كثيرا ما يتمّ الحديث عن وحدة البلاد والوطنية وغيرها من المصطلحات ذات البُعد السياسي، بالضبط بعد أي حديث فعلي عن التنوّع، فعلى سبيل المثال، لا يستوعب الكثيرون من أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد إلى جانب لغات أخرى، كالكُردية، أو السريانية أو غيرها، ويبدو أنّ الأمر غير مُرتبط فقط بمفهوم الأكثرية أو الأقلية، بل يُمكن أن نتحسّس خوفاً عميقاً لدى هذه الشرائح من الانزلاق إلى حالة الانفصال، فأي تركيز على التنوّع؛ سواء أكان تنوّعًا ثقافيًّا إثنيًا، أو دينيًّا أو طائفيًّا أو لغويًّا، ينزعُ بأصحابه إلى ذاك الانفصال المُفترض..
إنّ المُشكلة التي تُعاني منها سوريا منذ عقود، ليست مُشكلة التنوّع؛ سواءٌ اللغويُّ أو الإثنيُّ الدينيُّ والقوميُّ أو حتى في مستويات أخرى ثقافية، بل هي مُشكلة كيفية النظر إلى هذا التنوّع وإدارته، واعتباره ثيمة لبناء دولة متنوّعة تقتبسُ ملامحها من هذا التنوّع.
فعلى سبيل المثال، تَرِدُ في ديباجة الدستور السوري 2012، كلمة العربي والعربية 10 مرّات في الفقرات الأولى فقط، قبل أن ينعطف إلى المجتمع السوري بكافة مكوناته وأطيافه، وإذا ما عَلِمنا أنّ الأمر مستمرّ منذ عقود طويلة، سنعرف أيّ تحدٍّ سيخلقه أية انعطافة خارج هذه المركزية القومية اللغوية والتي تُحاول بأشكال عدّة تسييد لغة على حساب لغات أخرى.
لكن هل لنا أن نتخيّل كم سيكون الأمر مُثيراً للاهتمام للأجيال السورية، وهي تقرأ على سبيل المثال في مناهجها عن لغات متنوّعة تمتاز بها سوريا، وأن يعرف طفل عربي في أقصى جنوبي سوريا معلومات عن لغات سورية أخرى غير العربية وأنّها ترفد هذه البلاد وترفد حضارتها في الماضي والحاضر والمستقبل، وكم سيكون الأمر مُثيراً، لو تبثّ الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سوريا، أغاني بلغات كُردية وسريانية وأرمنية إلى جانب الأغاني العربية باللهجات المختلفة للبلاد.
تسييد لغوي
في محاولة لتعقّب اللغات الرسمية في سوريا، بحسب ورودها في الدساتير السوريّة المتعاقبة منذ دستور 1930، وحتى دستور العام 2012، يُمكن ملاحظة ما يلي: إنّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة السورية، ويرِدُ في الدستور السوري لدولة سورية المقترح من الجمعية التأسيسية عام 1928 والصادر عام 1930 في ظلّ الانتداب الفرنسي بهذه الصيغة:
المادة 24: اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جميع دوائر الدولة إلا في الأحوال التي تضاف إليها بهذه الصفة لغات أخرى بموجب القانون أو بموجب اتفاق دولي.
إلا أنّ هذا الدستور لا يحتوي على ديباجة تضع اختيار اللغة العربية في سياق دعوى التوجّه القومي الأحادي للقومية العربية، ويُمكن ملاحظة ذلك في الدساتير السورية؛ دستور عام 1950، ودستور عام 1973 وتعديلاته الطفيفة، ودستور عام 2012، فعلى سبيل المثال يُمكن أن نجد أن ديباجة الدستور في منتصف القرن الماضي كانت كالتالي:
نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية إرادة الله ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور لتحقيق أهداف المقدسة التالية: … ونعلن أن شعبنا الذي هو جزء من الأمة العربية، بتاريخه وحاضره ومستقبله. يتطلع إلى اليوم الذي تجتمع فيه أمتنا العربية في دولة واحدة، وسيعمل جاهداً على تحقيق هذه الأمنية المقدسة في ظل الاستقلال والحرية.
نقرأ ديباجة آخر دستور صُدر في العام 2012، حيث يَردُ ما يلي:
وتعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية.
وتتفقُ صيغة البند المتعلّق باللغة الرسمية في الدساتير السورية منذ العام 1950، حيث تَردُ بهذه الصيغة:
اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
إنّ ما يُمكن تلمّسه من هذه الصيغ الدستورية، ليس مجرّد تغليب لغة جامعة للكثير من السوريين، بل يتعدّى الأمر إلى محاولة تسييد لغة على حساب لغات أخرى حيّة ومُعبّرة عن ثقافات حيّة سوريّة مرتبطة بالأرض والجغرافية ولها كيانات بإمكانها أن تكون رافدة لغنى ثقافي سوري، إذا ما تمت إدارتها إدارة رشيدة.
التنويع شكلاً
لنأتِ على سياق مُختلف، ومُغاير، في الضدّ تماما مما سردناه في الدساتير السوريّة المُتعاقبة، يُمكن التعريج على تجربة وليدة، وهي تجربة “الإدارة الذاتية الديمقراطية”، فمن ناحية الشكل، يُمكن إيراد كيفية تعاطي الدستور (العقد الاجتماعي) مع مسألة التنوّع اللغوي.
