التعايش السلمي من المنظور الإسلامي

الإنسان كائن خُلق لأجل أن يبني ويعمِّر هذه الحياة، ويكون خليفة البارئ على هذا الكوكب، ويكون مدار الكون، فيعيش بَنوه في سعادة ووئام تام، لكن ما هي الطُّرُق السليمة لتحقيق ذلك لتكون العلاقة بين الناس مؤسَّسة على المحبة والتسامح والعدل؟

عايش الإسلام، منذ نشوئه، التعايش السلمي في مجتمعه الأول: مكة المكرمة، وكان أقلية فيها، ثم عايش ذلك في المدينة المنورة، وكان أكثرية فيها، بل مَن يبحث ثم يتابع ثم يتأمل في العقد الاجتماعي “ميثاق المدينة” الذي أسّسه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة لهوَ صرخة في أذن الديمقراطية وحقوق الإنسان منذ خمسة عشر قرناً مضت أنَّه ضَمِنَ الحقوق بداية من المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات وصولاً إلى الحرية الدينية والفكرية، مع ذاك الكم الهائل من الأعداء والمكائد وتربّص المتربصين بمن خالفهم فكراً أو رؤية أو ديناً.

دخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة فرأى ما عليه “الأوس” و”الخزرج” من الاقتتال والتدابر والتباغض، فكانت أول خطوة منه أن آخى بينهم، وشدد على تقوية أواصر المحبة ونبذ الخلاف وتأصيل الوحدة في مجتمع تشرذم وتشتُّت، ومن هنا بيَّن أن المجتمع المنشود يبدأ باللبنة الأولى، ألا وهي الأخوة، وهذه تحتاج إلى التكافل. 

وقد وردَ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا المقام جملة من الأقوال والتوجيهات تأسّسَ عليها مبدأ التكافل الاجتماعي، منها قوله (صلى الله عليه وسلم): “أيّما أهل عرصة “الحي والمكان” أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى”.

وكان يمدح ويثني على “الأشعريين” مما يجده عندهم من التكاتف أيام المِحَن والبلاء، ويثني على نساء الأنصار، لما يَجِدُ عندهنّ من الحرص على التقيّد بشرع الله، والسؤال عنه.

وقد أعطى وبيّن أن لكل شيء حقوق، من البشر والشجر والحيوان والحجر، وحتى الطريق، وكذلك بيّن أن أدنى درجات الإيمان إماطة الأذى عن الطريق.

نعم كان النجاح حليف رسول الله (المبعوث رحمة للعالمين) والذي كان شعاره آنذاك (كونوا عباد الله إخواناً)، لكن فيما بعد أصاب التغيير الكثير من الأشياء، وخاصة السياسة التي كان لها الأثر السلبي في حياة الناس المخالفين للسلطة القائمة دينياً أو مذهبياً أو حتى رأياً وبيعة.

 البيئة الاجتماعية لمجتمع ساد فيه التعايش السلمي

وُلِدَ الإسلام في بيئة اجتمعت فيها الخصال الحميدة والسيئة معاً، لكن العنصرية القَبَلية والقومية والنزاعات الدينية والمناطقية وكثرة الجهل بالحقوق والتقاتل والتدابر كان متفشياً في الجزيرة العربية بشكل خاص والإمبراطوريات آنذاك بشكل عام.

فكان للإسلام اليد البيضاء في إحياء التعاليم السماوية السَمِحة وتجديدها، وإرجاع دور العقل والحكمة للحياة من جديد، فعاد الروح إلى المجتمع ليعيش في نعيم وتناغم على أصوات المحبة والعدل والسلام.

إن القارئ لمجتمعات الأمم اليوم ليراها ما هي من الأمم السابقة ببعيد. يرى أنها متعددة الأديان والمعتقدات، متعددة الطوائف والمذاهب، متعددة الرؤى والأفكار، فكان لابد من إحياء ما صَلُحت عليه من ذي قبل وخاصة في المجتمع المسلم ثم المجتمعات الأخرى، وذاك على أسس متينة تتبناها المجتمعات وتُرّسُخها السلطات ويُضيءَ أمامها أئمة الهدى والعلوم.

