“أشعر بحالةٍ من الرضا حين أرى أطفالي ملتزمين بممارسة الأدوار التي أرسمها لهم داخل المنزل، تماماً كما تربّينا نحن،” تقول نور علي البالغة من العمر 33 سنة، والتي تنحدر من مدينة الدرباسية بشمال شرقي سوريا، وهي أم لطفلين، تحرص منذ ولادتهما أن ترسّخ في ذهنيهما أدواراً اجتماعية تتناسب مع القيم المجتمعية التي نشأت فيها، في محاولةٍ منها للحفاظ على توازن الأسرة بشكلٍ تقليدي، من وجهة نظرها.
“نجحت التعاليم التي فرضتها على طفلي، في خلق نسخةٍ مني ومن والدهما، ومن باقي أفراد المجتمع، فقد بدأ طفلي (10 سنوات) بتحمّل مسؤولياتٍ تناسب الذكور، وابنتي (8 سنوات) تتعلم المهام المنزلية التي أراها جزء من مسؤوليات النساء.” تقول نور.
أما سليمان مجيد المنحدر من مدينة الدرباسية والبالغ من العمر( 45 عاماً)، يؤكّد على أنه من الضروري منع ابنته من القيام بأية أنشطة، متعارف عليها على أنها تخص الذكور، من قبيل قيادة الدراجات، كما أنه يرفض طلبها المتكرر بمرافقته إلى مكتبه، مبرراً أنه من الأفضل أن تبقى الفتيات في المنزل فترة أطول مما يقضينه في الخارج.
“لقد تربّينا على بعض المفاهيم التي تربط دور النساء في أداء الواجبات المنزلية، في حين يتحمل الرجال المسؤوليات المتعلقة بتأمين مستلزمات عائلته، ولا يمكننا تجاوز هذه المفاهيم.” يقول سليمان.
تلعب العائلة دوراً محورياً في تشكيل صور نمطية للأدوار الاجتماعية لدى أطفالها/طفلاتها، حيث يبدأ التأثير منذ الطفولة المبكّرة، حيث يتعلّم/تتعلم الأطفال/الطفلات من خلال الملاحظة والتقليد، وإذا ما تم التفكير بالصور النمطية الجنسانية، فإنه وبحسب ما تراه اليونيسيف، قد يتم تشجيع البنات على اللعب بالدمى في داخل المنزل، بينما يتم تشجيع الأولاد على اللعب خارج المنزل، وبينما يعمل ذلك على تعليم البنات منذ سن مبكّرة أن يصبحن قائمات على الرعاية، إلا أنه قد يعيق قدرتهن على تطوير أنواع أخرى من المهارات الإدراكية والبدنية والاجتماعية. وعادةً ما يُعطى الأطفال ألعاباً من قبيل المسدسات البلاستيكية ليلعبوا بها، ويتم تشجيعهم على المشاركة في أنشطة بدنية وأحياناً أنشطة أكثر صعوبة وشدة بالاشتراك مع أولاد آخرين أو مع الذكور من القائمين على الرعاية، مما قد يشجع بروز تعبيرات غير صحية عن الذكورة.
مفاهيمٌ ساهمت في تشكيل أدوارٍ نمطية غير مرغوب بها بين الشباب والشابات
نشأت يارا بيجو (22 عام من مدينة قامشلي) في بيئةٍ تعزّز الأدوار النمطية للجنسين حسب رأيها، حيث اعتادت على رؤية أدوار محدّدة للفتيات وأخرى للفتيان، وافتقدت منذ طفولتها الحرية في اختيار ألعابها، فقد كانت تفضّل اللعب بالسيارات وألعاب البناء، إلا أن الدمى وأدوات الطهي كانت الألعاب التي فُرضت عليها بمبرّر أنها الألعاب التي تناسب الفتيات.
“وجدتُ نفسي مُجبرة على ارتداء الفساتين والتنانير بدلاً من الألبسة الرياضية التي فضّلتها دوماً، كنت أشعر بالإحباط، لكنني أخيراً استسلمتُ للأمر الواقع، وتقبّلت ما تمليه عليّ عائلتي.” تقول يارا وتضيف “مع اقتراب انتهاء دراستي للمرحلة الثانوية، حملتُ بالدراسة في كلية الإعلام، إلا أن عائلتي أصّرت أنه عليّ اختيار تخصص يليق بالفتيات، من قبيل التعليم أو التمريض؛ لقد قامت عائلتي بتشكيل شخصيتي وفق ما تراه مناسباً لها.”
لا يتقصر ترسيخ الأدوار الاجتماعية على العائلة، إنما يلعب الوسط المجتمعي المحيط أيضاً دوراً بارزاً في فرض هذه الأدوار على الجنسين، وذلك انطلاقاً من التعلّق بالعادات والتقاليد، والخوف من الاختلاف، وفق تجربةٍ يخوضها فواز خليل البالغ من العمر( 15 عاماً) من مدينة حسكة، والذي أحبّ دوماً أن يشارك في الأعمال المنزلية إلى جانب والدته وشقيقاته، ويفضّل اللون الزهري من مجموعة الألوان، إلا أنه تعرّض للتنمّر بشكلٍ مستمر من قبل أصدقائه في الحي.
“لم يبقَ التنمر في إطار الحي فقط، فقد امتد إلى المدرسة، وجعلني أشعر بالخوف من ردود الفعل السلبية تجاه السلوكيات التي أرغب في اتّباعها، وفجأةً وجدتُ نفسي مجبراً على التخلّي عن شخصيتي واتّباع ما يفعله أولاد الحي لأتماشى معهم.” يقول فواز.
في دراسةٍ أجريت في العام 2019، حول القوالب النمطية الجنسانية في مرحلة الطفولة المبكرة، فقد قال(45%)من الأشخاص إنهم/نّ عانوا/ين من القوالب النمطية المتعلقة بالنوع الاجتماعي، حيث كان من المتوقع منهم/نّ التصرف بطريقة معينة، وقال أكثر من نصف الأشخاص (51%) المتأثرين/ات إن ذلك يقيد خياراتهم/نّ المهنية، ويقول (44%) منهم/نّ إنه يضر بعلاقاتهم/نّ الشخصية، فيما تقول 7 من كل 10 نساء/شابات (18-34 سنة) متأثرات بالقوالب النمطية أن خياراتهنّ المهنية كانت مقيدة، واتفق (46%) من المشاركين/ات على ضرورة اتخاذ الحكومات إجراءات لتحدي القوالب النمطية المتعلقة بالجنسين.
إصلاح نظام التعليم خطوة فاعلة في مسار التغيير وتخطي القوالب النمطية
تلعب المدرسة دوراً حيوياً في تشكيل الأدوار الاجتماعية للطلاب والطالبات، فهي ليست فقط مكاناً للتعلم الأكاديمي، بل هي بيئة اجتماعية تؤثر بشكل كبير على تكوين شخصية الطفل من خلال توفير بيئة تعليمية داعمة ومتنوعة، بحسب ما تراه سمية عبد القادر خليل التي عملت مدرّسة في النظام التعليمي الحكومي السابق، وتعمل حالياً ضمن النظام التعليمي للإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا.
تتابع سمية “عندما كنت أعمل في النظام التعليمي الحكومي السوري، كان التركيز الكبير على المواد التقليدية التي تعزز الأدوار النمطية للجنسين. الفتيات كنّ يشجَّعن على دراسة مواد مثل التدبير المنزلي والتمريض، بينما كان الفتيان يشجَّعون على دراسة العلوم والرياضيات والهندسة.”
بدوره، يلاحظ نديم خليل، البالغ من العمر 52 عاماً من سكان مدينة حسكة، اختلافاً في محتوى المناهج التعليمية، ويذكر أن كتب القراءة التي درس منها تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى دور الأم كربة المنزل، ودور الأب كقائد أو رجل أعمال، بينما لم يجد نفس الصور المبطنة في كتب أبنائه الذين يدرسون في الوقت الحالي، في إشارةٍ منه إلى وجود تحسّن في مضمون المناهج التعليمية الحالية.
