استقرّت في أوروبا .. لكن لم تنسَ ما عايشته في طريق الهجرة غير الشرعية

عليا محمد – نيكستوري

“لولا أنني أجبر نفسي على الاقتناع بأنني نسيت ما مررت به في رحلة الهجرة إلى أوروبا، لكنت الآن في مصحٍ عقلي أو مصابة بحالة اكتئاب شديدة، لكن من أجل من أحبهم ويحبونني، اخترت المضيّ قُدُماً، وأن أبدأ حياةً جديدة”، تقول دلال (اسم مستعار لفتاة عشرينية من مدينة ديريك/المالكية) في سردها لما عاشته في رحلة الهجرة غير الشرعية إلى إحدى الدول الأوروبية. 

في بداية العام 2018، حين كانت دلال في الثانية والعشرين من عمرها، بدأت أولى محاولاتها للسفر عبر الهجرة غير الشرعية، وذلك بهدف لم شملها مع عائلتها، الذين/اللواتي غادروا/ن البلاد جميعاً، دون أن تتمكن دلال من الالتحاق بهم/نّ بشكل نظامي، نتيجة تجاوزها السن القانوني. 

“حينها اخترت طريقاً على أنّه الأكثر أماناً، على حد وصف المهرّب، وقامت عائلتي بدفع ضعف المبلغ المُتفَق عليه، لئلّا أتعرّض لأية مخاطر، من قبيل البقاء في الغابات أو المشي لساعات طويلة، لقد كنت على دراية أن الرحلة لن تكون سهلة، لكن لم أتوقع أن تكون بذلك السوء”، تقول دلال لـ نيكستوري. 

ي/تتوجه الغالبية من السوريين/ات، إلى سلك طريق الهجرة غير الشرعية، بهدف اللجوء إلى الدول الأكثر أماناً، وذلك لأسباب عديدة، وبحسب الأمم المتحدة، فإن البعض ينتقلون/ن بحثاً عن العمل، أو لأسبابٍ اقتصادية، ومنهم/ن من ي/تهاجر للانضمام إلى أفراد عائلته/ها، أو سعياً للوصول إلى التحصيل الأكاديمي، بينما ي/تنتقل آخرون/أخريات هرباً من الصراع أو الاضطهاد أو الإرهاب، أو انتهاكاتٍ ضد حقوق الإنسان.

رحلةٌ وعرة بالانتهاكات والكلام الكاذب

بعد أن عبرت الحدود التركية، توجّهت دلال برفقة فتاتين إلى الأراضي اليونانية، على أنهنّ سائحات، وكان الاتفاق أن يتم نقلهنّ عبر سيارةٍ تابعة لأحد الأشخاص العاملين ضمن شبكة تهريب المهاجرين/ات، إلا أنّهن لم يلتقين بأحد بعد أن عبرن، الأمر الذي أجبرهنّ على المشي من الساعة الثانية ليلاً حتى الخامسة فجراً، ولدى وصولهنّ إلى إحدى نقاط الاستراحة للمارّة، فقد قامت قوات الأمن اليونانية بالقبض عليهن.  

“في البداية، تم التحقيق معنا بشكلٍ طبيعي، لكن بعد مرور ساعاتٍ على احتجازنا، وجّهت قوّات الأمن إهانات لفظية لنا، وكان الدخول إلى دورات المياه مشروطاً بأن يقوم أحد الحرّاس بمرافقتنا، وأن يبقى الباب مفتوحاً أثناء قضاء الحاجة” تقول دلال وتكمل إنها والفتاتين اللتين كانتا برفقتها، اقتصدن في تناول الطعام والشراب، حتى لا يضطررن إلى استخدام دورات المياه طيلة فترة الاحتجاز. 

من جانبها، تقول الداعمة النفسية ضحى محمّد لـ نيكستوري، إنّ الأشخاص الذين/اللواتي يتعرضون/ن للأذى بمختلف أشكاله، سواء أكان جسدياً أو نفسياً أو جنسياً، فإنهم/نّ يعانون/ين على المدى القريب من أعراضٍ كثيرة من قبيل القلق، والخوف، والتوتر، وفقدان الثقة بمن حولهم/نّ. 