يقول رب العزة في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات /13/. لذا فحريٌّ بالأمة الإسلامية أن تبدأ من نفسها في التطبيق لدلالاتها ومقاصدها السامية؛ آية عظيمة تلخص الحياة الاجتماعية.

فالأمر يخصنا جميعاً كمجتمع إنساني لنجعل الدنيا جنة، وأي جنة؟ جنة أخلاق لا يعلوا عليها شيء، أو كما هو الحال اليوم في كثير من أنحاء العالم الظلم والاضطهاد والاستبداد أي حياة مشبعة بالخوف والاضطراب، فلا أمان ولا راحة إنما هي نارٌ تُصْلى.

“لتعارفوا” كلمة عظيمة، فلا حق لأحد أن يُملي على الآخر نَمَطاً فكرياً أو دينياً أو ثقافياً أو عرقياً، بل تتلاقح الأفكار، وتتعانق الأديان، وتمتزج الثقافات والحضارات، وتتلون سماء المحبة بالتلاقي بين الأعراق، وهكذا تكون الحياة جنة ومكاناً للعيش.

ومن هذا المنطلق “التعارف والتعايش” كانت ثقافة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) عالية جداً، حيث عقد لواء المصالحات والتسامح والتعايش في المدينة سلمياً، فكتب عقداً توافقياً بينه وبين مَن يقطن المدينة من اليهود وغيرهم، ومن أهم ما ورد فيها: 

أ ـ القول بحرية التّدين والتركيز على القواسم المشتركة التي من شأنها خلق جوٍّ تسوده الأخوة.

ب ـ منع كل أنواع الاعتداء على الآخر، بل النصرة له حتى يُرَدّ له حقه، وما فتح مكة إلا كان ذاك.

ج ـ منع الكراهة الدينية، ودعا إلى الإخاء الإنساني تحت بند “كلكم لآدم، والله يحكم بين الناس”.

د ـ الحرية الدينية، ومن حق غير المسلمين البقاء على دينهم، بل وعدم إكراههم على تغييره (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة /256/ و(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الكافرون /6/ ، والتعامل معهم أنهم أسرة واحدة لهم مالهم وعليهم ما عليهم.

هـ ـ التكاتف والتعاضد في وجه أي عدوان على أحد الموقعين وتابعيهم، داخلياً وخارجياً، ويجمع ذلك كله قوله (المؤمن مَن أمِنَه الناس) نعم مَن يؤمَن جانبه في كل جوانب الحياة، فلا إيمان لمن لا أمان له، ولا دين لمن لا عهد له.

و ـ أما المخالف له عقائدياً ودينياً ولم يكن محارباً يريد بالإسلام شراً فكان منهاجه قوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الممتحنة /8/.

لقد بيّن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الدّين هو الخلق والإيمان، والإيمان من درجات لكن من هو أكمل المؤمنين فيجيب قائلا: “أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألَفون ويؤلِّفون، ولا خير فيمن لا يألَف ولا يؤلِّف.

 

فما نحتاجه اليوم هذه الجزئية في الحياة “التسامح الديني” الذي يترك الأثر الواضح في التعايش على الفرد والمجتمع في السلوك فهي معادلة واضحة في قبول الآخر، فالدنيا هي مزرعة وبنيان لا بد من استغلالها، فإن فعلنا ذلك فسيكون التعايش السلمي ثمرة لها، فهو يدعو الناس إلى التسامح والتآخي، فإذا حققنا ذلك استطاعت مجتمعاتنا في جميع أصقاع الدنيا رسم الملامح لحضارة إنسانية مبنية على الحقوق والواجبات، وهذا ما رسمه لنا القرآن الكريم (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) والنبي (كونوا عباد الله إخواناً).

تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا