المجتمع المدني في سوريا.. جردة حساب

لعلّ الحديث عن مفهوم المجتمع المدني في بلد تنهشه الحرب منذ ما ينوف الـ 13 عاماً هو، عند البعض، ضربٌ من السفسطائية، وفي بعض الأحيان متاجرة بقضايا الناس المحقّة خدمة لأهداف شخصية، ويتعدى الاتهام في بعض الأحيان إلى الارتباط بجهات خارجية تناهض نظام الحكم في المنطقة، أو الجهات الإقليمية والدولية الداعمة له، وفي سوريا نميّز ثلاثة أو أربعة أطراف، إضافة لعدد أكبر من الدول الداعمة لها.

تحديد سلم الأولويات في تناول قضايا بلدٍ يعيش حرباً معقدة كما في سوريا، ليس بالأمر الهين، ويتم تناول المواقف من الفاعلين/ات تبعاً لمصالح ومشارب ومذاهب مختلفة، وأحياناً متضادة، وقسم كبير يفضل التركيز، وآخر الاقتصار، على الجهود الإغاثية في ظل الأوضاع الاقتصادية الكارثية، بالتزامن مع انهيار البنية التحتية في معظم المدن والبلدات السورية.

ضعف الإلمام بمفهوم المجتمع المدني يضيف أعباءً جديدة على الناشطين/ات المدنيين/ات.

وصل إلينا مفهوم المجتمع المدني، كغيره من مفاهيم الشأن العام، مستورداً من الدول الأوروبية، والمفارقة أننا في كلّ مرة نحاول إسقاط هذا المفهوم، بشكله الأحدث في الدول الأوروبية، على بلادنا التي تعيش ظروفاً متضادة مع تلك البلدان.

المجتمع المدني، مثله مثل الديمقراطية والعلمانية والدولة المدنية، وغيرها، مرّ بتجارب وتغيرات وإخفاقات في العديد من المراحل إلى أن وصل إلى شكله الحالي الأرقى في الدول الأوروبية، لذا فإسقاطه، بشكله الحالي، على الواقع المحليّ دون مراعاة السياق هو تدخل ضارّ بطبيعة الحال.

ففي أوروبا وتحديداً بريطانيا وهولندا (موطنا الاقتصاد الرأسمالي الأصليان، والذي أسس لمفهوم المجتمع المدني بشكله الأول) بدأ المصطلح ثورةً مجتمعيةً ردّاً على الانتماءات العضوية والروابط الوشائجية التي تجمع الناس، وحينها طالب/ت المثقفون/ات بتجمّع الناس حول انتماءات اختيارية، فكانت النواة الأولى لتشكل منظمات المجتمع المدني (بشكلها القديم)، واللبنة الأولى لنشوء الدول (بشكلها الحالي) ومرت بعد ذلك هذه التجربة بالعديد من التغييرات، إلى أن وصل إلى شكله الحالي في أوروبا، متمثلاً، بادئ ذي بدء، باجتماع المواطنين/ات “الأحرار/الحرّات” في تنظيمات مدنية متجاوزين/ات انتماءاتهم/نّ العضوية، وذلك لتحقيق هدف مشترك يؤمن/تؤمن به أعضاؤه/عضواته.
وتبدو مصدر الإشكالية هو ترجمة المصطلح إلى اللغة العربية، حيث الترجمة الصحيحة لها يجب أن تكون “المجتمع المواطني”، فالمجمتع المدني يفترض وجود مواطنة، وتمايز المجتمع عن الدولة، وفصل المجتمع عن العلاقات الوشائجية، ومن ثم نصل إلى مرحلة اعتبار الاتحادات والجمعيات أنها مجتمع مدني.

لم يكن الأمر كذلك البتّة في سوريا، فقد بدأت الحركة المدنية فيها عقب الاحتجاجات في ربيع العام 2011 ونتيجة لندرة أيّ نشاط مدنيّ في سوريا عبر العقود التي سبقتها، فكانت الولادة غير طبيعية، وتمخضت عبر دعم جهات مانحة لناشطي/ات الحراك آنذاك، وتدريبهم/نّ ليصبحوا/نَ ناشطين/ات مدنيين/ات وإعلاميين/ات فاعلين/ات، وجرى دعمهم/نّ بسخاء لينشئوا، على عجل، منظمات مجتمع مدني ووسائل إعلام، وسط ظروفٍ غير ناضجة.

