أن تعاني من مرضٍ نفسي ضمن محيطٍ لا يعي ماهيته

نيكستوري – رودي تحلو 

“حين أخبرني الطبيب أنني أعاني من مرضٍ نفسي، شعرتُ بثقلٍ كبير، وبدأت أفكّر فيما إذا كنت سأتمكن من إكمال دراستي، أو هل سأتمكن من السفر كما كنت أحلم دوماً، تلك الأسئلة بقيت دون إجابة لمدةٍ طويلة” يقول حاتم (اسم مستعار لشاب ثلاثيني من مدينة قامشلي) في سرده لـ نيكستوري عن رحلة المرض الطويلة، التي اكتشفها بعد أن أصبح شاباً يدرس في إحدى كليات الهندسة بجامعة دمشق. 

 عند كلِّ نوبة هلعٍ أصيب بها حاتم في مراحل مختلفة من صغره، عانى بسببها من تسرّع في ضربات القلب، وزيادة التعرّق ورجفان في الجسم، كانت تنتهي تلك الأعراض بنومٍ طويل.. لم يتوقّع يوماً أن تكون تلك الحالة ناجمة عن مرضٍ نفسي سيكبّده معاناةً طويلة الأمد. 

مع بداية الحرب السورية في العام 2011، شارك حاتم في بعض المظاهرات خلال مدة لم تتجاوز ستة أشهر، حيث بدأت تظهر عليه عندئذ بعض الأعراض التي شكّلت له موضع قلق، وكان يعيش شعور الهوس تارةً، وينقلب الأمر إلى الشعور بالكآبة تارةً أخرى، وحين بدأت حالته بالتفاقم، عرض عليه أحد أصدقائه أن يقوم بمراجعة طبيبٍ نفسي. 

رحلةُ علاجٍ لم تُفضِ إلى أية نتيجة

في نهايات العام 2011، اكتشف حاتم أنه يعاني الاكتئاب، بعد أن أخضعه الطبيب المختص لعلاجٍ أشعره بالتحسن، لكن ذلك لم يدم طويلاً، حيث عاد إليه بعد مرور ستة أشهر من العلاج، وهو يعاني من رجفةٍ في الجسم بالإضافة إلى تسارعٍ في وتيرة الأفكار التي راودته، حينها أخبره الطبيب أنه يعاني من مرضٍ يُدعى بـ “اضطراب المزاج ثنائي القطب”، وكانت المفاجأة حين قرأ وصفة العلاج التي تُعطى لمن يعاني/تعاني من مرض الصّرع، ما دفعه للإصابة بالهلع والفرار، وعدم الاستجابة لتوصيات الطبيب المختص. 

ويُعرّف “الاضطراب ثنائي القطب” بحسب منظمة الصحة العالمية، على أنه مـرضٌ يمكن علاجه، ويعـاني فيـه الشـخص مـن تقلبـات حـادّة في المزاج ومسـتويات النشـاط. وتختلـف هـذه التقلبـات عــن التفاوتــات المزاجيــة العاديــة التـي يشــعر بهــا الإنسـان، إذ تُسـبب هذه التقلبات خلـلاً خطيـراً في أداء الوظائـف.

وتوضّح المنظّمة أنه مـن المرجـح أن يصيـب الاضطـراب ثنائي القطب الرجـال والنسـاء علـى حدٍّ سـواء، ويمكـن أن يصيـب أي شـخص مـن أية خلفيـة وفي أي عمـر، ولكنّه أكثر شيوعاً لدى الفئة العمرية من 15 إلى 35 سنة، وتعود أسبابه إلى العوامل الوراثية من جهة، وإلى ضغوطات الحياة من جهةٍ أخرى. 

في أواخر العام 2012، قرر حاتم أن يخضع للعلاج، ولكن عند طبيبٍ آخر، والذي أخبره أنه يعاني اختلاجاً في الرأس، مما زاد من تأزم حالته النفسية، حيث أجهش بالبكاء لدى سماعه الأمر، وبدأ يفكّر بما يجب عليه فعله في ظل وجوده وحيداً في دمشق، ودون علم عائلته بمرضه. 

بدأ حاتم بالعلاج مجدداً، واستقرت حالته الصحية لما يقارب السنتين، وذلك بعد عودته إلى مدينته قامشلي، وإخبار عائلته بمرضه، تمكّن حتى العام 2014 من العمل مع عدّة منظمات، إلا أن جرعة الدواء المخصص لعلاجه، أحدثت تأثيراً على كبده، الأمر الذي استدعى إيقاف الدواء بشكل مباشر من قبل الطبيب المختص. 

