نيكستوري – سولنار محمد
يقف ميران (اسم مستعار) البالغ من العمر تسع سنوات أمام التلفاز، باحثاً عبر جهاز التحكّم عن اسم قناةٍ رياضيّة، هي المفضّلةُ لديه، ويبدو والداه من خلفه سعيدَين بتطوّر قدراته في تمييز الأحرف والكتابة، بعد أن كان أمراً صعباً عليه في وقتٍ سابق.
يقطن ميران وعائلته في مدينة قامشلي بشمال شرق سوريا، وقد عايش رحلة علاجٍ طويلة، بهدف مواجهة التوحّد؛ رحلةٌ مليئة بالتحديات ولا زالت مستمرّة.
“كان طفلي طبيعيّاً من ناحية النطق والتواصل البصري، حتى بلغ من عمره سنة ونصف، حيث بدأت سلوكيّاته بالتغيّر والاختلاف عن أقرانه من الأطفال، وكانت تلك السلوكيات متمثّلة بالبكاء الشديد، والميل نحو البقاء في المنزل، ورفض الاختلاط مع الآخرين، إلى جانب الرغبة الشديدة في مشاهدة التلفاز”، تسرد نسرين (اسم مستعار لوالدة ميران) لـ نيكستوري، التغيّر الذي طرأ على ابنها قبل أن تكتشف أنه مصاب باضطراب التوحّد.
وتوضّح نسرين أن الجهل باضطراب التوحّد هو حالة جمعية في المجتمع المحيط بها، الأمر الذي تسبّب بتأخرها في اللجوء لطبيب/ة مختص/ة في الحالة التي عانى منها ابنها، حيث بدأت رحلة علاجه بعد أن بلغ من عمره سنتين ونصف، نتيجة تأخّر النطق لديه، وجاء رد الطبيب المختص أنه مصاب بالتوحّد.
وبحسب إحصائياتٍ تعود إلى منظّمة الصحّة العالميّة، فإنه ي/تعاني طفل/ة واحد/ة من كل 100 طفل/ة من التوحّد، الذي يشار إليه أيضاً باسم اضطرابات طيف التوحّد، وهو مجموعة من الاعتلالات المتنوّعة، المرتبطة بنمو الدماغ، بحسب تعريف المنظّمة له.
أعداد المصابين/ات بالتوحّد في ازدياد، ولا زال الوصم الاجتماعي حاضراً
خلال السنوات الخمس الأخيرة، لوحظ ازدياد في حالات الإصابة بالتوحّد لدى الأطفال/الطفلات بمنطقة الجزيرة بشمال شرق سوريا، بحسب ما صرّح به ماهر الجلعو لـ نيكستوري، والذي يعمل كإداري في مركز “بيسان لأطفال التوحّد واضطرابات النطق والاستشارات النفسيّة”، ويقول ماهر إنّهم/نّ استقبلوا في بداية تأسيس المركز عام (2018) ما يقارب من (63) طفل/ة، وفي الوقت الحالي ي/تتواجد (85) طفلاً/ة، ي/تعاني (58) طفلاً/ة منهم/نّ من اضطراب طيف التوحّد، فيما ي/تعاني آخرون/أخريات من حالات نقص الاكتساب (نقص في المهارات الرئيسيّة)، وصعوبات في النطق والضمور، في حين أنّه تم تخريج (150) طفل/ة بينهم/نّ (67) ممن كانوا/نّ مصابين/ات باضطراب التوحّد منذ افتتاح المركز.
وتعتبِر ميسم الحصرية والتي تعمل كأخصائيّة في المركز ذاته، إنّه رغم تزايد الحالات المصابة باضطراب التوحّد، إلّا أنّه يمكن ملاحظة زيادة الوعي المجتمعي بضرورة العلاج المبكّر للاضطراب، وتقبّل المعالجة في المراكز المتخصّصة، وذلك ما يمكن تأكيده عبر زيادة الحالات التي تعافت بعد تلقّي المتابعة والاستشارة من قِبل الأخصائيّين/ات، بعد أن اعتُبِر الاضطراب وصماً اجتماعيّاً، من شأنه أن يعرّض الطفل/ة المصاب/ة للتنمّر والاستهزاء من قبل المجتمع المحيط به/ها.