فيما يخصّ العقد الاجتماعي الذي صاغته الإدارة الذاتية منذ 2014 ، وهي سنة تأسيس الإدارة الذاتية، وحتى نهاية العام 2023 وهو تاريخ صياغة العقد الاجتماعي الجديد الذي تم الإعلان عنه، يمكننا ملاحظة ما يلي: إنّ العقد الاجتماعي تبنّى التعددية اللغوية، سواء كلغات رسمية أو لغات تداول وتعليم وأنشطة للغات المختلفة في المنطقة.
كما يُمكن ملاحظة الديباجة التي تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن المسألة القومية، والتركيز على قومية بحدّ ذاتها:
ديباجة ميثاق العقد الاجتماعي لعام 2014:
نحن شعوب روج آفا –شمال سوريا من الكرد والعرب والسريان الآشوريين والتركمان والأرمن والشيشان والشركس مسلمين ومسيحيين وإيزيديين وبمختلف مذاهبنا وطوائفنا نعي بأن الدولة القومية والتي جلبت المشاكل والأزمات الحادة والمآسي لشعوبنا، وليس أدل على ذلك ما يعانيه شعبنا السوري بمختلف مكوناته من ظلم وجور النظام القوموي الشمولي الاستبدادي المركزي، والحال التي وصلتها البلاد من دمار وخراب وتمزق في النسيج المجتمعي، وتشكل كردستان وبيت نهرين وسوريا اليوم مركز الفوضى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتي ابتليت بحكومات استبدادية دكتاتورية.
المادة /3/ كل اللغات الموجودة في “الفدرالية الديمقراطية لروج افا – شمال سوريا” متساوية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، الإدارية ، التعليمية، الثقافية. وكل شعب ينظّم حياته ويسيّر أموره بلغته.
ديباجة ميثاق العقد الاجتماعي: 12.12.2023:
نحن شعوب شمال وشرق سوريا بكل مكوناتها وأطيافها قررنا بكامل الحرية والاختيار أن نكتب من منظومة القيم والإرث الحضاري الديمقراطي للشرق الأوسط والإنسانية جمعاء، هذا العقد الاجتماعي إيمانا منا بأن يصبح ذلك ضمان الحرية والسلام والوحدة بين السوريين.
المادة /6/ كل اللغات الموجودة في جغرافية شمال وشرق سوريا متساوية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، التعليمية، الثقافية؛ ومن حقّ كل شعب أو تجمّع ثقافي أن ينظّم حياته ويسيّر أموره بلغته الأم.
المادة /7/ اللغات: العربية، الكردية، السريانية، هي لغات رسمية في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية.
امتحان التنوّع
يُمكننا ببساطة تتبّع أثر الدساتير المتعاقبة منذ منتصف القرن الماضي على سوريا، فنلاحظ أنّه، وطيلة هذه العقود، لم نقرأ جريدة أو مجلة أو نسمع كلمة أو أغنية واحدة كُردية أو سريانية غير طقسية أو حتى أرمنية، وإن وجدت أمثلة فهي إما شبه معدومة أو أنّها مُفلترة لدرجة التمييع.
فمثلا حين فكرت إدارة التلفزيون العربي السوري في بثّ التلفزيون بلغات أخرى غير العربية، لم تفكّر سوى بالإنكليزية، عبر المحطة الأرضية الثانية مثلاً قبل عقدين أو ثلاثة، ولم يكن يعنيها مثلاً أن تُخصّص ساعات بثّ بلغات أبنائها كالكُرد أو السريان أو الأرمن والشركس والتركمان، أو على الأقل تبنّي خطة برامجية مُراعية للتنوّع.
لكن امتحان التنوّع لا يأتي عبر الشكل فقط، فإذا أردنا مثلاً تقييم تجربة التنوّع اللغوي في الإدارة الذاتية التي تقول برسمية اللغات العربية والكُردية والسريانية، وإمكانية تداول أي لغات أخرى في مختلف المستويات الثقافية والمعرفية والتعليمية وغيرها، يُمكن القول أنّ التجربة على مستوى الشكل مهمة كثيراً، إلا أنّها تحتاج إلى شيء أكثر وأعلى من مجرد النيّات الطيّبة بتكريس التنوّع، تتعدّاها لتبني خطط استراتيجية، تجعل من الشكل مؤثراً على المضمون، فمثلاً صدرت نسخة العقد الاجتماعي بالعربية أولاً ولا يُعرف ما إن كان هناك نسخة بالكُردية أو السريانية منها مثلاً.
الأمر ينطبق على تداول الأخبار وتلاوة البيانات واليافطات والنماذج الورقيّة في المؤسّسات الرسمية، فهذا الشكل المنمّق يحتاج إلى إدارة تنوّع لغوي فعّال.
إنّ سوريا كبلاد، لن تكون بلاداً حقيقية لأبنائها وهي جمهورية عربية سورية ودين رئيسها (مع تحديد جنسه كذكر) الإسلام حكماً، ولغتها الرسمية الوحيدة هي العربية، ونشيدها “عرين العروبة”، إنّها سوريا البلاد حين تكرّس التنوّع الموجود فيها على أنّها رافدة لهذه البلاد، لماضيها وحاضرها ومستقبلها، وأنّ إدارة التنوّع الرشيد بإمكانها أن تمنع خراب البلاد.
تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا