نيكستوري – هيا أحمد
كان فستانها الأحمر يحمل ذكرياتٍ دافئة في حضن العائلة التي تمزّقت كما تمزّق الفستان بعد سنواتٍ من ارتدائها له، ومنذ ذلك الحين، أُرغمت منار على تحمّل معاناةٍ فاقت قدرتها عليه، وذلك بعد أن وجدت نفسها وحيدةً دون والدها ووالدتها، ولم تجد ملجأً سوى جدتها العجوز، لتحميها في طفولتها.
منار محمد، فتاةٌ تبلغ من العمر 16 عاماً، وتنحدر من إحدى القرى بريف مدينة الرقة، تعيش مع جدتها، بعد أن اتّخذ والداها قرار الانفصال، وتحاول جاهدةً أن تنسى تفاصيل مؤلمة ترسّخت في ذاكرتها، مذ افترقت العائلة الصغيرة عن بعضها، في رغبةٍ منها لأن تحتفظ بالذكريات المتعلقة بما عاشته من هدوءٍ في كنفها.
“تفاصيلٌ لا يجب أن أنساها، فقد كان والدي يحملني في حضنه، وتفعل والدتي الأمر ذاته مع شقيقتي الأصغر، وننطلق عبر درّاجتنا النارية إلى خارج المنزل، ولا زال دعاء والدتي بحمايتنا يرن في أذني، لا أرغب في نسيان تلك الأيام.” تقول منار، وتتحدث عن حياتها حينذاك، حيث كانت والدتها تعمل مدرّسة، بينما يعمل والدها في مهنة الدهان.
حظيت منار بغرفةٍ مستقلة في منزل العائلة، وذلك ما لم يكن مألوفاً في محيطها الريفي، إلا أن الحياة الهادئة والمميزة تلك، لم تستمر لفترة طويلة، فقد دبّت الخلافات بين والدَي الطفلة التي كانت تبلغ من العمر حينها خمس سنوات وعدة أشهر، وانتهى الأمر بالانفصال وتفكك العائلة، فقد احتفظت الأم بطفلتها الأصغر، وبقيت منار مع والدها الذي قرر من جانبه السفر إلى إحدى الدول المجاورة، لتبقى منار في عهدة جدتها.
آثارٌ سلبية لا تُمحى من ذاكرة أي/ة طفل/ة تفككت عائلته/ها
لا زالت منار تتذكر بكاءها الشديد عند مغادرة والدتها وشقيقتها للمنزل الذي كان يملؤه الصراخ نتيجة الخلافات والشجار بين والديها، ولا يمكنها نسيان صوت والدتها حين طلبت الانفصال عن والدها، ورفضها البقاء في المنزل.
“لم أكن أعي ما يحدث بينهما، كل ما علمته أن بيتنا ليس على ما يرام، فقد غادرت أمي دون أن تحتضنني، وأخذت أختي معها، حتى أنها لم تساعدني في ارتداء ملابسي الخاصة بالمدرسة؛ بكيت كثيراً، وشعرت أنني لن أراها مجدداً.”
وفي هذا الصدد، تقول المعالجة النفسية لورين خليل إن الطفل/ة قد يشعر/تشعر بالقلق والخوف من العيش وحيداً/ة بعد انفصال الوالدين، كما أنه قد تتولد لديه/ها مشاعر الحقد والغضب تجاه أحد الوالدين الذي/التي يُعتقد أنه/ها السبب في تفكك العائلة، ويتضاعف الأثر فيما إذا فقد/ت الطفل/ة الوالدين معاً.
غياب والدَي منار عنها، خلق لديها ردّة فعلٍ سلبية تجاههما، حيث تصف أن فراقهما لم يُحزنها، لأنها تعتبر أنهما تركاها بمحض إرادتهما، حتى باتت لا ترغب برؤية ما يذكّرها بهما، وتجنّبت المرور أو الدخول إلى منزل العائلة الذي أصبح مهجوراً، وتحوّل المكان الذي كان يشعرها بالأمان إلى مصدر للغضب، حتّى أنها كانت تجيب على اتصالات والدها بعد إلحاحٍ من جدتها، ودون رغبةٍ منها.
