عصراً وينتهي عند الثالثة صباحاً، أذكر أنني أخطأت كثيراً في التعرّف على الطريق المؤدي للمنزل، عند العودة في ذلك الوقت المتأخر من الليل وأنا أقود دراجتي الهوائية”.
لم تقتصر معاناة محمد على التعب الجسدي وحسب، بل تعدّى ذلك إلى الأذى النفسي الذي لازمَه حتى بعد بلوغ سن الرشد، فقد كان يتعرّض للاستغلال والتوبيخ بشكلٍ مستمر، نظراً لصغر سنّه، كما وجّه إليه صاحب العمل تنبيهات متكررة كي لا يقوم بذِكْر سنّه الحقيقي، كي لا يتعرّض لأية مساءلة بسبب القوانين التي تمنع تشغيل القُصَّر.
“غالبية الأطفال ممن ينخرطون في العمل ويتعرّضون لسوء المعاملة سواءً أكان من صاحب العمل أم من الموظفين، أو حتى الزبائن، يتولّد لديهم الشعور بالاضطهاد، وأنهم مستهدفون بشكل مباشر من قِبل الآخرين، الأمر الذي يتسبب بشعورهم بالدونية والنقص، وفقدان الأمان في مجتمعاتهم التي ينتمون إليها”، يقول المعالج النفسي نصّار حسين، عن التأثير النفسي لعمالة الأطفال والطفلات.
أطفال/طفلات يعملون/ن في ظروف سيئة دون رقابة
بحسب الأمم المتّحدة، فإن الأطفال والطفلات في جميع أنحاء العالم، يلتحقون/ن بأشكالٍ مختلفة من العمل، سواء كانت مقابل أجرٍ أو بدونه، والتي لا يترتّب عليهم/نّ أي ضرر منها، وتصنّف تلك الأعمال ضمن مفهوم “عمالة الأطفال” إن كان أولئك الأطفال والطفلات أصغر وأضعف من أن يمارسوا/ن تلك الأعمال، أو عند مشاركتهم/ن في أنشطة قد تعرّض نموّهم/نّ البدني أو العقلي أو الاجتماعي أو التعليمي للخطر.
وفي البلدان الأقل نموّاً، ووفق الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة في العام 2020، ي/تلتحق طفل/ة من بين كل (4) أطفال/طفلات في أعمالٍ مضرّة بالصحة والنمو، حيث توضّح الإحصائية، أن طفلاً/ة من بين كل (10) أطفال/طفلات، ممن هم/ن في الخامسة من عمرهم/نّ، انخرطوا/ن في عمالة الأطفال/الطفلات في جميع أنحاء العالم، أي بما يصل إلى (160) مليون طفل/ة، بينهم/ن (63) مليون فتاة و(97) مليون فتى.
وعلى الرغم من المحاولات، لم تتمكن نيكستوري من الحصول على أيّة إحصائيات رسمية على مستوى شمال شرقي سوريا، توضّح نسب انخراط الأطفال والطفلات في العمل.
أمّا عبير (اسم مستعار لسيّدة ثلاثينية من مدينة ديريك/المالكية)، ففي الرابعة عشرة من عمرها، كانت تتوجّه، وصديقاتها للعمل في فِلاحة الأراضي الزراعية، وذلك لتساعد العائلة في تأمين مصاريفها، وتشارك عبير مع نيكستوري تفاصيل رحلة العمل المُتعِبة في طفولتها:
“كنت أعمل في ظروف سيّئة جداً، فقد كانت درجات الحرارة مرتفعة جداً في موسم الفِلاحة، وأُصِبتُ بالتسمم والغثيان مرّات عديدة، وكثيراً ما شعرتُ بالإرهاق والتعب الشديدَين، وذلك لأنني لم أكن أتمكّن من الحصول على قِسطٍ من الراحة، خوفاً من الحيوانات المنتشرة في الأراضي الزراعية، من ثعابينَ وغيرها”.
وتستكمل عبير قصّتها “لم يسبق أن انتابني أية مشاعر جميلة في العمل، فقد كنت أرى بعض الأطفال يلعبون، وآخرون يتجولون في الأسواق بملابس أنيقة؛ كان الأمر يزعجني عند مقارنة نفسي بهم، وسألت نفسي مراراً: لِمَ عليّ التوجّه للعمل وهم لا يفعلون الأمر نفسه؟”.
