المدارس تفتقد أطفالاً وطفلات في سوريا حرمتهم/نّ الحرب منها

نيكستوري – ياسر الجسمي

يبدأ أحمد يومه عند السادسة والنصف صباحاً، ويتوجّه إلى المحل الذي يعمل به في بلدة الشدادي بالريف الجنوبي لمدينة الحسكة، حيث يقوم بترتيب المواد الغذائية وينفض عنها الغبار استعداداً لاستقبال الزبائن. يأخذ قسطاً من الراحة ليتناول وجبة الغداء، ومن ثم يعود إلى عمله الذي ينتهي بحلول السادسة مساءً. 

أحمد العبد لله فتى يبلغ من العمر 15 عاماً، نزح برفقة عائلته أثناء اشتداد المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في الشدادي، متوجهاً إلى تل الشاير الواقعة في بلدة الدشيشة بريف الحسكة التي كانت تحت حكم التنظيم آنذاك، ومن ثم عاد إلى مدينة الشدادي بعد انتهاء حكم التنظيم فيها. 

حُرم أحمد من التعليم في ظل حكم تنظيم “الدولة الإسلامية” وحين عاد إلى الشدادي بعد رحلة النزوح، كان يبلغ من العمر ثماني سنوات، وبدأ التعلّم في الصف الأول، واستمر إلى أن وصل للصف السابع، حيث كانت نهاية مساره التعليمي، واضطر لترك مقاعد الدراسة نظراً لسوء الوضع المعيشي للعائلة، وبدأ بالعمل للمساعدة في تأمين احتياجاتها. 

“أكثر ما يؤلمني حين أكون في عملي وأشاهد الأطفال يتوجهون إلى مدارسهم، مرتدين الملابس النظيفة، أما أنا فيملؤني الغبار نتيجة العمل.”

من جهته، يصف والد أحمد (رفض الإفصاح عن اسمه) الخروج من المنطقة بعد سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” عليها بـ “الأمر المستحيل”، وذلك ما تسبب بتأخر أحمد عن الالتحاق بالتعليم لمدة سنتين، إلا أن الواقع الاقتصادي السيء أكمل هذا الحرمان ولم يرفض الأب طلب ابنه بأن يعمل ويساهم في تحسين معيشة العائلة. 

بعد مرور أكثر من عشر سنوات على بدء الحرب في سوريا، لا يزال الأطفال والطفلات يدفعون/ن ثمنها بأشكال مختلفة بدءاً من الحرمان من أساسيات الحياة والتعليم، وصولاً إلى فقدان الحياة، وفي إحصائيةٍ صدرت عن اليونيسيف في العام 2021، فقد بلغ عدد الأطفال والطفلات المحرومين/ات من التعليم في سوريا أكثر من مليوني ونصف طفل/ة. 

الحرمان من التعليم .. خطرٌ لا يلقَ الاهتمام المطلوب للحد منه

في جانبٍ آخر من مدينة الشدادي، تجلس سلام (اسم مستعار لفتاة فضّلت عدم ذكر اسمها الصريح) أمام كتابٍ وتحاول تهجئة الحروف ولا تتكلل محاولتها بالنجاح في كثيرٍ من المرات، حيث تبلغ من العمر 13 عاماً ولم تتمكن من تلقّي التعليم حتى الآن. 

نزحت سلام مع عائلتها من ريف مدينة دير الزور إلى الشدادي بعد أن اشتدّت المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبدأت حديثاً بتعلّم القراءة والكتابة، في محاولةٍ منها لتعويض ما فقدته خلال الحرب، حيث لم تجدِ محاولاتها الفردية نفعاً أثناء وجودها في دير الزور في ظل حكم التنظيم لتعلّم الأحرف على أقل تقدير. 

“أشعر بغصّة كبيرة وعقدة نقص حين أشاهد فتيات في سنّي قد تلقّين التعليم، وسيحصلن على شهادات عليا في الوقت الذي سأتمكن فيه من القراءة والكتابة فقط.” تقول سلام وتضيف “حين أتابع مع إخوتي فيلماً مترجماً إلى العربية، أراقبهم وهم يضحكون ويتفاعلون مع أحداثه، بينما لا أتمكن من فهم ما يقولونه لأنني لا أعرف القراءة.”

تقول والدة سلام (فضّلت عدم ذكر اسمها أيضاً) إن النزوح المتكرر وتدمير منزل العائلة بفعل الحرب، وعدم الاستقرار لفترة طويلة، كانت العوامل الرئيسية لحرمان ابنتها من التعليم، رغم إلحاحها المستمر ورغبتها الكبيرة في تعويض ما فقدته من فرص التعليم. 

“لم نتمكن من القيام بشيء لتتعلم ابنتي، إنها ذكية جداً، وأنا متأكدة أنها كانت ستتفوق فيما لو حصلت على فرصة التعليم، لكننا كنا سجناء في ظل حكم التنظيم وما تبعه من نزوح، أشعر أن الأوان قد فات.”

تشير آنيا داري الاختصاصية في مجال الدعم النفسي والاجتماعي للمراهقين/ات، إلى أنه من خلال تجربتها في العمل مع الأطفال والطفلات، وخاصة فئة المراهقين/ات، فقد لاحظت أن المحرومين/ات من التعليم منهم/نّ، يواجهون/ن حالة من عدم تقبّل الذات، وضعف في الثقة بالنفس، إلى جانب الصعوبة في التعبير، كما أنهم/نّ قد يُظهرون/ن أنماطاً سلوكية غير مرغوبة ويعانون/ين صعوبة في تكوين العلاقات الاجتماعية. 