“شوف حدا غيري” كانت تلك الجملة التي أجاب بها الطبيب حين طلب منه حاتم استكمال العلاج افتراضياً، نظراً لصعوبة قدرته على الوصول إلى دمشق في ظل تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد حينذاك، وأدى استمرار حاتم في تناول الدواء المخفف، إلى فقدان القدرة على الحركة، وبالتالي فقد اضطر إلى ترك العمل. 

ويقول محمد حيدر، الاختصاصي في الأمراض النفسية، في تصريحه لـ نيكستوري، إنه بعد العام 2011، ازداد عدد المصابين/ات بالاضطراب ثنائي القطب، بنسبةٍ كبيرة وصلت إلى 40%، وفيما يتعلق بالحالات التي قام بمعالجتها من القادمين/ات من منطقة حسكة، فقد وصلت النسبة إلى 10% مقارنةً بباقي المدن السورية، موضحاً أن نسبة الإصابة بهذا المرض قبل بدء الحرب، كانت أقل وتعود في أسبابها بالمجمل، إلى العوامل الوراثية.

غياب الدعم من الوسط المحيط يفاقم حالة المصابين/ات بالأمراض النفسية

بعد محاولاتٍ عديدة انتهت بالفشل، لم يتمكن حاتم من تلقّي العلاج افتراضياً، لذا فقد بدأ بالتواصل مع أشخاصٍ يعانون/ين من حالةٍ مشابهة، لعله يكون سبيلاً لدعمٍ نفسي افتقده منذ بداية مرضه، وقد جمعته مجموعة على تطبيق “واتس آب” بعدد من الشبّان ممن يعانون المرض نفسه، إلا أن النتيجة كانت محاولة انتحار. 

فقد قام أحد الشبان منهم بإنهاء حياته، الأمر الذي انعكس سلباً على حالة حاتم، الذي قام أيضاً بمحاولةٍ لإنهاء حياته في العام 2017، لكن صراخه كان سبباً لتجمّع الجيران من حوله، وإسعافه وإنقاذه في اللحظات الأخيرة. 

وكانت هذه الحادثة سبباً لعودته إلى نقطة الصفر في العلاج، فقد كان التوتر سبباً لأن يفقد وعيه مراتٍ عديدة، ما دفع بعائلته إلى إجباره على إيقاف جرعة الدواء المخفف التي عاود تناولها، وأخيراً، فقد تمكّن من الوصول إلى طبيبه الأول، حتى يعود للمعالجة من جديد، وبدأ بالتحسن تدريجياً. 

ما يقارب من عشر سنواتٍ من عمر حاتم، عاشها دون تلقّي أي دعمٍ من الوسط المحيط به، على حد قوله، حيث بات القلق والتوتر مرافقان له متى ما خرج، لم يجد من يحترم خصوصية حالته، كما أنه لم يفلح في إيجاد عمل طيلة فترة مرضه، ولم يخفف عنه سوى دعم والدَيه له.

أما آزاد (اسم مستعار لشاب من مدينة قامشلي)، فإنه عايش المرض نفسه، نتيجةً لعوامل وراثية نقلت المرض إليه من والده، ورغم ذلك، فقد كانت عائلته تنعته على الدوام بـ “المجنون”، وهاجر على إثر ذلك إلى إحدى الدول الأوروبية. 

وبدأ آزاد بالخضوع للعلاج في مصحّ نفسي، تمكّن، على إثره، من إكمال دراسته بدرجة الماجستير، لكنه لم يتمكن من التخلص من آثار ما تركه المرض عليه. 

“حين أقوم بتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، أجد الناس يقومون بمشاركة اقتباسات من قبيل (مهما كنت محبوباً بين الناس ستجد مريضاً نفسياً يكرهك)، وأستغرب كثيراً كيف لا يُعطى أي اعتبارٍ لمن يعانون من أمراض نفسية، ويصبحون مادة للضحك والسخرية”، يقول آزاد. 

ختاماً، توصي منظمة الصحة العالمية بضرورة تقديم الدعم النفسي للمصابين/ات بالاضطراب ثنائي القطب، وذلك عبر محاولة فهم التقلبات التي يمرون/ررن بها، واستمرارية التشجيع على الالتزام بالخطة العلاجية، إلى جانب ضرورة إشراكهم/نّ في الأنشطة المجتمعية، بهدف تخفيف الضغوط التي يشكّلها المرض عليهم/نّ