“قبل سنوات طويلة، عشنا حالة من التوتّر لا يمكن وصفها، بعد أن قام شاب من قريتنا بقتل شاب من قريةٍ أخرى، ولم تستطع عائلة الجاني الخروج من القرية منذ ذلك الحين، خوفاً من الأخذ بالثأر، وهذا ما حدث بالفعل، حين خرج أحد أفرادها إلى المدينة قبل سنتين؛ فقد تم قتله مباشرةً.” تقول منار (اسم مستعار لامرأة ثلاثينية من ريف مدينة ديريك/المالكية).
على الرغم من أن الجاني الأول يقضي حكمه في السجن، إلا أن شخصاً من عائلته راح ضحية الأخذ بالثأر بعد مرور ما يقارب من تسع سنوات على الجريمة، وطيلة تلك السنوات، عاش أهالي القرية رعباً من الاقتراب من منزل الجاني خوفاً من أن يتم الأخذ بالثأر في لحظةٍ غير متوقعة، تصف منار حالة القرية خلال سنوات بعد الجريمة الأولى، وتشير إلى أن الضحية الثانية لا تربطه صلة مع الجريمة، إلا أنه كان ضحية “ثقافة الأخذ بالثأر”، وامتد النزاع ليتحول من نزاعٍ عائلي إلى آخر عشائري، حسب ما توضحه منار.
وفي السياق ذاته، وقبل ما يقارب من شهر، ضُجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبرٍ مفاده مقتل شخص قادم من ألمانيا عند عبوره من معبرٍ حدودي إلى مناطق شمال شرقي سوريا، وتداولت وسائل إعلامٍ محلية أن جريمة القتل حدثت على خلفية قضية ثأر.
“الشب البريء كان الضحية، عليه ثأر ونازل بدون خوف!، العين بالعين والسن بالسن، إذا هو القاتل ما بنقدر نلوم الأهل،” تلك كانت عيّنة من التعليقات التي وردت على خبر مقتل الشاب على أحد الحسابات العامة على منصة فيسبوك.
تمتد آثار ثقافة الأخذ بالثأر إلى أجيال عديدة، حسب ما توصفه لارا (اسم مستعار لفتاة عشرينية من مدينة كوباني) التي كانت شاهدة على سلسلة من جرائم القتل بين عائلتين من قريتين مختلفتين في ريف المدينة، والتي حصدت أرواح عدد من الأشخاص من العائلتين حتى الوقت الحالي، وعلى الرغم من مرور وقت طويل على الحادثة الأولى، وما تبعها من جرائم قتل، فإن تبعات هذه الظاهرة لا زالت تشكّل معاناة كبيرة لدى أهالي القريتين.
“إن شريحة واسعة من مجتمعاتنا ترى أن الأخذ بالثأر يعني الانتصار والقوة، وذلك ما ينتج عنه كل الجرائم التي نشهدها حتى اليوم دون الاكتراث لعقبات هذه الظاهرة.” تقول لارا.
الضغوط والأعراف المجتمعية وغياب الثقة بالقوانين من جذور ظاهرة الأخذ بالثأر
إن جذور ظاهرة الأخذ بالثأر المنتشرة في المجتمعات ذات الثقافة التقليدية، بما فيها بعض المناطق في شمال شرقي سوريا، تغذّيها العديد من العوامل المتمثلة بالثقافة والتقاليد القبلية، حيث يتم اعتبار الثأر جزءاً من الشرف والكرامة العشائرية، والاعتداء على شخص من أفراد العشيرة بمثابة اعتداء على العشيرة بأكملها، مما يستدعي الرد، وفق ما توضّحه نشتمان خلف التي تشغل منصب المديرة التنفيذية لمنظمة كاف/GAV (وهي منظمة غير حكومية، وغير ربحية ذو قيادة نسائية تنشط في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا في الحسكة والرقة ودير الزور، تدعم القطاعات المختلفة من خلال برامجها، مثل التعليم، وبناء القدرات، ودعم الأمن الغذائي، وبناء السلام والاستقرار) بحسب نشتمان.