وتشير ضحى إلى أنّ الأعراض أيضاً قد تشمل فقدان الأمان، والغضب والانزعاج، والشعور بالعار، وما يرافقها من أعراض الاكتئاب المتمثّلة بالحزن، والتعب، وانعدام الطاقة، واضطرابات في النوم والتغذية، بالإضافة إلى صعوبة التواصل مع الآخرين/الأخريات، والعزلة، وفقدان الاهتمام بالنفس.

“أمّا على المدى البعيد، فإن هذه الانتهاكات تتسبّب بدخول بعض الأشخاص في حالةٍ من الاكتئاب الشديد، يرافقها التفكير بالانتحار، في حال غياب دعم الأهل والأقرباء والأصدقاء، والشبكات الاجتماعية الأخرى الموجودة في المجتمع، كما ترافقها مشاعر الذنب ووصمة العار، وجلد الذات، وفقدان الشغف والحافز لبدء حياة جديدة” تضيف ضحى.

حتى الآن، لا يزال التعب النفسي ظاهراً على الفتاة العشرينية، وهي تسرد ما مرت به خلال رحلة اللجوء، ذلك ما بدا جليّاً في الرجفة التي لاحقت صوتها، إلى جانب توقفها للحظات قبل استكمال سرد قصتها، موضّحة أن كل ما يقوله مهرّبي/ات البشر، غير صحيح، وأنهم/نّ لا يولون/ين اهتماماً لما قد يمر به الشخص من انتهاكاتٍ جسدية ولفظية. 

“إن وصول الشخص إلى وجهته بجسدٍ سليم، يعني أنه حان الوقت لاستلامهم مستحقاتهم المالية”، تقول دلال، وتضيف “على مدار أربعة أيام، لم يعلم المهرّب مكان تواجدنا، وفي الوقت ذاته كان يقوم بطمأنة عوائلنا بأننا في مكانٍ آمن؛ كان يكذب عليهم”. 

وبحسب الأرقام الصادرة عن بوّابة بيانات الهجرة العالمية، في العام 2019، بلغ عدد المهاجرين/ات الدوليين/ات في جميع أنحاء العالم – الأشخاص المقيمون/ات في بلد غير بلدهم/ن الأم – 272 مليون شخص (مقارنة بـ 258 مليون في عام 2017)، وشكّلت المهاجرات نحو 48% من هذا التعداد، في حين قُدّر عدد الأطفال/الطفلات بما يقارب من 38 مليون طفل/ة مهاجر/ة. 

20 دقيقة على طريق العودة .. رعبٌ لا يمكن نسيانه

تعود دلال بذاكرتها إلى الأيام التي قضتها في الاحتجاز لدى قوّات الأمن اليونانية، حين قاموا بجلب مجموعةٍ من الرجال ممن تم القبض عليهم أيضاً، إلى النقطة التي احتُجزت بها دلال، وشعرت حينها بالشفقة تجاههم لما بدا عليهم من آثار التعذيب الجسدي. 

تصف دلال رحلة اللجوء بـ “عنفٍ وعذاب” لم تختبرهما طيلة حياتها، فقد بقيت على مدار يومين دون أن تعلم ما سيؤول إليه مصيرها، وبعد مرور تلك اليومين، فقد تمّت إعادتها مع مجموعة الرجال والفتاتين إلى الحدود التركية، وذلك عبر شاحنةٍ في رحلة امتدّت لـ 20 دقيقة، كانت الأسوأ في حياتها، على حد قولها. 

“لقد كنّا ثلاث فتيات برفقة أكثر من 60 رجلاً، لذا فقد قمنا باحتضان بعضنا نحن الثلاث، وحاصرنا أنفسنا في إحدى زوايا الشاحنة. فجأةً، تحوّل أولئك الرجال إلى وحوشٍ بشرية، وحاولوا ملامسة أجسادنا بكل الطرق الممكنة”، تقول دلال.

وتكمل قولها “كنت أشعر بأيديهم وهي تلامس جسدي، ولكن جلّ ما تمكّنت من فعله، كان الصراخ والتوجّه للزاوية، لقد أصبتُ بالصدمة، كيف لهم أن يفكّروا بالقيام بالتحرّش بعد ما عانوه من تعذيب وانتهاكات؟”. 