“كنت أشعر في داخلي ببركانٍ من الغضب، كما أنني شعرت أن الحياة سلبت مني الابتسامة في سنٍّ مبكّرة، حيث فقدت كل ما أحببت، وعتبي الأكبر هو لوالدَي.”، تقول منار، وتستذكر صديقة لها حُرمت من رؤية والدتها بعد انفصالها عن والدها، وكانت تزورها خلسةً أثناء الذهاب للمدرسة، وتخبر منار على الدوام أنها تشتاق لوالدتها كثيراً، وأن كلا الفتاتين سُلِبتا السعادة، إلا أن الفرق بينهما أن منار لم تعد تكنّ المشاعر الإيجابية تجاه والديها.
وأظهرت دراسة تعود إلى جامعة كارنيجي ميلون في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الأطفال/الطفلات في العائلات المفككة نتيجة الانفصال بين الوالدين، هم/نّ الأكثر عرضة للإصابة بالمرض، حيث تؤثّر التجارب المجهدة والمؤلمة على عمل الأعضاء الحيوية في جسد الطفل/ة، وخاصّة لدى الأطفال/الطفلات من الفئة العمرية ما دون خمس سنوات، حيث لا يفهمون/ن في هذا السن ما يعنيه الطلاق، لكنهم/نّ يشعرون أن هناك خطبٌ ما، كما أنهم/نّ يدركون/ن غياب أحد الوالدين دون فهم السبب، لذا في هذه المرحلة، يكون الشعور بالهجر قوياً جداً.
وفي الدراسة ذاتها، تقسّم اضطرابات الأطفال/الطفلات الناتجة عن الانفصال بين الوالدين إلى أكثر من جانب، منها ظهور سلوك عنيف والميل إلى التمرّد لديهم/نّ، عدا عن مشاعر الحزن التي قد تبدو طبيعية إلا أنها قد تتطور لتصبح اكتئاب شديد، ويظهر ذلك في فقدان الشهية وتقلبات النوم والعزلة وغيرها، بالإضافة إلى التراجع في التحصيل العلمي نتيجة التوتر والقلق وانعدام الثقة بالنفس، وبالنتيجة فشلهم/نّ في الدراسة.
رحلة حياةٍ شاقّة بعيداً عن العائلة ضاعفت الحرب من مشقّتها
فاطمة حجو، جدّة منار لأبيها، تبلغ من العمر 68 سنة، تصف ما عايشته منار بـ “ما لم يكن في الحسبان يوماً”، فقد كانت العائلة متفاهمة على الدوام، ولكن الخلافات قضت على استقرار العائلة، حيث انفصل ابنها عن زوجته دون أن يفكّرا بما سيؤول إليه مصير الطفلتين، وكيف سيؤثر الانفصال عليهما.
“واجهتُ متاعبَ كثيرة في رعاية منار، ليس لسوء سلوكها، فقد كانت طفلة ذكية وواعية، لكنّ الجهد الذي تتطلبه رعاية طفلة، لا يتناسب مع تقدّمي في السن، فقد كنت أشعر بالقلق فيما إذا سأتمكّن من رعايتها بالشكل الذي اعتادت عليه في حضن عائلتها.”
كانت السنة الأولى هي الأصعب بالنسبة لمنار وجدّتها، حيث كانتا تعتقدان أن الخلاف مؤقت، ولن يدوم طويلاً، إلى حين قيام والدها بتطليق زوجته عبر الهاتف، نتيجةً لعدم التفاهم بينهما أو إيجاد حل آخر عدا الانفصال، إلا أن الأمر جرى كما لم ترغب منار، وباتت جدّتها إلى جانب عمّها الأصغر، الملجأ الوحيد لتعويض بعض النقص الذي أحدثه تشتّت عائلتها.
وفي العام 2014، ومع سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على مدينة الرقة، فقدت منار ما كان يشعرها بالسعادة والارتياح، ألا وهو مدرستها وصديقتَيها، فقد أغلق التنظيم مدارس المدينة، ومنع الأطفال/الطفلات من التعليم، الأمر الذي زاد من معاناة منار نفسياً، إلا أنها لم تستسلم وبدأت بالخضوع إلى بعض الدروس الخصوصية على يد فتاة تسكن بجوار منزل جدتها.
بعد رحلات نزوحٍ متكررة، شملت الطبقة ومن ثم مدينة حماه، عادت منار وجدتها إلى منزل الأخيرة حالما تحررت الرقة من حكم التنظيم، لتجد فستانها الأحمر المفضّل ممزقاً، وقد فقد المنزل ترتيبه المعتاد جرّاء المعارك التي شهدتها المدينة، إلا أن ما أسعدها هو عودتها إلى المدرسة ولقاء صديقتيها من جديد.
