التجارب المجتمعية الناجحة .. سبيلٌ إلى تحقيق سلامٍ مستدام

“لم أفكّر يوماً في الاختلاف الذي يحول دون الارتباط بالفتاة التي أحببتها، وأشعر بالرضى بعد أن تزوجنا، حين أرى عائلتينا تجتمعان في مناسباتٍ مختلفة؛ أكانت أعياد الكرد أم أعياد العرب.” يقول جوان علي البالغ من العمر 26 سنة والذي ينحدر من مدينة الدرباسية.

تزوّج جوان من عدلة حسين (23 سنة) منذ ما يقارب أربع سنوات، هذا الزواج الذي ساهم في تغيير الكثير من الأفكار النمطية التي كانت عائلتيهما قد تبنّتها حول مفهوم الاختلاف، في ظل اللقاءات التي جمعتهما بعد المصاهرة بينهما، ومشاركة المناسبات السعيدة والمحزنة فيما بينهما. 

“كنت في حيرةٍ من أمري حين طلب ابني أن نقوم بخطبة فتاةٍ من مجتمع مختلف عنا عرقياً، لم يكن الأمر سهلاً البتّة، لكن فيما بعد تبيّن لي أن مخاوفي تلك لم يكن لها أيّ داعٍ.” تقول عزيزة منصور والدة جوان في حديثها عن تجربة عائلتها في المصاهرة بين المجتمعات المختلفة بانتماءاتها. 

وتكمل عزيزة حديثها بأن مخاوفها كانت تنبع من الصور النمطية التي تكرّست منذ سنواتٍ طويلة حول الاختلاف في الثقافة واللغة بين المجتمعين العربي والكردي، وما يتبعها من تحديات قد تحول دون نجاح هذا الزواج، إلا أن هذه المخاوف تبددت ما إن تعرّفت عائلتَيّ العروسين إلى بعضهما، وما شهدته العلاقة بينهما من تفاهمٍ وتأقلم ومتانة. 

“بعد أن أنجب ابني طفلين، ازدادت قوة العلاقة بين العائلتين، وأستثمر أية مناسبة للتعرف على ثقافتهم، ولا أتردد في تعريف عدلة بعاداتنا ومساعدتها في التأقلم معنا.” تقول عزيزة.

أما عدلة، فقد كانت تعيش المخاوف ذاتها قبل أن تقبل على الزواج من جوان، وقد تمحورت مخاوفها حول عدم الاندماج مع عادات وتقاليد العائلة، وسط تخيّلها للصعوبات التي ستواجهها مع العائلة التي رفضت زواجهما في البداية، إلا أن مخاوفها أيضاً تبددت بعد الانسجام الذي عايشته مع عائلة زوجها، وقد كان تقبّل العائلتين لبعضهما عاملاً إيجابياً في الشعور بالراحة النفسية، على حد وصفها. 

نفّذت منظمة نيكستيب مشروعاً بعنوان “خلونا نتعرف” في العام 2023، بهدف تصحيح المفاهيم والصور النمطية الخاطئة حول مجتمعات شمال شرقي سوريا، وأحد المفاهيم المنتشرة كانت العلاقات السيئة بين المجتمع العربي والمجتمع الكردي، بينما تبيّن أن العلاقة بين المجتمعين تتسم بالانسجام، بدلالة علاقات المصاهرة بين أبناء وبنات المجتَمَعين، وتشابه الكثير من العادات والتقاليد بينهما.

عواملٌ كثيرة تعزز التماسك المجتمعي بشمال شرقي سوريا .. اللغة مثلاً 

رامي اسم مستعار لرجل آشوري خمسيني من مدينة الدرباسية فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي، يعمل في بقّاليةٍ ضمن حيٍّ غالبية سكّانه/ساكناته من المجتمع الكردي، يبدأ عمله صباح كل يوم بإلقاء السلام على جيرانه باللغة الكردية، التي تعلّمها في صغره، ويتحدّث بها بطلاقةٍ نتيجة التواصل المستمر بينه وبين أصدقائه وجيرانه. 