تستذكر دلال أحد الشبّان الذي حاول منعهم من الاقتراب منها والفتاتين، إلا أنه تعرّض للضرب من قِبلهم، وما كان يواسيها أن الرحلة ستنتهي بعد مضي تلك العشرين دقيقة، وانتابها خوفٌ شديد، لاسيّما أن نساءً كثيرات سبق لهنّ أن تعرّضن للاستغلال وصولاً إلى الاغتصاب في رحلاتِ لجوءٍ مشابهة، وفق قولها. 

“بعد أن وصلنا إلى النقطة الحدودية، قاموا بإنزالنا من الشاحنة، وتعرّض أولئك الرجال عندها للتعذيب مرّة أخرى، أقولها بكل صراحة، لقد شعرت بأنهم يستحقون ذلك، عقاباً لما ارتكبوه من بشاعةٍ بحقنا أثناء العودة، كل ما تملّكني حينها كان غضباً وحقداً تجاههم”. 

وفيما يتعلّق بما تعرّضت له دلال والفتاتين، وما تملّكتهما من مشاعر حينها، تقول ضحى إنه عندما يشعر الإنسان بأي انتهاك لكرامته/ها وحقوقه/ها وعدم احترامٍ لإنسانيته/ها، ومعاملته/ها بشكلٍ سيّء، تظهر ردود فعل تتحول من مشاعر الشفقة الى مشاعر الغضب والضيق النفسي. 

وتكمل ضحى القول “تنتاب النساء مشاعر من قبيل الخوف من الاعتداء عليهنّ، والرعب، وعدم الثقة، والخطر على حياتهنّ، ويصاحب ذلك أعراضاً جسدية، منها التسرّع في القلب وارتفاع ضغط الدم، وآلام بالمعدة والقولون العصبي، وتشنجات بالجسم، أو في حالة معاكسة ارتخاء الجسم، وعدم القدرة على النوم والأرق، واضطرابات عقلية بسبب قلة النوم والتوتر المتواصل”.

محاولةٌ ثانية للعبور وانتهاكاتٌ متكرّرة

في محاولتها الثانية للعبور إلى الأراضي اليونانية، واجهت دلال إهاناتً لم تكن أخف وطأة مما واجهته في رحلتها الأولى، فقد تلقّت الشتائم هذه المرّة من قبل الشخص الثالث في شبكة تهريب المهاجرين/ات ذاتها، إلّا أنّها صرخت بوجهه مهدّدةً باللجوء إلى مهرّبٍ آخر، الأمر الذي جعله يتراجع عن أسلوبه التهجّمي، إلا أنّه بدأ باستغلالها ومن برفقتها مادّياً. 

“كان المهرّب يشترط علينا أن ترافقنا فتاتين كانتا قد قدِمتا معه، في كل خطوة نريد أن نخطيها، وفرض علينا دفع مبالغ مالية على كل ما تقوم به تلك الفتاتين، وبعد فترةٍ من الزمن اكتشفنا أن الفتاتين كانتا ابنتاه، واللتين مُنِعَتا من التعريف الحقيقي بنفسيهما” تقول دلال. 

على الرغم من أن طرق الهجرة غير الشرعية، غالباً ما تكون مليئة بالمخاطر، إلا أن الكثيرين/ات يتوجّهون/ن إليها، ووفقاً لتقريرٍ يعود إلى المنظّمة الدولية للهجرة، حدثت أكثر من نصف حالات الوفيات الفردية التي تم توثيقها (50 ألف حالة وفاة) على الطرق المؤدية إلى أوروبا منذ العام 2014، حيث أودت طرق البحر الأبيض المتوسط بحياة أكثر من 25 ألف شخص على الأقل، ويوضّح التقرير أن الطرق الأوروبية تشكل أيضاً أكبر عدد ونسبة من الأشخاص المفقودين/ات، حيث تم تسجيل ما لا يقل عن 16 ألف مفقود/ة في البحر، ولم يتم العثور على رفاتهم/نّ مطلقاً.