“فوجئت في أحد الأيام بأبي ينتظرني أمام المدرسة، واحتضنني كثيراً، معلناً عودته وانتظاره عودة أمي كي يتزوجا، ويلتم شمل العائلة من جديد.”، تقول منار واصفة ما حدث بـ “عادت المياه إلى مجاريهما لكنها لم تعد إلى مجراي”.
على الرغم من المحاولات العديدة، لم تستجب منار لطلب والديها بالعودة إلى المنزل، فقد اختارت أن تكمل العيش مع جدتها، ذلك ما أشعرهما بندمٍ على قرار الانفصال الذي كان سبباً بحرمانهما من ابنتهما الكبرى.
“حتى الآن لا أجد تفسيراً لهربي من ابنتي، حبذا لو تماسكت وتمكنت من الحفاظ على عائلتي الصغيرة.” يقول أحمد محمد والد منار، ويتحسّر على ما تسبب به من معاناةٍ لها، ولم يتوقع يوماً ألّا تتقبله ابنته كأب لها من جديد.
بالندم ذاته، تعبّر صبحية والدة منار عمّا يتملكّها من حزن تجاه ما آلت إليه حال ابنتها، وتصف اللحظة التي قابلت ابنتها فيها بـ “الأقسى”، وتعتبر أن نتيجة الانفصال غير الواعي كانت فقدان حب ابنتها لها.
القانون لا يهتم بما يعانيه الطفل/ة بعد تفكك العائلة
لم تتعمق القوانين السورية في ما يخلّفه الطلاق من تأثيرات على الطفل/ة، حيث تركّزت المواد المنصوص عليها في القانون على من يحق له/ها تولّي حضانة الطفل/ة بعد الطلاق، بينما لا تتم مراعاة الحالة النفسية وما يتبع تفكك العائلة من تأثيراتٍ سلبية عليه/ها، يوضّح الحقوقي حسن برو المنظور القانوني في قضية تأثّر الأطفال/الطفلات في حالة الطلاق.
وفي حادثةٍ أخرى تبيّن أثر الطلاق على الأطفال/الطفلات، يقول حسن أن رجل وزوجته قررا الطلاق، ونال الزوج الحق في حضانة طفلته، وعندها بدأت المشكلة في منعه لطليقته من أن تحظى بيومين مع ابنتها، وبالتالي فإن الطفلة عايشت واقعاً ذو حالتين، الأولى عدم تفرّغ الأب للعناية بها، وظروف جديدة تعايشها أمها لا تمكّنها من قضاء وقت طويل معها، ما أدى إلى حدوث حالة من الانفصامٍ بالشخصية لدى الطفلة.
من جهتها، تقول المعالجة النفسية لورين أن الحوار مع الطفل/ة، وشرح الظروف التي أدّت إلى الانفصال بوضوح وصراحة ملائمة للحالة العمرية له/ها، هو السبيل إلى الحفاظ على اتّزانه/ها العاطفي، وذلك انطلاقاً من رغبته/ها بمعرفة ما يدور من حوله/ها، وذلك ما سيشعره/ها بالاطمئنان، والأهم هو التأكيد على الطفل/ة أنه/ها لا يزال/تزال يحظى/تحظى بحب والدَيه/ها له/ها.
وتشير لورين أنه في حالة عدم تقبّل الطفل/ة لهذه التغييرات، حتى بعد إجراء الحوار الواضح معه/ها، وتعزيز الطمأنينة لديه/ها، فمن الضروري على الوالدين الاستعانة بأخصائي/ة علاقات اجتماعية لأخذ المشورة المناسبة للحالة حتى لا يترتب على الأمر حدوث إيذاء نفسي غير قابل للحل لدى الطفل/ة.
ختاماً، يبقى الطلاق قراراً يحمل تبعات وآثار على كل أفراد الأسرة، وبشكل خاص على الأطفال/الطفلات، وأثبتت الدراسات أن تفكك العائلة يسبب لهم/نّ تأثيرات تبدأ بالحزن وصولاً إلى الفشل الدراسي، لذا فمن الضروري بحسب ما يوصي به خبراء وخبيرات في علم النفس، اللجوء إلى الأخصائيين/ات النفسيين/ات إن كان الطلاق حتمياً، بهدف رفع الوعي في كيفية الحفاظ على الأطفال/الطفلات عبر توفير بيئة آمنة ومستقرة تساعدهم/نّ على التكيّف مع الواقع الجديد.