حين توضع معاناة المعاقين/ات عقلياً تحت الضوء

نيكستوري – عليا محمد

“تعرّض ولدي مراراً للضرب والطرد والشتائم من قِبل جيراننا وأصحاب المحال القريبة من منزلنا، لم يقوموا بتقدير وضعه البتّة”، هكذا تصف كلثومة خليل (58 عاماً) من ساكنات مدينة ديريك/المالكية، ما يعانيه ابنها الذي يعيش صراعاً مع مرض “الصرع” مذ كان طفلاً يبلغ من العمر ستة أشهر. 

بحزنٍ ظاهر على ملامحها، تتحدث المرأة الخمسينية لـ نيكستوري، عن معاناة ابنها الثلاثيني، والذي تم تشخيص مرضه بعد رحلة طويلة مع الأطباء والطبيبات، على أنه صرع، إلا أن من يقطنون/ن حيّه، يطلقون/ن عليه لقب “المجنون”، وذلك بداعي السخرية. 

“لم يرد مصطلح المجنون في علم النفس والطب النفسي، أما في مجتمعات المنطقة فيُطلق هذا المصطلح على مَن يعاني من مشكلةٍ أو اضطرابٍ عقلي، وبطبيعة الحال يمكن معالجته، كما هو الحال مع أي مرضٍ آخر” حسب ما توضحه المعالِجة النفسية يسرى كيلاني. 

وتشير يسرى إلى أن التأخّر في تلقّي العلاج، واعتماد ذوي/ذوات أولئك المرضى/المريضات على الطرق غير العلمية في المعالجة من قبيل الاستعانة بالشيوخ، يؤثر سلباً على تطوير قدراتهم/نّ العقلية، وفي الكثير من الأحيان، يكون وقت العلاج قد فات.

الشاب الثلاثيني الذي أُطلق عليه لقب “المجنون”، يعاني من مرضٍ يصيب نحو 50 مليون شخص سنوياً على الصعيد العالمي، وذلك بحسب منظمة الصحة العالمية، التي اعتبرت أن الصرع مرض مزمن، يصيب الدماغ، ويؤثّر على مختلف الأعمار، وتوضّح المنظمة أن التقديرات تشير إلى أن 70% من المصابين/ات بهذا المرض، يمكنهم/نّ أن يعيشوا/ن حياةً خالية من النوبات، إذا ما تم تشخيص حالتهم/نّ، وتلقّوا/ين العلاج المناسب. 

لا تقدير مجتمعي لمن يعانون/ين من أمراضٍ عقلية 

إن ما تعرّض له الشاب الثلاثيني من عنفٍ من قبل الدائرة المحيطة به، دفع بعائلته للتعامل معه بقسوةٍ وصلت إلى الضرب في بعض الأحيان، وذلك بسبب إلحاح المحيطين/ات به، بضرورة إبعاده عنهم/نّ، ذلك ما أثّر سلباً على الحالة النفسية للعائلة، وعلى والدته بشكل خاص، على حد قولها. 

“لم نضربه بقوّة، لكنني بكيتُ في كل مرة قمنا بتعنيفه فيها، لقد أجبرونا على ذلك، فهم لا يرحموننا، ويهجمون على بيتنا بسببه بين الحين والآخر”، تقول كلثومة، وتضيف أنه لا يتم الاستهزاء بابنها من قبل الغرباء/الغريبات وحسب، بل إن الأقارب يفعلون/ن ذلك أيضاً، عدا عن أن غالبية من يقطنون/نّ الحي، يقومون/ن بإخافة الأطفال والطفلات منه، رغم أنه لا يقوم بإلحاق الأذى بأحد. 

في حيٍّ آخر من المدينة ذاتها، تعيش سلطانة (اسم مستعار لامرأة أربعينية) المعاناة ذاتها لمدةٍ تجاوزت 20 عاماً، وذلك بسبب وجود فتاتَين تعانيان من التأخر في النمو ضمن أسرتها، وما زاد من معاناتها قبل وفاة إحدى الفتاتين، هو ما كان يشاع عنهما من كلامٍ مسيء.

“كثيراً ما توجّهت إلينا اتهاماتٌ بأننا لا نهتم بهما، سيّما وأن الفتاة التي توفيت كانت تخرج عن سيطرتنا بأن نبقيها في المنزل، لذا فقد كثُر الحديث عن تعرضها لاعتداءاتٍ جنسية، رغم أنه لم يسبق لي أن رأيت على جسدها علامات اعتداء” تقول سلطانة، وتكمل أنه في إحدى المرات لاحظت أن شخصاً ما يرغب بالتحرش بإحدى الفتاتين، إلا أنها تدخلت وأوقفته، الأمر الذي دفعها إلى ربط الفتاة بسلسلة حديدية في المنزل لثلاث سنوات. 