لعلّ أخطر ما يمكن التحدث عنه في هذه التجربة هو كثرة العَثَرات في هذه المنظمات، ما أضعف ثقة المجتمع المحلي بها من جهة، والأطراف الداعمة من جهة أخرى، تلاه هجرة الناشطين/ات إلى دول أوروبية، وتراجع اهتمام العديد من الدول الداعمة بالشأن السوري.
كلّ ما سلف صعَّبَ من مهمة الناشطين/ات في الداخل في استكمال عملهم/نّ، الذي لازمه الكثير من التحديات، دون امتلاكهم/نّ القدرة الكافية لمواجهتها. 

لا يمكن إغفال التجارب الواعدة للعديد من منظمات المجتمع المدني، التي استطاعت، رغم الصعوبات، بناء جسور ثقة مع المجتمع المحلي، وتحقيق مواءمة بين متطلباته، وشروط الجهات المانحة، وهي نجاحات تسير ببطئ، لكن يمكن التعويل عليها، في ظلّ تنامي خبرتها في هذا الشأن، ومع ذلك، تبقى بحاجة إلى فرص أكبر لتطوير عملها، ورفدها بكوادر مؤهلة أكثر، إن من حيث الكفاءة، أو الكمّ، لكي تكون قادرة على القيام بدورها على أكمل وجه.

تحديات العملَين المدني والإعلامي وسبل تطويرهما 

التحدي الملحّ الذي يواجه عمل المنظمات حالياً هو الوضع الاقتصادي بالغ السوء للبلاد، لدرجة أنّه بات يشكّل ضغطاً على تركيز الأولوليات، وعليه فإنّ المرونة باتت مطلوبة أكثر من ذي قبل، كي تتحقق الاستفادة القصوى من عملها بشكل متوازن، وفي هذه النقطة تحديداً قد يكون من المفيد تصميم مشاريع تركز على سبل العيش، وكذلك على قطاع الخدمات الذي تضرر بشكل هائل خلال سنوات الحرب، بالتوازي مع مشاريع التنمية وبناء السلام.

وأعتقد أيضاً أنه ينبغي ألا تبقى وسائل الإعلام أسيرة للعمل السياسي، الذي يقتصر في تناوله للشؤون المدينة على استثمار هذه القضايا خدمة لأجندات مموليه، كذلك لا بدّ لها من أن تكون رافداً مهماً لعمل المنظمات، وإنّ عليها مسؤولية التشارك في الأهداف المدنية مع المنظمات التي تعمل لذات الهدف، وهي بذلك تكون أكثر تجسيداً لدورها الرقابي، وكذلك التوعوي والتنويري.تبدو مهمة المنظمات وناشطي/ات المجتمع المدني كبيرة ومعقدة بعض الشيء في المرحلة القادمة، التي تتطلب جهوداً مضاعفة، بدءاً من مرحلة التعافي المبكر وبناء سلام إيجابي بين السوريين/ات، مروراً بمرحلة إعادة الإعمار، ومن ثم الانخراط في المهمة الأكثر استدامة، وهي التنمية المستدامة التي هي من صلب مهامها الأساسية، والاعتماد على المشاريع الصغيرة التي تستهدف أكبر عدد ممكن من الناس، وعليه فإنّ تحقيق التوازن هذا، هو القضية الأكثر صعوبة، في ظلّ انخفاض الدعم لسوريا.

سيكون الاستمرار في المحاولة بنفس الزخم أمراً شاقاً حالياً، لكنّ الناشطين/ات الذين/اللواتي اختاروا/اخترن هذا العمل، عليهم/نّ مسؤولية اجتماعية قصوى، وفي انتظارهم/نّ مضايقات متوقّعة من السلطات، كما هو الحال منذ بداية نشاطهم/نّ، وهي مرشحة للزيادة كلّما زاد تأثيرهم/نّ على المجتمع المحلي، وهم/نّ بذلك أمام مسؤوليات كبرى، بالاشتراك مع الإعلاميين/ات والمثقفين/ات والقادة/القائدات المجتمعيين/ات لكي يكونوا جزءاً من عملية التغيير، والنهوض بمستقبل هذا البلد.