وتشير نشتمان إلى أن ضعف النظام القضائي إلى جانب الفقر والبطالة التي تغذي الدوافع الانتقامية، وحالة التفكك الاجتماعي في ظل الحروب والنزاعات، من جملة العوامل الأخرى التي تدفع الناس إلى الأخذ بالثأر كنوع من تحقيق العدالة بحسب وجهة نظرهم.
من جهته، يرى الناشط الحقوقي جانو شاكر الذي يعمل لدى منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (منظمة حقوقية لا ربحية وغير حكومية، تعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا)، أن الأخذ بالثأر ظاهرة اجتماعية قديمة، وتتمثل أسباب انتشارها في غياب الوعي بآثارها إلى جانب انتشار السلاح، فضلاً عن وجود ضعف في ضبط الأمن، وفقدان الشعور بالعدالة.
“من المؤسف أن ظاهرة الثأر تغدو أشد ضرراً على حياة المجتمع في ظل تنامي العصبية القبلية والانتماء العشائري، وذلك ما نشهده في بلاد تشهد حروباً وأزمات مديدة كما هو الحال في سوريا،” يقول جانو مشيراً إلى أن استمرار هذه الظاهرة يعني وجود عواقب كارثية تشكّل خطراً على العوائل والأفراد التي قد يصل عددها للعشرات بل للمئات أحياناً، كما أن هذه الظاهرة تهدد بانتشار الفوضى، واستنفاذاً لإمكانيات المؤسسات المعنية، الأمر الذي يؤدّي إلى تشكيل تهديد حقيقي لمستقبل المنطقة والأجيال القادمة إن قُضيَ لهذه الظاهرة بالاستمرار.
يعمل أحمد في مؤسسة اجتماعية للصلح بين العوائل، ورفض الكشف عن اسمه الصريح نظراً لحساسية القضية المطروحة من وجهة نظره، يرى أن غالبية العوائل والأشخاص ممن يقتلون بدافع الأخذ بالثأر، فإنهم يقبلون عليه نتيجة ضغوطات مجتمعية ونفسية، من خلال التشجيع على تحقيق “العدالة باليد”، مشيراً إلى أن عدم الأخذ بالثأر يلحقه وصمٌ اجتماعي يقلل من شأن عائلة الضحية مجتمعياً، كل ذلك في ظل وجود أعراف مجتمعية لا تقبل فكرة الصفح أو العفو أو الاكتفاء بالعدالة في القانون.
بناء الثقة بالقانون واستثمار دور وجهاء العشائر أحد السبل نحو القضاء على ظاهرة الثأر
إن القتل جريمة يعاقب عليها القانون أيّاً كانت دوافع ارتكابها، وغالباً ما تكون جرائم القتل بدافع الأخذ بالثأر هي جرائم قتل عمد وعن سبق الإصرار والترصّد، وذلك وفقاً للمادة 213 من قانون العقوبات لدى الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا للعام 2023، وتكون عقوبتها مشددة تصل إلى الحكم بالسجن المؤبد، بحسب ما يوضحه الحقوقي خالد عمر.
ويشير خالد إلى أن القوانين الحالية كافية لردع الأفراد عن القتل والقتل بدافع الثأر، لكن هناك حاجة حقيقية لتطوير الإجراءات كأن تكون هناك جهات مجتمعية تعمل إلى جانب المؤسسة القضائية، والعمل على رفع الوعي القانوني لدى مختلف الفئات المجتمعية كتدبير احترازي لمكافحة هذه الظاهرة.