وتشير نسرين من جانبها إلى أنّه وبسبب تعرّض طفلها للتنمّر من قِبل الأطفال/الطفلات والوسط المحيط بالعائلة، نتيجة صعوبة النطق ورفض الاختلاط من قِبله، فقد فاقم الأمر من أزمتها النفسيّة، ما انعكس سلباً على تعاملها مع ابنها في فتراتٍ سابقة.
من جهتها، تُبدي دينا محفوض رأياً مخالفاً فيما يتعلّق بالوعي المجتمعي تجاه المصابين/ات باضطراب التوحّد، وتعمل دينا كأخصائيّة في مركز (حنين) وتقدّم جلسات تأهيليّة للأطفال/الطفلات المصابين/ات بالاضطراب، وتقول لـ نيكستوري إنّه لم يصل الوعي المجتمعي بالاضطراب إلى المستوى المطلوب، ولا يتم التعامل بالشكل الأمثل من ناحية ضرورة التدخّل المبكّر في الكشف عنه، والبدء بالعلاج في الوقت المناسب، وذلك بسبب الخوف من الوصم الاجتماعي الذي قد يلحق بالطفل/ة.
بدورها، تشير أمينة يوسف الإداريّة في مركز (حنين) إلى الحاجة الماسّة لجلسات توعويّة تستهدف مختلف الفئات المجتمعيّة، بهدف التوعية بضرورة متابعة العلاج وتقديم المساعدة لأولئك الأطفال/الطفلات، بالتوازي مع الخطة العلاجية المصممّة لهم/نّ.
وتعمل أمينة في المركز الذي تم افتتاحه في العام (2021)، وي/تتواجد فيه ما لا يقل عن (60) طفل/ة، بينهم/ن (15) طفل/ة ممن ي/تعاني من اضطراب طيف التوحد، والتي أوضحت أن المصابين/ات بالتوحد يحتاجون/يحتجن لسنوات للانتهاء من العلاج واكتساب جميع المهارات وصولاً للدمج مع المجتمع، في حين تم تخريج (4) أطفال/طفلات من الذين/اللواتي كانوا/كن يعانون/يعانين من اضطرابات أخرى، حيث أتمّوا العلاج في أيلول الفائت، وفق أمينة.
التلوّث وقلّة الاهتمام بالطفل/ة بعد الولادة .. من مسبّبات اضطراب التوحّد
يعود السبب الرئيسي لاضطراب التوحّد إلى نقص الأكسجة، وما يفاقم الأمر هو قلّة الاهتمام ما بعد الولادة، نتيجة غياب المراكز الصحيّة الخاصّة بحواضن الأطفال/الطفلات، بحسب ميسم، التي تشير إلى أنّ بعض العوامل والظروف المحيطة أيضاً يمكن اعتبارها من مسبّبات الاضطراب، كالتلوّث البيئي الناتج عن انبعاث الغازات السامّة في الهواء، ما يؤثّر على المرأة الحامل بشكل كبير.
أما أحمد الصالح وهو طبيب مختص بالأمراض العصبيّة لدى الأطفال/الطفلات، فقد أوضح لـ نيكستوري أنه لا توجد أسباب محدّدة للإصابة باضطراب التوحّد، وإنما هناك عوامل تساهم في تفاقم الحالة، مثل التأذّي حول الولادة (asphyxia) وكذلك دور وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى الهجرة والعيش في محيط مختلف.
إن العيش في محيط مختلف، كان سبباً للحكم على دليل (اسم مستعار) الطفل البالغ من العمر سنتين، أنّه مصاب باضطراب التوحّد، الأمر الذي أدخل والدته في حالةٍ نفسيّة سيّئة، ظهرت تجليّاتها على الطفل فيما بعد، وتقول هيلين (27 عاماً، اسم مستعار لوالدة دليل) إنّها رُزِقَت بطفلها في بلدٍ أوروبي، وإن اضطرارها للمكوث معه وحدها دون والده الذي يعمل لساعاتٍ طويلة خلال اليوم، أدّى إلى حدوث تغيّرات كبيرة في سلوكيّات طفلها، الذي لم يعايش أي اختلاطٍ مع الوسط المحيط.