طفولةٌ غير مكتملة وأجسادٌ غير صحية.. ذلك ما ينتج عن عمالة الأطفال/الطفلات
يقول نصّار إنّ الأطفال والطفلات ممن يعملون/ن في سنٍّ مبكّرة، لا يتمكّنون/ن من الاستمتاع بطفولتهم/ن، كما يتولّد لديهم/ن شعوراً من عدم التقدير والاحترام للذات، وذلك عند رؤيتهم/نّ للأطفال/الطفلات الآخرين/الأخريات ممن هم/نّ على مقاعد الدراسة، ويستمتعون/ن بطفولتهم/ن. إنّ ذلك من شأنه أن يرسّب فيهم/نّ مشاعر الحقد والحسد والغيرة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، وبالتالي ينشأ لديهم/نّ كرهاً للمجتمع الذي لا ينصفهم/نّ، ولا يساعد في تأمين بيئة آمنة لهم/نّ بما يضمن تطويرهم/نّ.
ومن جانبه، يؤكّد الطبيب رشيد عمر (الأخصائي في أمراض الأطفال/الطفلات) لـ نيكستوري، أنّه قد سبق له أن قام بتشخيص حالات لعدّة لأطفال وطفلات ظهرت عليهم/نّ أعراضاً مختلفة، نتيجةً لقيامهم/نّ بأعمال لا تتناسب مع أعمارهم/نّ، موضّحاً أن الجسد في سن صغيرة يمر في مرحلة النمو، لذا فإن العمل قد يؤدي لإصابة الطفل/ة بضمور عظمي أو عضلي، أو قصر القامة، عدا عن التشوّهات الهيكلية مستقبلاً، مثل إصابة الظهر بالحدب وغيرها.
ويستكمل رشيد قوله “خلال فترة عملي، صادفتُ حالاتٍ كثيرة لأطفال عملوا في مجالات الصناعة والنجارة وغيرها، وقد أصيبوا على إثرها برضوضٍ وجروح، بالإضافة لحالاتٍ كانت تعاني من آلام مفصلية وظهرية وآلام في الركبة، إلى جانب حالات انحناء في العمود الفقري، وعند تدقيقي في الأسئلة، تبيّنَ لي أنهم – الأطفال – قاموا بممارسة أعمال مُجهِدة”.
على الرغم من أنّ علا (اسم مستعار لفتاة عشرينية من مدينة ديريك/المالكية) تعي خطورة عمل الأطفال والطفلات، ورغم محاولاتها المتكررة، إلا أنها لم تتمكن من إيقاف أخيها الأصغر (13 عام) من العمل في محل تجاري تعود ملكيته لوالدها، فقد كان تعرّضه للضرب على يد معلّمته في المدرسة، سبباً لفقدانه الرغبة في استكمال الدراسة، وعلى إثره لم تتمكن العائلة من إعادته إلى مقاعد الدراسة مرّةً أخرى، وانخرط في العمل حتى الآن.
ويؤكد نصار من جهته، أن خروج الطفل/ة للعمل يؤثر على بقية مراحل حياته/ها، على الرغم من أن البعض يتعامل مع ظاهرة عمالة الأطفال/الطفلات على أنها أمرٌ طبيعي، إلا أن مرحلة الطفولة يجب أن تكون مرحلة اللعب والراحة والتعليم والتغذية الصحية من أجل نمو كامل، لذا يُعتبر عمل الأطفال/الطفلات بغض النظر عن طبيعته هو انتهاك لحقوقهم/ن، موضحاً أنه لا يمكن الحديث عن إيجابية عمل الطفل/ة في ظل وجود آثار سلبية عليه/ها، سواء كانت نفسية، جسدية، عقلية، أو حتى اجتماعية.
قوانين غير مطبّقة على أرض الواقع وثقافة الشكوى شبه غائبة
يقول الحقوقي قهرمان عيسى لـ نيكستوري إن سوريا وقّعت على اتفاقية “حقوق الطفل” الدولية في العام 1993، مضيفاً أنّه يتم منع تشغيل الأحداث (مَن لم ي/تتم الثامنة عشرة من عمره/ها) من الذكور والإناث، قبل إتمام مرحلة التعليم الأساسي أو إتمام الخامسة عشرة من العمر، وذلك بموجب المادّة (113) من قانون العمل السوريا الصادر بالمرسوم رقم (17) في العام 2010.