وعن أهمية الاستثمار في تدريب وتوعية المعلمين والمعلمات كجزء أساسي من عملية تغيير المناهج، تعتبر عزيزة أمين، عضوة لجنة التدريب في (مديرية التربية في الدرباسية)، أن تحسين المناهج لا يكفي بمفرده في ظل استمرار ترسخ القيم والأنماط القديمة بين المعلمين والمعلمات الذين/اللواتي درسوا/ن وتخرجوا/ن من نظام التعليم التقليدي، وتشدد بالقول “التحدي الحقيقي يكمن في تغيير الوعي والثقافة التعليمية لدى المعلمين والمعلمات، ومن الضروري إخضاعهم/نّ لبرامج تدريبية مستمرة تسلط الضوء على أحدث الطرق التعليمية وأفضل الممارسات في مجال التعليم، كما يجب أن تركز هذه البرامج على تعزيز المفاهيم الحديثة للمساواة والتنوع وكسر القيود الاجتماعية.”
رفع الوعي والتدخل الفعال من منظمات المجتمع المدني بداية الحل
“الحل يبدأ من توزيع المسؤوليات بين أفراد الأسرة بناءً على القدرات وليس الجنس، وتشجيع التواصل الفعّال داخل الأسرة، حيث يُعتبر الحوار المفتوح بين أفراد الأسرة أداة أساسية لتبادل الآراء والأفكار بحرية،” بهذه الكلمات يصف المختص التربوي يوسف أحمد من مدينة عامودا، أهم الخطوات التي يجب اتباعها داخل الأسرة، ويضيف “دعم التعلم المستمر لأفراد الأسرة وتشجيعهم على تحقيق أهدافهم الشخصية والمهنية بغض النظر عن الجنس، ضرورة ملحة للوصول إلى مجتمع خالٍ من الصور النمطية والتقليدية.”
ويؤكّد يوسف على أهمية إصلاح المناهج التعليمية للتخلص من التحيزات الجنسية الموجودة، وتشجيع استخدام مناهج تعليمية متطورة تعزز المساواة وتقبل الاختلافات بين الجنسين، ويشدد على ضرورة توجيه اهتمام الأهالي نحو هذا الجانب وتوفير الدعم لأطفالهم/نّ للتعامل مع تلك التحيزات بشكل فعّال وإيجابي.
إن الأسرة والمدرسة كيانان متكاملان، لذا لا بدّ من وجود تعاون بينهما، ومن غير الممكن تحقيق المساواة بين الجنسين من الأطفال والطفلات في ظل غياب الوعي الكافي لدى العوائل ودون وجود استراتيجيات فعالة من الجانبين، بحسب ما تراه عزيزة أمين.
“هناك الكثير من الأنشطة المدرسية التي من شأنها أن تساهم في تحقيق المساواة تدعم الخطوات المتبعة لنبذ الأدوار النمطية، منها عروض المسرح والأنشطة الرياضية للطلاب والطالبات، بالإضافة إلى الجلسات الحوارية مع الأهالي، ” تقول عزيزة وتؤكد على أهمية دعم الأهالي وتشجيع أطفالهم/نّ على حضور هذه الأنشطة والمشاركة في الجلسات.
بدوره يقول الناشط المدني حسين ديركي من الدرباسية إنه “تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً حيوياً في نشر الوعي حول الآثار السلبية للأدوار النمطية على الأفراد والمجتمع، وذلك من خلال ورش العمل والمحاضرات وحملات التوعية، ويمكن لهذه المنظمات أن تثقف الجمهور حول أهمية المساواة بين الجنسين.”
ويختتم حسين حديثه بالتركيز على ضرورة إخضاع جميع فئات المجتمع من كلا الجنسين لبرامج تدريبية وتعليمية تهدف إلى تعزيز المهارات وزيادة فرص المشاركة العادلة في جميع مجالات الحياة وذلك لتجاوز القيود الاجتماعية التقليدية والنمطية التي تعيق تقدم المجتمع.
تحقيق المساواة بين الجنسين في المجتمع يبدأ من الجذور، من تربية الأطفال/الطفلات وتعليمهم/نّ، ولا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ من التمييز على أساس الجنس دون النهوض بأجيال جديدة تنشأ على تربية قائمة على المساواة وتقدير التنوع، ويتطلب ذلك تعاوناً وثيقاً بين الأسرة والمدرسة ومنظمات المجتمع المدني، لضمان تبني استراتيجيات فعالة تهدف إلى نبذ الأدوار النمطية وتعزيز بيئة تعليمية واجتماعية تحتفي بالاختلافات وتقدر الإمكانيات الفردية للجميع.