وفي سياقٍ متصل، ترى يسرى أن الكثير من العوائل يتجهون/ن إلى إخفاء أطفلاهم/ن وطفلاتهم/ن ممن يعانون/ين من أمراضٍ عقلية، أو ضربهم/نّ حتى، عوضاً عن البحث عن العلاج المناسب، أو الاستعانة بمؤسساتٍ من الممكن أن تقوم بتقديم المساعدة لهم/نّ، ويأتي ذلك كله بمبرر “الوصم الاجتماعي”. 

وتوضّح الأمم المتحدة أن الأطفال/الطفلات من ذوي/ات الإعاقة، أكثر عرضة للعنف بمعدّل أربعة أضعاف مما ي/تتعرض له الأطفال/الطفلات الآخرين/الأخريات، بينما ينخفض المعدّل إلى مرة ونصف بالنسبة للبالغين/ات، أما عن العوامل التي تدفع بتعرّض الأشخاص من ذوي/ات الإعاقة، فإنها تعود بحسب الأمم المتحدة إلى وصم العار، والتمييز، والجهل بالإعاقة، فضلاً عن الافتقار إلى الدعم الاجتماعي لمن يقومون/ن برعاية أولئك الأشخاص. 

من جهته، يرى الناشط المدني ماهر التمران، أن المجتمع ينظر لأولئك الأشخاص بعين الشفقة، وذلك ما يعزز ثقافة عدم تقبّل اختلاف الآخر/الأخرى، مشيراً إلى أنه يغيب الدور الحقيقي والفعّال لمنظّمات المجتمع المدني فيما يتعلق برفع الوعي المجتمعي تجاه هذه المشكلة.

واعتبر عبد الرحمن بدرخان إمام وخطيب جامع الحسين في مدينة قامشلي، أن تقييد الأشخاص المعاقين/ات عقلياً، وإبقائهم/نّ محجوزين/ات في المنازل، سلوكٌ سيء، ويؤثر عليهم/نّ سلباً، مشيراً إلى أنهم يولون اهتماماً بقضية هؤلاء الأشخاص على منابر المساجد بين الحين والآخر، وأنهم يشددون على ضرورة اعتناء الناس بهم/نّ، وإبعاد الأذى عنهم/نّ.

السخرية والاستهزاء .. ما يلاحق المعاقين/ات عقلياً على وسائل التواصل الاجتماعي

لا تقتصر السخرية والاستهزاء بالمعاقين/ات عقلياً، على نعتهم/نّ بمصطلحات غير لائقة، أو قذفهم/نّ بالحجارة من قبل الأطفال/الطفلات، إنما يمتد الأمر إلى تداول مقاطع مصوّرة لهم/نّ، وذلك بهدف السخرية والمزاح، حسب ما يراه الصحفي خوشمان قادو.

ويقول خوشمان في حديثه لـ نيكستوري، إن استخدام أولئك الأشخاص كمادّة للسخرية، يُلحق الأذى بشكل كبير بأهاليهم/نّ، ويترك أثراً لا يُمحى في نفوسهم/نّ، وذلك لأنهم/نّ يعيشون/ن في مجتمعٍ غير قادر على التعامل بشكل لائق وصحيح معهم/نّ.

“يقوم البعض بنشر مقاطع مصوّرة لأولئك المعاقين عقلياً، دون أدنى مراعاة لخصوصيتهم وخصوصية عوائلهم، وإلى الآن، يتم التعامل مع هؤلاء على أنهم غير مؤهلين مجتمعياً، ما يجعلهم موضع السخرية والتهكم، وذلك في ظل انتشار ثقافة التصوير في المناسبات العامة، دون العودة إلى عوائلهم بغرض أخذ الموافقة للتصوير”، يقول خوشمان.

وتوضّح يسرى أن التعامل مع أولئك الأشخاص بـ”دونية”، ينبع من قلة الوعي تجاههم/نّ، واعتبار المرض وصماً اجتماعياً، مؤكّدة أنهم/نّ بأمس الحاجة إلى الدعم من مجتمعاتهم/نّ، وذلك لما لهذا الدعم من أهمية في رحلة العلاج، وقد يسوء وضعهم/نّ بشكل أكبر إذا استمر غياب الدعم المجتمعي.

