تحت وطأة السموم .. النساء والأجنة في مواجهة التلوث البيئي بشمال شرقي سوريا

“حين كنت في الشهر الرابع من حملي، كنا نلجأ لحرق الملابس والأحذية والخشب الرطب، في سبيل إيقاد المدافئ، وقد سببت الروائح المنبعثة من حرق تلك المواد، سعالاً شديداً لي، امتد لينجم عنه انقباضاتٍ في الرحم ثم نزيفاً فقدتُ على إثره جنينَي.” تقول سلوى (اسم مستعار لامرأة من مدينة قامشلي وتبلغ من العمر 38 عاماً. 

خاضت سلوى تلك التجربة في العام 2014، التي تحولت إلى حالةٍ من الحساسية الصدرية، وعلى الرغم من أنها عالجت مرضها لدى طبيبٍ مختص، إلا أن الحالة كانت تعاود الظهور عند كل حملٍ لها فيما بعد، إلى أن تعافت من هذه الحالة قبل فترة قصيرة من الزمن. 

تعاني النساء في مناطق شمال شرقي سوريا من تبعات التلوث الجوي، ويظهر ذلك جلياً في الأمراض التي تلحق بهن خاصةً في فترات الحمل والولادة، وفضّلت النساء المتحدثات في التقرير اختيار أسماء مستعارة للحديث عن تجاربهن الصحية مع وجود، ما أسمينه، التلوث الشديد في مناطق شمال شرقي سوريا.

ولا يمكن حصر هذه الظاهرة في منطقة شمال شرقي سوريا فحسب، ورغم غياب الإحصائيات الحديثة لدى الجهات الدولية المعنية بمراقبة الواقع الصحي حول العالم، إلا أن إحصائياتً تعود لسنواتٍ مضت، تبيّن من خلال بيانات صادرة عن منظمة الصحة العالمية أن 9 من أصل 10 أشخاص يستنشقون/ن هواءً يعج  بالملوثات. كما كشفت التقديرات عن ارتفاع مخيف في عدد الوفيات بفعل كل من التلوث المحيط (الخارجي) والمنزلي (الداخلي) بلغت 7 ملايين نسمة سنوياً.

حملٌ صعب وأجنّة غير طبيعية .. نتيجة تلوّث الهواء في مناطق مختلفة بشمال شرقي سوريا

اختارت هند اسماً مستعاراً للحديث عن تجربتها في الحمل في مكانٍ يعجّ بالدخان الكثيف نتيجة قربه من الحرّاقات (مصافي النفط البدائية)، وذلك أثناء عملها في تكرير النفط بوسائل بدائية، تبلغ هند من العمر 25 سنة، وتقطن في ريف بلدة تربه سبيه/ القحطانية، ويبلغ طفلها من العمر أربعة أعوام، حملت به في العام 2022، وكانت حينها تعمل إلى جانب زوجها في مصافٍ لتكرير النفط. 

“كنا نقوم بوضع النفط الخام في أوعيةٍ معدنية، ونشعل النار أسفلها لفصل مشتقات النفط، لكن لم أدرك يوماً الأثر الكارثي الذي جلبته لجنيني، الذي ولِد وهو يعاني من انسداد في دسامات القلب.” تقول هند.

تلوث الهواء

تعرّض جنين هند أثناء حملها به إلى الإشعاعات المنبعثة عن تكرير النفط، والدخان الكثيف المغمور بمواد ملوّثة أظهرها الفحص المخبري لدم الطفل، ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة العائلة الشاقة إلى العلاج في دمشق، دون تحسّنٍ يُذكر، ليبقى الطفل عرضةً لانتكاسات صحية متكررة رغم إبعاده عن المكان الذي ولِد فيه، “إن وجود طفل مريض في المنزل، أمرٌ صعبٌ للغاية، وأشعر بندمٍ كبير لأنني لا أستطيع أن أقدّم له أكثر، ولم أستطع حمايته من أثر التلوّث المحيط بنا.” تقول هند. 

أما غفران (اسم مستعار)، وهي سيدة من مدينة قامشلي وتبلغ من العمر 37 عاماً، فقد أجهضت جنينها في الثلث الأخير من الحمل في العام 2022، فقد عانت من السعال الشديد خلال فترة الحمل نتيجةً لوجود مولّدة كهرباء خاصة بعائلتها تعمل لما يقارب من ثماني ساعات يومياً أسفل منزلها، ورغم المراجعات المتكررة للطبيب المختص، إلا أن شيئاً في وضعها الصحي لم يتغير، حتى أن الطبيب قام بتنبيهها بأنها معرّضة للولادة المبكّرة نتيجة السعال الشديد. 

“لم يكن لدينا حلاً بديلاً عن المولدة في ظل انقطاع الكهرباء، وتسبب الأمر بإصابتي بالحساسية في الرئتين، وولدت في الشهر الثامن، حيث عانى طفلي من وزنٍ منخفض، ورغم وضعه في حاضنةٍ خاصة، إلا أنه فارق الحياة بعد مرور أسبوع من ولادته.” تقول غفران. 

اضطرت غفران وعائلتها إلى تركيب ألواح لتوليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية حتى تتمكن من الإنجاب، وذلك ما حدث بالفعل حيث أنجبت طفلتها منذ ما يقارب ثلاثة أشهر بعد أن اختفى مصدر التلوث القريب منها. 

