نيكستوري – عليا محمّد
“حين وصلني خبرٌ مفاده أن الشخص الذي تحرّش بي في طفولتي قد سافر خارج البلاد، شعرتُ براحةٍ مُطلَقة، لأنّه بات بإمكاني العيش بأمان ضمن مساحتي العائليّة” تسرد منال (30 سنة، اسم مستعار) لـ نيكستوري كيف تعرّضت للتحرّش من قبل أحد الأشخاص ضمن الدائرة المقرّبة في العائلة، حيث لم تكن قد أنهت المرحلة الابتدائية بعد، حين تعرّضت للتحرّش أوّل مرّة، وتكرر الأمر لمدة تقارب الثلاث سنوات.
تستكمل منال قصّتها بصوت مرتجف، وتقول إن المتحرّش بها كان يستغل كلّ فرصةٍ تجمعه بها لوحدهما، حتى لو امتدّت لدقائق قصيرة، كي يقترب منها ويلمس جسدها بطريقةٍ كانت تُشعرها بعدم الراحة، وتتسبّب بضيقٍ لديها، رغم أنّها لم تكن تعي أن ما تتعرض له هو تحرّشٌ جنسي، وحين أصبحت واعية للأمر، انتابتها مشاعر الاشمئزاز تجاهه، وشكّلَ لديها عقدةً نفسيّة لم تتخلّص منها حتّى الآن، “ذات مرّة قرّرت استجماع قوّتي ومواجهته، وحين حاول الاقتراب منّي، صرختُ في وجهه وهدّدته بأنني سأخبر والدي، حينها شعر بالخوف وابتعد عنّي”.
وعلى الرغم من أنّ والدَا منال أتاحا لها ولإخوَتها/أخواتها فرصة الحديث عن مشاكلهم/نّ بحريّة دوماً، إلّا أن خوفاً مجهول السبب، انتابها ولم تتمكّن من البوح بالأمر إلا بعد أن بلغت سن الرشد، حينها وفي جلسةٍ جمعتها مع عددٍ من فتيات العائلة، اكتشفت أن المتحرّش ذاته قد تحرّش بهنّ أيضاً في طفولتهن.
التحرّش بالأطفال/الطفلات .. جريمةٌ تحدث كل يوم
عن الحالة النفسية التي تصيب الأطفال/الطفلات ممن تعرّضوا/نّ للتحرّش، تقول زينب زبيدي لـ نيكستوري، (التي تعمل كمديرة تقنيّة للصحّة النفسية والدعم النفسي في منظّمة الإنسانيّة والدمج)، إن التحرّش الجنسي بحق الأطفال/الطفلات من التجارب التي يصعب نسيانها، كما أنّه لا يمكن التكيّف مع نتائجها على المدى البعيد.
وتضيف زينب أن التحرّش يمهّد الطريق أمام إصابة الأطفال/الطفلات المتعرّضين/ات له بالاكتئاب الذي يظهر غالباً بعد التعرّض للتحرّش مباشرةً، إلى جانب الصدمة النفسيّة، خصوصاً إذا ما كان المتحرّش من الدائرة القريبة من العائلة، كما أنّه يؤثّر على النضج العاطفي، حيث يصعب على الطفل/ة تقبّل الذات والشعور بالثقة بالنفس وبالآخرين/الأخريات.
وتعرّف الإسكوا (واحدة من خمس لجان إقليمية تخضع لولاية المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة) التحرّش بالأطفال/الطفلات، أنّه فرض أفعال جنسية أو أفعال ذات طابع جنسي عليهم/نّ، وتشمل أنشطة مثل المداعبة، وعرض المواد الإباحيّة على القاصرين/ات، إلى جانب الاعتداءات الجنسية التي لا تنطوي على الاتصال الجسدي المباشر، مثل إجراء المكالمات الهاتفية غير اللائقة، أو اختلاس النظر، وغيرها.