“كان الانفتاح الثقافي داخل عائلتي دافعاً رئيسياً لأتعلم لغةً مختلفةً عن لغتي الأم، وما جعلني أتقن اللغة الكردية، هو تعاملي المستمر مع أصدقائي من المجتمع الكردي.” يقول رامي، ويضيف إن التواصل والتعامل مع الآخر/الأخرى، إلى جانب معرفته/ها جيداً من أهم السبل لإزاحة الفوارق العنصرية التي تشهدها البلاد التي تحتضن مجتمعاتٍ متنوعة. 

التماسك المجتمعي في شمال شرقي سوريا
تبقى هذه التجارب التي خلقتها المجتمعات المحلية في شمال شرقي سوريا، إرثاً وقاعدةً قوية للبناء عليها في الآليات المتّبعة لتعزيز التماسك المجتمعي

“كبرتُ في كنف عائلةٍ مسالمة ومتقبّلة للاختلاف، وأحرص على أن يتقبّل أولادي الآخرين، والاندماج معهم، وأدفعهم لبناء علاقات مع أبناء المجتمعات المتعايشة معنا.” يقول رامي ويكمل “علاقتي مع جيراني رائعة، لا زلنا نتقابل ونتحادث، ورغم وجود القليل من الآشوريين هنا، لكنني أرفض مغادرة هذه المدينة.”

ولا تعتبر اللغة العامل الوحيد الذي يعزز العلاقات بين أبناء وبنات المجتمعات المختلفة المتعايشة في ذات البقعة الجغرافية، فقد كانت التجارة والعمل المشترك عاملاً أساسياً في تعزيز العلاقة بين عامر الشيخ هلوش الناشط السياسي المنحدر من مدينة قامشلي، وشريكه من أبناء المجتمع الكردي، في شراكة عملٍ بلغ عمرها أكثر من ثماني سنوات، ولا زالت مستمرة حتى الآن. 

“تجمعني شراكة العمل مع زميلي منذ العام 2016، دون وجود أية ورقة أو إثبات على شراكتنا، فهي مبنية على الثقة بشكل كامل.” يقول عامر. 

يذكر عامر الكثير من المواقف التي جمعت بينه وبين شريكه في العمل الذي أصبح من أصدقائه من خلال هذه الشراكة، ومن تلك المواقف حين تعرّض عامر لأزمةٍ صحية، قام شريكه بالتواصل مع عائلته ليخبرهم/نّ إن لوالدهم مبلغ من المال فيما إذا احتاجت العائلة لأية مساعدة، مشيراً إلى أن هذه الثقة والعلاقة الموطدة لعبت دوراً في تمتين صداقتهما. 

“منطقتنا غنية جداً بالتجارب والعلاقات القوية بين أبناء المجتمعات المختلفة، والاختلاف الذي يؤدي إلى الخلاف موجود في المناحرات السياسية.” يقول عامر، مشيراً إلى أن منطقة الجزيرة بشمال شرقي سوريا حافظت على موروث ثقافي وتاريخي رغم تبدّل السلطات الحاكمة، الأمر الذي ساهم أيضاً في حماية المنطقة خلال فترات عدم الاستقرار. 

استثمار التجارب الناجحة وتحويلها لثقافة عامة .. ضرورة مجتمعية 

“لا يمكن للمجتمعات المتنوعة أن تتقبل بعضها إن لم يحدث تعارف حقيقي بينها.” تقول روكن حمو الناشطة المدنية من مدينة الدرباسية، والتي توضح أن التعرف إلى جوهر الإنسان يساهم إلى ترسيخ فكرة أن الاختلاف لا يعني الخلاف، لذا فإنه وبحسب وجهة نظر روكن، لا بد من أن تقوم منظمات المجتمع المدني باستثمار هذه التجارب، لإيجاد المساحات التي من شأنها تقريب المجتمعات المختلفة والحد من أية فرصة لحدوث النزاعات بينها. 