كما يشير قهرمان إلى أن المادة (114) حظرت تشغيل الحَدَث لأكثر من 6 ساعات، وأن تتخللها ساعة راحة، كما أنه لا يجوز تكليفهم/نّ بساعات عمل إضافية، في حين أن المادة (116) من المرسوم ذاته كانت قد اشترطت على صاحب/ة العمل تقديم الوصيّ، أو الولي، قيداً مدنياً، إلى جانب شهادة صحية تثبت مقدرته/ها على القيام بالعمل الموكل إليه/ها، مشيراً إلى أن الكثير من الأطفال والطفلات يلجأون/ن إلى العمل لإعالة عوائلهم/نّ.
أما فيما يتعلّق بالقانون الخاص بعمالة الأطفال/الطفلات، والذي أصدرته الإدارة الذاتية في العام 2020، يقول خالد جبر (الناشط الحقوقي، والرئيس السابق لمكتب حماية الطفل في النزاعات المسلحة التابع للإدارة الذاتية والذي تأسس في العام 2021)، إنّه يُمنع عمل الأطفال/الطفلات ممن هم/نّ دون سن العاشرة، أمّا الأكبر سناً والذين/اللواتي تتراوح أعمارهم/نّ بين العاشرة والخامسة عشر، فإنه يُسمح لهم/نّ بالعمل شريطة أن يكون ضمن مكتب أو في بعض الأعمال التقنية، مشيراً إلى أنه يحظر على الأطفال/الطفلات العمل في أعمال الحفر والبناء أو في المناطق الصناعية وغيرها من الأعمال التي تحتاج إلى جهد عضلي شاق.
ويكمل خالد قوله إن هذا القانون لم يُطبَّق على أرض الواقع، فقد وصلت أعداد الأطفال/الطفلات العاملين/ات في المنطقة، وفق إحصائية سابقة غير رسمية تعود لمكتب حماية الطفل في النزاعات المسلحة في العام 2021، إلى ما يقارب من 4 آلاف طفل/ة، يعملون/ن في أعمال تفوق طاقتهم/نّ الجسدية، وعند البحث في الأسباب، لم يبرز إلا العامل الاقتصادي الذي دفع بالأهالي إلى إدخال أطفالهم/طفلاتهم إلى أعمالٍ مُجهِدة.
ويهدف مكتب “حماية الطفل” (يتبع لهيئة المرأة حالياً) لمنع حدوث أي انتهاك لحقوق الطفل/ة، من خلال تنظيم بعض الإجراءات التي من شأنها حماية الأطفال/الطفلات العاملين/ات، وذلك عبر إصدار بطاقات خاصّة بهم/نّ، من شأنها منع التسريح التعسفي من العمل أو أيّة انتهاكات أخرى في بيئة العمل، وضمان حصولهم/ن على أوقات الراحة ضمن ساعات العمل، بحسب أفين باشو (رئيسة هيئة المرأة في إقليم الجزيرة).
وتشير أفين إلى أنّه على الرغم من سَنّ القوانين وتنظيم اللوائح التنفيذية لها، إلا أنه من الصعب القضاء على هذه الظاهرة بشكل تام، نظراً لسوء الوضع الاقتصادي في المنطقة، والتي أدّت إلى تنوّع أشكال عمالة الأطفال/الطفلات، ضمن إطار التسوّل والنبش في النفايات أيضاً، ونوّهت أنه نتيجةً لاعتبار المجتمع هذه الظاهرة أمراً طبيعياً، فإن ثقافة تقديم الشكوى حول وجود طفل/ة ي/تعمل في مكان ما، تعتبر شبه غائبة.
كما أنّه، وفي الكثير من الحالات، تتحوّل عوائل أولئك الأطفال/الطفلات إلى عائق أمام تطبيق القوانين، عبر استمرارهم/نّ في إرسالهم/ن إلى العمل، بحسب أفين.
ختاماً، أشارت تقديرات الأمم المتحدة في تقرير سابق صدر عام 2020، أنه بحلول نهاية عام 2022 سيرتفع عدد الأطفال/الطفلات العاملين/ات أكثر من 8,9 مليون طفل/ة، وفي ظل غياب الإحصائيات الحديثة، فمن الممكن اعتباره مؤشراً على زيادة العدد في نهاية عام 2023، وذلك في ظل غياب التطبيق الفعلي للقوانين المعمول بها في سوريا عامّة وفي شمال شرقي سوريا خاصّة، وسط ظروف الحرب التي زادت من الجوع والفقر الذي كان موجوداً سابقاً، مع غياب الحماية الاجتماعية والصحية؛ الحرب التي جعلت من عمالة الأطفال/الطفلات ظاهرةً بارزة دفعت بكل فرد في العائلة للعمل لتغطية نفقاتها.