وخلال زيارةٍ قامت بها هيلين مؤخّراً إلى سوريا، واجه طفلها اختلاطاً مفاجئاً مع عدد كبير من الأشخاص من حوله، الأمر الذي ولّد لديه ردّة فعلٍ تمثلت برفضه لهذا الاختلاط، وكانت تلك بداية حرب نفسيّة عاشتها هيلين، نتيجة ما تكرّر إلى مسامعها حول سلوكيّات طفلها، أدّت بها للدخول في حالة اكتئاب أثّرت سلباً على تعاملها مع ابنها.
“لن أنسى ما حييت، حين قالت لي إحدى قريباتي أنّه ينبغي عليّ تقبّل الأمر، فعند عودتي إلى الدولة التي أقيم بها في أوروبا، سأتقاضى المال الكثير عن ابني المشتبه بإصابته باضطراب التوحّد”، تقول هيلين، وتتذكر جملةً أخرى ترددت على مسامعها ولم تتمكّن من نسيانها حتّى الآن، “ما نفع الطفل إن كان مثل طفلك؟”، ونتيجةً للضغوط النفسية التي عايشتها هيلين أثناء زيارتها تلك، لجأت إلى أخصائيّةٍ أخبرتها أنّ طفلها غير مصاب بالاضطراب، بل إنّه يعاني من تأخّر النمو والحرمان المجتمعي.
من جهته، يقول الطبيب أحمد إنّ أهم الطرق لتحقيق العلاج، هو التزام ذوي/ذوات الأطفال/الطفلات بالعلاج التأهيلي السلوكي، ومراجعة الأطباء/الطبيبات الأخصائيين/ات والالتزام بنصائحهم/ن.
أمّا عن طريقة التعامل مع أطفال/طفلات اضطراب التوحد توضّح ميسم إنّه يتم إجراء التشخيص المبدئي للطفل/ة لتحديد فيما إذا كان/ت ي/تعاني من التوحد، أو نقص اكتساب، أو صعوبات نطق، وبناءً عليه يتم وضع الخطة العلاجية بإشراف تربوي لتقييم مدى استجابة الطفل/ة للخطة العلاجية، التي تتغير بشكل شهري استناداً إلى استجابة الطفل/ة للخطة.
لا حلول قريبة لغياب الدعم عن مراكز علاج التوحّد
على الرغم من اتفاق جميع الأخصائيين/ات الذين/اللواتي التقى بهم فريق نيكستوري، على إن عدد حالات الأطفال/الطفلات المصابين/ات بالتوحد في ازديادٍ ملحوظ، إلا أنه وفي الوقت ذاته، يغيب الدعم الحكومي وغير الحكومي عن المراكز القليلة الموجودة، حيث تعمل تلك الموجودة بدعمٍ يعتمد على اشتراكات عائلات الأطفال/الطفلات الذين/اللواتي يتلقّون/ين العلاج فيها، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام افتتاح مراكز جديدة ببعض المدن في منطقة الجزيرة، ويضيف أعباءً مادية إضافية على كاهل الأهالي، إذ إنّ أي ارتفاع في أسعار المواد اللازمة لتجهيز المركز، ينعكس تلقائياً على الأهالي وأطفالهم/طفلاتهم، بحسب ماهر الجلعو.
وأضاف ماهر أنّهم/نّ اضطروا/اضطررن إلى إغلاق فرع مركزهم/نّ في مدينة عامودا بسبب قلة الدعم ونقص الكوادر، الأمر الذي أجبر الأهالي على إرسال أطفالهم/نّ وطفلاتهم/نّ إلى المركز الرئيسي في مدينة قامشلي.
وتعذّر الحصول على تصريح من هيئة الصحّة في شمال شرق سوريا، حول أسباب عدم وجود دعم لحالات اضطراب التوحّد.
تبقى الحاجة الماسة بشكل أوّلي إلى رفع الوعي المجتمعي بضرورة التعامل السليم مع حالات الاضطراب سواء كانت توحّداً أو غيرها، حتى لا تشكّل أثراً مضاعفاً، قد يؤدّي إلى عدم نفع العلاج وإن كان متوفّراً، إلّا أنّه وفي الوقت نفسه، وجود العلاج بات مرهوناً بقدرة أهالي أولئك المصابين/ات على تحمّل تكاليف المراكز المتخصّصة حتّى تبقى مشرّعةً أبوابها أمام أطفالهم/نّ وطفلاتهم/نّ.