إن هذه القضية غائبة بشكل تام عن المحتوى الإعلامي في المنطقة، ولم يسبق أن تم التطرق لها، في ظل غياب السعي لرفع الوعي المجتمعي تجاههم/نّ، كما أنه تغيب القوانين الإعلامية التي توضّح كيفية التعامل مع هؤلاء إعلامياً، ومحاسبة من يقومون/ن بانتهاك خصوصيتهم/نّ أو يتعدّى على حقوقهم/نّ، حسب ما يوضّحه خوشمان. 

لا قانون يُنصفهم/نّ .. ورفع الوعي يبدأ من الأسرة

تقول المحامية بسة عبدي لـ نيكستوري، إنه وفق القوانين الرسمية السورية، لا يوجد تشريع أو قانون خاص حول كيفية التعامل مع الأشخاص فاقدي/ات الأهلية، أو كما يُعرفون/ن بـ “السفهاء”، موضّحة أن معالجة أوضاعهم قانونياً اقتصرت على حالات معينة من قبيل تعيين وصيّ عليهم/نّ من أجل تسيير أمورهم/نّ القانونية. 

“لا يوجد قانون محدد لحمايتهم من الناحية النفسية أو الجسدية، أو من أية انتهاكات قد يتعرضون/ن لها، وتقتصر المعالجة في حال تعرّضوا لأي انتهاك، ضمن إطار القانون العام، وإذا ما تم إيصال الشكوى للجهة القضائية، فإن المعاقبة تتم وفق الجُرم المرتكب، ويمكن للقاضي أن يشدد العقوبة، كون المعتدى عليه معاق عقلياً”، تقول بسة، وتضيف أن غياب قانون خاص بهم/نّ يُعتبر نقصاً مجتمعياً من شأنه زيادة معاناتهم/نّ نفسياً وجسدياً ومجتمعياً.

وفي سياقٍ متصل، يقول خوشمان إنه في ظل غياب قوانين تحمي حقوق المعاقين/ات عقلياً، فإن ذلك يعرّضهم/نّ لممارسات مجتمعية غير لائقة، لذا لا بد من القيام بحملات إعلامية، بالتنسيق بين الوسائل الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، وذلك لتسليط الضوء بشكل أكبر على هذه القضية، ورفع الوعي عبر المختصين/ات لتوضيح مخاطر التعامل الخاطئ معهم/نّ. 

وتؤكد بسة أن رفع الوعي يبدأ من الأسرة، وذلك عبر تنشئة الطفل/ة على التعامل بشكل سوي مع هذه الفئة، واحترام خصوصية حالتهم/نّ الصحية، ووجوب عدم إلحاق الأذى بهم/نّ، ومن ثم العمل على تطوير المناهج التعليمية لاستكمال عملية رفع الوعي، إلى جانب ضرورة تأسيس مراكز تقدّم الرعاية والخدمات اللازمة لهم/نّ، ومن ثم وجود قانون حازم يحمي حقوقهم/نّ. 

من جهته، يرى الناشط المدني محمود عطية أن منظمات المجتمع المدني بحاجة إلى رفع قدراتها بما يتناسب مع الحاجة إلى دورها في هذه القضية، والمتمثلة برفع الوعي المجتمعي، إلى جانب تأسيس مراكز تقدّم الدعم اللازم لهؤلاء. 

أما مكاتب ذوي/ات الاحتياجات الخاصة (التابعة للجان الشؤون الاجتماعية للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا)، فإنها تواجه العديد من التحديات التي تكمن في عدم التكافؤ بين عدد هؤلاء والإمكانيات المادية والتقنية، إلى جانب عدم وجود مراكز متخصصة لتقديم الدعم اللازم لهم/نّ، بحسب محمود عبد الله، نائب الرئاسة المشتركة لـ “هيئة الصحة بشمال وشرق سوريا”. 

ويضيف محمود أنه في ظل الحاجة إلى المواد اللوجستية من نظافة وطبابة بشكل مستمر، فإنه وعلى الرغم من التنسيق مع هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل، فلا يمكن تغطية كافة احتياجات هذه الفئة. 

تلاحق عوائل الأشخاص من ذوي/ات الإعاقة، نظرة دونية، على الرغم من مواجهتهم/ن تحديات وصعوبات كبيرة في رعايتهم/نّ، لاسيّما أن الأمراض العقلية تسبب ظهور العديد من الأعراض الجسدية، ويرجّح الكثير من الخبراء/الخبيرات في مجال الدعم النفسي أن التعامل المجتمعي غير اللائق مع أهالي هؤلاء ينعكس سلباً على تصرفاتهم معهم/ن، والتي بدورها تؤدي إلى ازدياد سوء حالتهم/ن، إلى جانب سوء التواصل مع البيئة المحيطة بهم/ن.