وتشدد روكن على أهمية العمل على توعية المجتمع بأهمية التماسك المجتمعي بدءاً من استهداف الأطفال والطفلات، على اعتبارهم/نّ اللبنة الأساسية لمستقبل المنطقة، لذا فإن بناء جيل متقبّل للآخر/الأخرى، منفتح على الثقافات المتنوعة، خطوة رئيسية نحو بناء سلام مستدام، مشيرةً إلى أن المنطقة تعاني من قلة الفعاليات والمبادرات التي من شأنها توعية المجتمع في هذا الصدد. 

التماسك المجتمعي في شمال شرقي سوريا

من جهته، يقول عامر هلوش إن المنطقة على امتداد سنوات طويلة كانت ملاذاً آمناً للمجتمعات التي تعرضت للمذابح والانتهاكات المختلفة، لذا فإن بناءها كان قائماً على احتضان المجتمعات المتنوعة والمختلفة بانتماءاتها، وقد كانت المنطقة تشهد تعاونات حقيقية بين أبناء هذه المجتمعات وخاصةً في القطاع الزراعي، حتى أن العشائر من المجتمعات المختلفة اتحدت سابقاً لمواجهة الغزوات القادمة للمنطقة، وذلك ما دوّنه التاريخ. 

وعن الأمثلة التي ساهمت في تعزيز التماسك المجتمعي، يذكر الناشط المدني زكي حجي أن الفن لعب دوراً حقيقياً في تجسيد حالة التماسك المجتمعي، ومن أبرز الأمثلة بحسب زكي هو الفنان الأرمني آرام ديكران الذي أتقن الغناء باللغة الكردية، الأمر الذي يمكن البناء عليه لتحويل هذه التجارب إلى ثقافةٍ عامة حتى يسهل الوصول إلى مجتمع متماسك ومتّحد في مواجهة أية نزاعات محتملة. 

إن التجارب الإيجابية التي خلقتها المجتمعات المتنوعة في شمال شرقي سوريا عبر العديد من الظواهر من قبيل المصاهرة والشراكات التجارية وغيرها، لا تكفي لأن يتحقق التماسك المجتمعي بوجود سلام مستدام، حيث ينبغي على منظمات المجتمع المدني تعزيز المُمكن منها، عبر آليات عدّة، بحسب ما يوضحه مزيد الحرامي، الحقوقي والناشط المدني من مدينة الرقة. 

وعن الآليات الممكنة، يقول مزيد “رفع الوعي المجتمعي بأهمية استثمار التجارب الناجحة، من خلال الأنشطة التي تزيد من التواصل مع المجتمع المجتمع المحلي، خطوات ضرورية نحو تعزيز التماسك المجتمعي.” 

ويضيف مزيد إن نجاح هذا التعزيز يكمن في تحقيق التكامل بين عمل منظمات المجتمع المدني والوسائل الإعلامية، كما أنه يمكن التشجيع على تعلم لغات المنطقة المختلفة من خلال النشاطات والمبادرات، إلى جانب تنفيذ مشاريع سبل العيش التشاركية التي من شأنها التقريب بين أبناء وبنات المجتمعات المختلفة حول قضاياهم/نّ المشتركة. 

تبقى هذه التجارب التي خلقتها المجتمعات المحلية في شمال شرقي سوريا، إرثاً وقاعدةً قوية للبناء عليها في الآليات المتّبعة لتعزيز التماسك المجتمعي في المنطقة، حيث أثبتت هذه التجارب أن الانفتاح على الآخر/الأخرى، وتعزيز المعرفة بين أبناء وبنات المجتمعات هذه، من أهم الخطوات نحو تحقيق السلام المستدام للحد من أية نزاعات محتملة.

تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع “معاً أقوى” الذي تنفذه منظمة نيكستيب، والذي يهدف للمساهمة في تعزيز التماسك المجتمعي بين مجتمعات شمال شرقي سوريا.