وفي إحصائيّة تعود لمنظّمة اليونيسيف، فإنّ ما لا يقل عن 120 مليون فتاة تحت سن العشرين – بمعدّل فتاة واحدة من كل عشر فتيات – أبلغن عن إجبارهنّ على ممارسة الجنس أو القيام بأفعال جنسية أخرى، رغم أن الرقم الفعلي من المرجّح أن يكون أعلى من ذلك بكثير، في حين أنّ العديد من ضحايا العنف الجنسي، بما في ذلك ملايين الفتيان، لا يخبرون أحداً عن تعرّضهم للتحرّش.
وتوضّح المنظّمة أنّه في غالب الأحيان، يحدث التحرّش من قِبل شخص مقرّب/ة من الطفل/ة، وذلك ما يتجسّد فيما تعرّض له طفل حليمة (اسم مستعار، 40 عام)، الذي تعرّض للتحرّش من قبل أحد أقاربه حين كان يبلغ من العمر 11 عاماً، وقد اكتشفت الأمر، بعد أن لاحظت قيام ابنها ببعض التصرّفات غير اللائقة مع أطفالٍ أصغر منه، على حد وصفها.
“بعد أن تحدّثت إلى طفلي، صارحني أنّ ابن عمّه قد قام بتلقينه بعض الممارسات الجنسية، والتي بدوره مارسها مع أطفال آخرين، حينها وبّخته بشدّة، ولم أتحدّث إليه لمدّة يومين، ثم قمت بمحادثته بهدوء، وأخبرته أن مثل هذه الممارسات لا يجوز أن يقوم بها”، تتحدّث حليمة عن ردّة فعلها بعد أن علمت حقيقة الأمر.
من جانبها، توضّح زينب أنه من الممكن أن ي/تتجه الأطفال/الطفلات بعد تعرضهم/نّ للتحرّش إلى الاعتداء على الأطفال/الطفلات الآخرين/الأخريات، وذلك بصورة أقل أو أكثر، بالإضافة إلى ممارسة سلوكيات جنسية، أو العكس تماماً، عبر تجنب العلاقات الجنسيّة، مؤكّدةً على ضرورة حماية الطفل/ة من خلال مساعدتهم/ن على التفريق بين اللمسة الآمنة وغير الآمنة، وعدم السماح بانفراد الأطفال/الطفلات في أماكن بعيدة عن مراقبة الأهل.
التكتم عن التحرّش أهم أسباب استمراره .. خاصّة إذا ما كان الناجي ذكراً
إن تكتّم غالبية العوائل عن التحرّش بحق أطفالهم/نّ، يعود لكون المتحرّش/ة من العائلة نفسها، لذا فإنه تتم حمايتهم/نّ، درءاً للـ”الفضيحة” والخوف من المجتمع وما قد يلحق بالعائلة من “سمعةٍ سيّئة”، وفق ما يرجّحه دلوفان حسن أحد قاطني مدينة قامشلي حول أسباب عدم فضح حادثة التحرّش ومن قام/ت بها.
وتعود حليمة لتلوم نفسها حول ما تعرّض لها ابنها، وتقول إنّه حين كان يدرس طفلها في المرحلة الابتدائيّة “الصف الثاني”، وقعت حادثة في العائلة، حين رأوا/ين ابن عم ابنها في وضعٍ غير لائق مع طفل آخر في غرفة الحمام في المنزل، حينها كان من المفترض ألا تسمح لذلك الطفل بمخالطة ابنها، إلا أنها لم تعِ أن طفلها سيتعرّض للتحرّش من قِبله بعد أن لم يتم أي تدخُّل لمعالجة وضعه.
وتنوّه حليمة استناداً إلى تجربة ابنها، إلى ضرورة الوعي بأن الأطفال الذكور أيضاً يتعرّضون للتحرّش، خصوصاً أنّهم يقضون وقتاً طويلاً في الخارج مقارنةً بالطفلات الإناث.
وبحسب يونسكو، فإن بعض الدراسات تُظهر أن العنف الجنسي أكثر انتشاراً بين الفتيات، إلا أنّ المزيد من الأبحاث حول العنف الجنسي والجنساني (العنف القائم على نوع الجنس) تكشف أن الأولاد أيضاً في خطر التعرض للتحرّش الجنسي.