وفي مبادرةٍ مجتمعية في مدينة الطبقة، شارك الحقوقي والناشط المدني مزيد الحرامي في تطوير ميثاق العرف العشائري، والتي ضمّت عدداً من عشائر ومجتمعات المدينة وريفها، ويوضّح مزيد أن الميثاق يهدف إلى توحيد العرف القبلي وإحياء الجوانب الإيجابية، وفيما يخص الثأر، فإنه من الظواهر التي لا تتوافق مع التعاليم الدينية والقوانين والحالة الإنسانية، وقد أجمع المشاركون في الميثاق أن الحل هو العودة إلى القانون، وتنص بعض مواد الميثاق على الحد من ظاهرة الأخذ بالثأر ومنعها، وينص على “أي شخص يُقدم على قتل شخص بسبب الثأر، كان أخ القاتل أو قريبه، تعتبر هذه الجريمة ليست ثأراً، بل جريمة قائمة ومنفصلة عن الجريمة الأولى التي يراد الثأر بسببها.”
ويشير الميثاق أيضاً إلى أن أي عمل يُقدم على الإضرار بالممتلكات سواءً من القاتل أو أقاربه، فهي جريمة ويلزم بها التعويض وجبر الضرر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بمنع الاستثمار (عدم السماح لأهل القاتل من قبل أهل المقتول، بافتتاح المحال التجارية أو تأجير أراضيهم الزراعية) ويُعاقب عليها عرفياً بالتعويض.
من جهتها، ترى نشتمان خلف أنه هناك الكثير من الإجراءات التي يمكن القيام بها للقضاء على ظاهرة الأخذ بالثأر، وذلك عبر تعزيز سيادة القانون، وتطبيق العدالة بشكل عادل وشفاف، الأمر الذي سيعزز ثقة المجتمع المحلي بالنظام القضائي ويحد من اللجوء للانتقام الشخصي، كما أنه يجب سن قوانين تجرّم الثأر وتفرض عقوبات صارمة على ممارسيه، وتقديم الحماية للشهود والضحايا المتعاونين/ات مع النظام القضائي لكسر دائرة العنف.
“هناك حاجة لإطلاق حملات توعوية حول الآثار السلبية للثأر على الفرد والمجتمع، وتضمين مناهج تعليمية تركّز على قيم التسامح والسلام، وإنشاء لجان محلية تضم زعماء القبائل والشخصيات الدينية لحل النزاعات،” تقول نشتمان وتضيف ” كما أنه يجب العمل على إنشاء مراكز وساطة مجتمعية تقدم خدمات لحل النزاعات، وخلق فرص عمل، وتمويل المشاريع الصغيرة التي من شأنها تعزيز استقرار المجتمع.”
أما فيما يتعلق بدور منظمات المجتمع المدني والإعلام، ترى نشتمان أنه يجب دعم منظمات المجتمع المدني التي تعمل على تعزيز السلام والعيش المشترك، وتنظيم فعاليات ثقافية وفنية تجمع بين مختلف الفئات المجتمعية، إلى جانب استخدام وسائل الإعلام لنشر رسائل إيجابية حول أهمية السلام، وتقديم قصص نجاح في حل النزاعات بطرق سلمية، بالإضافة إلى إنتاج برامج وأفلام وثائقية تركز على العواقب الوخيمة للثأر وأهمية العدالة القانونية.
“تحتاج مثل هذه الظاهرة المواجهة على أكثر من صعيد عبر نشر الوعي تجاهها سواء عبر الإعلام أو المنظمات المدنية، وأن تكون هناك مشاركة من قبل رجال الدين لنزع أي شرعية متخيلة ومفترضة عن هذه الظاهرة، إضافة إلى أهمية تطبيق القوانين و وجود مؤسسات قضائية عادلة بعيدة عن الفساد والتسييس من قبل السلطات الحاكمة”. يقول جانو شاكر.
ختاماً، يمكن القول أن الظواهر السلبية التي تهدد حالة التماسك المجتمعي، فإنها تتغذى من حالة الفوضى التي تخلّفها سنوات الحرب الطويلة كما هو الحال في سوريا، وإن مواجهة هذه الظواهر من قبيل ظاهرة الأخذ بالثأر، تحتاج إلى تكاتف من قبل مختلف الجهات المعنية لمواجهتها ورفع الوعي تجاه مخاطرها، ولا يمكن تحقيق الأمر دون تفعيل دور مختلف هذه الجهات.