وتؤكّد آنيا أن الضرر الأكبر في الحرمان من التعليم يُلحَق بالفتيات، خاصةً أولئك اللواتي عشن تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتُرجع السبب إلى الأعراف والتقاليد المجتمعية السائدة في تلك المناطق، كما أن العديد منهنّ ممن وصلن إلى مناطق مختلفة قادماتٍ من دير الزور، رفضن الالتحاق بالمدارس ودمجهن مع فتياتٍ أصغر سناً، حيث يخلق الأمر لديهن شعوراً بالخجل وانعداماً للثقة بالنفس، وصعوبةً في التكيّف. 

وتجد الناشطة المدنية كلزار بوزان أن الاستمرار في حرمان الأطفال والطفلات من التعليم، من شأنه زيادة الصعوبة في التعافي من آثار الحرب، بالإضافة إلى زيادة ظاهرة عمالة الأطفال والطفلات، وتزويج القاصرات، وسهولة استقطابهم/نّ من قبل الجهات العسكرية المختلفة، وانتشار الأمّية، عدا عن زيادة معدّلات الجريمة وتعاطي المواد المخدّرة.

وفي بيانٍ صدر عن هيئة الأمم المتحدة في العام 2021، قالت ممثلة الأمم المتحدة الخاصة بالأطفال والصراع المسلح، فيرجينيا غامبا “في سوريا، جميع الأطفال دون سن 10 عاشوا كامل حياتهم في بلد مزقته النزاعات. لم يعرفوا سوى الحرب.”، وحذرت من عواقب التعرض للعنف لفترة طويلة وللانتهاكات وإساءة استخدام حقوقهم/نّ.

التنسيق وتضافر الجهود حاجة ملحّة لإنقاذ جيل من الأميّة وتبعاتها

تعتبر آنيا أن استمرار حالة الإهمال لقضية حرمان الأطفال والطفلات من التعليم يحمل مؤشّراتٍ باحتمالية حدوث تأثيرات خطيرة سواءً أكانت على مستقبل الأطفال والطفلات أو على مستقبل المجتمع ككل، حيث باتت هذه المؤشرات تظهر جلياً في المناطق التي عايشت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”، من قبيل الزواج المبكر والحمل المبكر، والاستغلال وسوء المعاملة، والانخراط بآليات تأقلم سلبية، وبالتالي زيادة العنف والتطرف. 

“إن القضاء على الأسباب والعوائق التي تحول دون إعادة دمج الأطفال الذين عاشوا تحت حكم “داعش” والتي تمنعهم من الالتحاق بالتعليم هي أولى خطوات الحد من هذه المشكلة، بينما تحتاج الخطوة الثانية إلى تكاتفٍ مجتمعي من أفراد ومؤسسات ومنظمات مختصة في مجال التعليم.” وتوضّح آنيا أنه من الضروري توجيه اهتمام الجهات المانحة إلى قضية التعليم في سوريا، وزيادة المشاريع التي من شأنها المساهمة في تخفيف وطأة الحرب عن الأطفال والطفلات.

من جهته، أوضح آزاد برازي نائب رئاسة هيئة التربية والتعليم التابعة للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، أنهم/نّ يبذلون/ن جهداً من خلال التنسيق مع المنظمات الإنسانية ذات الصلة، بهدف تهيئة أولئك الأطفال والطفلات لتعويض الفاقد التعليمي، مشيراً إلى أن نسبة هؤلاء باتت أقل مقارنةً بالملتحقين/ات بصفوف الدراسة. 

ولم تتمكن نيكستوري من الحصول على أية إحصائية رسمية حديثة كانت أو قديمة لمعرفة أعداد الأطفال والطفلات المحرومين/ات من التعليم بفعل الحرب عامةً، وبسبب حكم تنظيم “الدولة الإسلامية” على وجه الخصوص. 

إن التعليم المسرّع أحد الحلول الذي يمكن أن يساهم في تخفيف تأثير حرمان الأطفال والطفلات من التعليم، وذلك عبر العمل على برامج مرنة ومتناسبة مع أعمارهم/نّ، في إطار زمني سريع، بهدف توفير التعليم لهم/نّ، وخاصّة من تجاوزوا/ن السن المحدد دون الالتحاق بالتعليم، بحسب ما توضحه كلزار. 

كما أنه من الممكن اللجوء أيضاً إلى التعليم الترميمي أو العلاجي، أي سد الفجوات الموجودة في التعليم لدى الأطفال والطفلات، وتقديم مساعدة إضافة لمن لديهم/نّ ثغرات في مواد تعليمية معيّنة، وتشير كلزار إلى أن هذه المناهج والطرق متّبعة ومعتمدة من قبل المنظمات الدولية، لذا فمن الضروري الالتفات إلى هذه الحلول الإسعافية إلى حين إيجاد حلول مستدامة لتعويض الفاقد التعليمي لدى هؤلاء الأطفال والطفلات.  

“تغمرني سعادة عارمة حين أتمكن من تهجئة كلمة مكتوبة في مكانٍ ما، وفي كل يوم أقوم بكل شغف بترتيب الدفاتر والأقلام استعداداً لاستقبال المدرّسة التي تعلّمني القراءة والكتابة.” تقول سلام

انطلاقاً من رغبة سلام وأقرانها من الأطفال والطفلات السوريين/ات ممن قضت الحرب على أبسط حقوقهم/نّ، لا بد من لفت الانتباه إلى مأساتهم/نّ، حيث يُعتبر بناء هؤلاء أساساً للوصول إلى مجتمع نامٍ، إضافةً إلى أن حق التعليم منصوص عليه في المواثيق الدولية، ويستلزم جهوداً مكثّفة لئلا يُنتزع منهم/نّ.