بدورها تؤكد أنديرا عبدو المختصّة في مجال التربية لـ نيكستوري، أنّه من الضروري إدراك ذوي/ذوات الأطفال/الطفلات أن الذكور أيضاً يتعرضون للتحرّش الجنسي، لذا من المهم الحفاظ على الأطفال/الطفلات بالقرب منهم/نّ دون ثقةٍ مطلقة بأي شخص خارج إطار الوالدَين، إلى جانب ضرورة التعامل معهم/نّ بوعيٍ تام، كأن لا يتم الحديث من قبل الأهل أمام صغارهم/صغيراتهم عن الأحاديث الجنسيّة، والحاجة إلى تكوين علاقة صداقة معهم/ن للبوح بحريّة ودون خوف.
تقديم الصور الملصقة من أجل التحرّش
كان الذي تعرّضت له سارة (35 سنة، اسم مستعار) من تحرّشٍ في صغرها، دافعاً قويّاً لتأمين الحماية والدعم لطفلَيها، وذلك تجنّباً لتعرّضهم/نّ لتجربةٍ مشابهة لما حدث لها، وذلك من خلال توجيههما وتوعيتهما بعدم السماح لأيٍّ كان بالاقتراب من جسديهما، ورفض الجلوس على قدمَيّ أحد، مهما كانت صلة القرابة بينهما.
” أعلم أن التحرش موجود في كل المجتمعات، وغير مقيّد بفئة معينة أو مجتمع معين، وفي حال تعرّض أطفالي لمثل هذا الموقف سأدعمهم وأواجه المتحرش، حتى لو كان ضمن العائلة سأضطر إلى إبعاده عن أطفالي، لأني تأذيت نفسياً عندما تحرّش بي ابن جارنا في طفولتي”، فقد تعرّضت سارة وصديقاتها للتحرش من قبل أحد أبناء جيرانهم، الذي حاول مستغلاً طفولتهنَّ عن طريق إعطائهنّ الصور الملصقة لاستدراجهنّ والتحرش بهنّ. لم تكن سارة وصديقاتها آنذاك يعيْنَ بأنّ ما تتعرضنّ له هو تحرّش جنسي إلا إنه عند بلوغها فترة المراهقة واستيعابها للأمر، عانت نتيجة ذلك كثيراً لاسيّما أنّ الحديث حول هذه المواضيع مع الأهل كان محرّماً، على حد تعبيرها.
“في عمر المراهقة خاصة وبعد استيعابي أن تلك التصرفات كانت تحرّش، كنت كلما رأيتُ الشخص المتحرش أتمنى لو كان ميتاً، لما كان يفعله معي ومع بقية الفتيات”، تقول سارة.
الوعي بخصوصيّة الجسد .. سبيل نحو الحد من التحرّش بالأطفال/الطفلات
تقول زينب في تتمّة تصريحها لـ نيكستوري إنّه يجب على الوالدَين إظهار سلوك ثابت وغير منفعل للتعامل مع تجربة التحرّش، مثل الاستماع بهدوء لما حصل بشكل تفصيلي له/ها، ودعم الطفل/ة ومساندته/ها، وإشعاره/ها بالحب والأمان، وعدم إلقاء اللوم عليه/ها، إلى جانب عدم اتّخاذ إجراءات متسرعة بحق الجاني/ة، بل على العكس يجب دراسة الموقف وأخذ القرارات الصائبة التي لا تضر بالطفل/ة.
وتؤكد مؤسسة child mind على ضرورة التحدث مع الطفل/ة في سن مبكّرة عن خصوصية جسده/ها، بغية حمايته/ها من أي اعتداء جنسي.