لم تعاني غفران وحدها من الاختناق نتيجة انبعاثات مولدات الكهرباء، حيث استمرت سامية (اسم مستعار) البالغة من العمر 41 سنة، في زيارة عيادات الأطباء والطبيبات طيلة فترة حملها في العام 2017، نتيجة تعرّضها للاختناق إثر استنشاقها لدخان مولّدة الكهرباء بالقرب من منزلها، ورغم التحذيرات المتكررة من طبيبها حول خطورة الدخان المنبعث على صحة الجنين، إلا أن الواقع لم يتغير، وولدت طفلتها المصابة بمرض الربو التحسسي. 

“حاولنا مراراً وتكراراً إقناع صاحب المولدة بإبعادها عن المنزل، إلا أنه رفض طلبنا، وقضت طفلتي سنوات من طفولتها في المستشفيات وغرف الأوكسجين لضعف رئتيها وإصابتها بالالتهابات بشكلٍ مستمر، لذا فقد اضطررنا إلى الانتقال من ذاك المنزل.” تقول سامية. 

لم ينتهِ الأثر بعد الانتقال من المنزل القريب من مولدة الكهرباء، فقد عانت الطفلة من حالة السمنة نتيجة تعاطيها لأدوية الكورتيزون خلال رحلة العلاج، وتعاني على إثره من حالةٍ نفسية سيئة. 

تقليل مصادر التلوّث يقي النساء وأجنّتهن من أمراض غير متوقعة 

رغم المحاولات المتكررة، لم تتمكن منصة نيكستوري من الحصول على إحصائياتٍ حديثة حول أعداد مولدات الكهرباء المسجّلة رسمياً لدى الجهات المعنية في مدينة قامشلي.

إن الواقع البيئي في تدهورٍ مستمر، وذلك نتيجةً لتبعات الحرب في سوريا، التي تتمثل في ظواهر عدة منها تزايد استخدام الأسلحة ومخلفاتها، وانتشار مصافي تكرير النفط بطرق بدائية، ودخول أعداد كبيرة من السيارات إلى جانب سوء جودة المحروقات، والتزايد المتسارع للأبنية عشوائياً، في ظل قلة المياه وتدهور التنوع البيولوجي، بهذا الشكل يصف زيور شيخو جوانب ازدياد ظاهرة التلوث في المنطقة، ويعمل زيور مديراً لجمعية الجدائل الخضراء (وهي مشروع بيئي يهدف إلى زيادة نسبة الغطاء النباتي وتحسين الواقع البيئي في المنطقة).

وفي العام 2022، عقدت منظمة نيكستيب جلسةً حوارية حول ازدياد التلوّث في منطقة الجزيرة بشمال شرقي سوريا، وأظهرت خلال الجلسة أنه يبلغ عدد مولدات الكهرباء المسجّلة لدى بلدية الشعب في قامشلو، 437 مولدة في المدينة وريفها، كما أنه في الفترة بين عامي 2019 و2022، تم تسجيل ما يقارب من 120 ألف سيارة لدى مديرية المواصلات في إقليم الجزيرة، بحسب دراسة أجراها مركز الفرات للدراسات.

ويشير زيور إلى أن تفعيل دور لجان مراقبة البيئة، ومخابر تحليل المياه والغذاء، وتكثيف دوريات الضابطة البيئية والصحية لدى البلديات، وإنزال أشد العقوبات والغرامات المالية بحق المخالفين/ات، إلى جانب رفع الوعي المجتمعي تجاه الإبلاغ عن المخالفات، من جملة العوامل التي من شأنها تخفيف أثر مخاطر التلوث في مختلف مناطق شمال شرقي سوريا. 

من جهتها، توضّح رحمة أحمد الاختصاصية في أمراض النساء، أن التلوّث يؤثّر بشكلٍ رئيسي على نمو الجنين، ويتسبب بنقص الأكسجة، وقلة السائل الأمينوسي، واعتلال وظائف الدماغ، ونزف في البطينات، وضعف السمع، وسرطان الرئة، وداء الانسداد الرئوي، ومرض القلب التاجي، والسكري. 

وتشير رحمة إلى أن الدراسات الحديثة أثبتت أن اضطراب التوحد وطيف التوحد من الأمراض الناتجة عن تعرّض المرأة الحامل إلى التلوّث، فيما تتناسب حدة المرض طرداً مع زيادة التعرّض للملوثات، وذلك من خلال تدفق الدم المقيّد من الأم، والذي يحرم الجنين من المغذيات التي تساهم في زيادة الوزن قبل مرحلة الولادة، وذلك نتيجةً لضعف وظيفة الشرايين في الرحم وتضييقها. 

“إن ارتداء الأقنعة الواقية، ووضع أجهزة تنقية الهواء داخل المنزل، والإكثار من زراعة الأشجار، بالإضافة إلى زيادة نسبة مضادات الأكسدة عن طريق الطعام، وتناول حمض الفوليك للوقاية من تشوّه الأجنة، جملةٌ من الإجراءات الاحترازية لحماية الأم والجنين من التلوّث خلال فترة الحمل.” تقول رحمة. 

إن شهادات النساء المتأثرة صحتهن بالتلوّث، تضعنا أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها؛ التلوث يشكل خطرًا جسيمًا على صحة النساء والأجنة، والأدلة العلمية تتكاثر يوماً بعد يوم، مؤكدةً على أن الهواء، والماء، وكل ما يحيط بالمجتمعات المحلية في دول عايشت نزاعات طويلة، قد يحمل في طياته مواداً خطرة تؤثر على الصحة الإنجابية وتطور الجنين، لذا فإن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات جادة وفعّالة للحد من هذه المخاطر، وضمان مستقبل صحي للأجيال القادمة.