في سياق متصل، ترى الناشطة المدنية نشتيمان خلف، أنّه من المهم معرفة معنى التحرش وأشكاله، إذ لا يقتصر على الممارسات الجنسية فقط، وتشير إلى أنه من الضروري معرفة الطفل/ة بجسده/ها، وكيفية حماية نفسه/ها إن احتاج/ت إلى ذلك، مضيفةً أنها تؤيّد تدريس مادّة التربية الجنسية في المناهج الدراسيّة بالتدريج، وفقاً لكل سن، بدءاً من الحضانة ليتعرفوا/نّ على أعضائهم/نّ بطريقةٍ تناسب أعمارهم/نّ ومستوى وعيهم/نّ، إلى جانب رفع الوعي بالطرق الأمثل لحماية أجسادهم/نّ، وكيفية الدفاع عن أنفسهم/ن في حال تعرضوا/ن لأي اعتداء، بالإضافة إلى أيّة تعليمات من شأنها حماية الأطفال/الطفلات.
أمّا الناشط المدني آزاد حسو فإنّه يقول “من المهم توعية الأطفال من خلال الآباء، والمناهج التعليميّة بحيث تكون هذه المناهج مدروسة، يتم من خلالها توعية الطفل/ة بجسده/ها، كما يجب أن يكون العامل/ة في مجال التربية على دراية بكيفية إعطاء هذه المناهج، كفقرة ضمن مادة علمية مراعية للسياق المحلي”، مضيفاً أنّه لا يقتصر الأمر على التوعية في المناهج التعليمية فقط، بل من الضروري رفع الوعي المجتمعي بقضيّة التحرّش من خلال البرامج التوعوية لدى منظّمات المجتمع المدني، إلى جانب الحملات الإعلامية، التي من شأنها إزالة ثقافة الاستحياء من توعية الأطفال/الطفلات أو حتّى تخويفهم/نّ منها.
وفي السياق ذاته، تقول أنديرا أنّه على الوالدَين أن يكونا مُدركَين لقضيّة التحرّش، وأن يقوما بتعليم أطفالهما/طفلاتهما على أنّه من غير المقبول اقتراب أحد من أجسادهم/نّ ولمسها، كما أنّه يجب أن ي/تحصل الطفل/ة على الثقة من الوالدَين للحديث عن ما ي/تتعرض له، وتلقينه/ها خصوصيّة جسده/ها وعدم خلع الملابس أمام الآخرين/الأخريات، ضمن جملة من الإجراءات التي ترفع الوعي لدى الطفل/ة في رفض الممارسات الجنسيّة التي قد ي/تتعرّض لها.
وتختلف الإساءة الجنسية تبعاً للنوع الاجتماعي، وعلى الرغم من أهمية إدراك أن النساء أيضاً يرتكبن الإساءة والاستغلال الجنسيين ضد الأطفال/الطفلات والمراهقين/ات، إلا أن أغلبية المرتكبين/ات، نحو 90% في معظم الدراسات هم من الذكور، بحسب اليونيسف.
أمّا من الناحية القانونية، يقول المحامي حسن برو لـ نيكستوري، إنه لا يوجد ذكر لمصطلح التحرّش في القانون السوري، إلّا أنّه تتم محاسبة من ي/تمارس الإغواء أو المراودة، بالحكم عليه/ها بـالسجن لمدة ثلاث سنوات مع غرامةٍ ماليّة تقدّر بـ 500 ألف ل.س، ويضيف حسن أنّ الإدارة الذاتية تطبّق القوانين السورية فيما يخص قضية التحرّش، إلا أنها أكثر تشدداً في تنفيذ الأحكام الخاصّة بتعرّض الأطفال/الطفلات والنساء للعنف والتحرّش.
لا يزال البعض من الأهالي رافضين/ات التحدّث في قضية التحرّش بالأطفال/الطفلات، ولا يولون/ين أيّة أهميّة للأمر، كما ظهر في موقف إحدى السيدات التي رفضت التعقيب على القضيّة وإبداء موقفها منها، بمجرّد أنّ أطفالها/طفلاتها لم يسبق لهم/نّ بأن تعرّضوا/ن للتحرّش، وعلى الجانب الآخر، لا زال التوجّس من القضيّة قائماّ، ذلك ما بدا جليّاً في رفض البعض ومن بينهم/نّ رجالاً وشباب، الحديث بشكل علني عن تعرّضهم/نّ للتحرش في طفولتهم/نّ.