جودة التعليم في أرياف شمال شرقي سوريا تحت المجهر

لم تكن رحلة ياسمين (فتاة عشرينية منحدرة من ريف مدينة ديريك/المالكية) في التحصيل العلمي سهلةً البتّة، فقد كانت محفوفة بتحدياتٍ على أصعدة مختلفة، لعل أكثرها تأثيراً على حالتها النفسية، هي ما عايشته من نظرةٍ فوقية تجاهها وتجاه زملائها وزميلاتها من القادمين/ات من القرى إلى المدن لاستكمال تعليمهم/نّ. 

“كنا نضطر للخروج من القرية قبل ساعات من بدء الدرس أو الامتحان، لنتمكن من الوصول في الوقت المناسب، وإن تسببت أزمة سير أو عطل في السيارة التي تقلّنا بالتأخر عن الموعد، كنا نواجه توبيخاً من المدرّسين/ات، وحالة من التعامل الطبقي من قِبل زملائنا ممن يسكنون المدن.” تقول ياسمين. 

لم تنتهِ معاناة ياسمين مع انتهاء الدراسة في المدارس، فقد واجهت تحدٍّ من نوع آخر بعد قبولها في جامعة الحسكة، حيث عايشت رفضاً من محيطها المجتمعي تجاه خروجها من القرية للدراسة في منطقةٍ أخرى، مبررين/ات حالة الرفض هذه بأنه لا يتوجب على الفتيات الابتعاد عن عائلاتهن، ولا يمكنهن الاعتماد على أنفسهن في مكانٍ بعيد عن منازلهن بحسب ما توضّحه ياسمين.

“وصل بنا الحال أحياناً إلى أن نفكر، هل بالفعل كوننا ننحدر من الريف فإن ذلك لا يخولنا طلب العلم بعيداً عن محيطنا الاجتماعي؟، كل ذلك كفيل بأن يحطّم أي شخص يرغب بالحصول على شهادةٍ علمية؛ فقدنا ثقتنا بأنفسنا وقدراتنا.” تقول ياسمين. 

في العديد من البلدان النامية، غالباً ما يكون حصول الشباب/الشابات على التعليم الجيد والتدريب محدوداً، وفي حالات أخرى، عادة ما تعمل نظم التعليم والتدريب بمعزل عن سوق العمل. وهناك أيضاً قيودٌ تتعلق بوصول الشباب إلى الأراضي والموارد الطبيعية والتمويل والتكنولوجيا والمعارف والمعلومات، وتصعّب كل هذه العوامل على الشباب اغتنام الفرص من أجل تحسين حياتهم والمساهمة في الاقتصاد الريفي، وعلاوة على ذلك، تستتبع العلاقات غير المتكافئة بين الجنسين والأدوار التقليدية صعوبات إضافية محددة للشابات الريفيات، بحسب دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة. 

تحدّياتٌ لا حصر لها يواجهها طلاب وطالبات الأرياف بمنطقة الجزيرة بشمال شرقي سوريا

يعيش محمد العزاوي في قرية العلوة الغربية، التابعة لبلدة الشدادي جنوبي مدينة الحسكة وتبعد عنها مسافة تقارب من 15 كم، ويضطر لدفع مبلغ 25 دولار أمريكي (ما يقارب 380 ألف ليرة سورية) شهرياً لوسيلة نقل تقلّ شقيقه الذي يدرس في المرحلة الإعدادية، حيث تقوم السيارة بنقل شقيقه مع مجموعة مؤلفة من عشرة طلّاب إلى معهدٍ يحصلون فيه على تقوية في المنهاج التعليمي، وتعود لتقلّهم إلى المدرسة التي يبدأ الدوام فيها بعد فترة الظهيرة، والواقعة في منطقة تبعد عن قريتهم مسافة 18 كم. 

يقول محمد إن غياب خدمات التوصيل لطلاب/طالبات الأرياف من قبل الجهات المسؤولة، يشكّل عبئاً إضافياً لأهاليهم/نّ، في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها عموم أهالي شمال شرقي سوريا، حيث يُجبر الكثير من العوائل إلى استدانة المال لتأمين تكاليف تعليم أطفالهم/نّ وطفلاتهم/ن. 

إن المدارس المتواجدة في بعض الأرياف تعاني من ظروف خدمية سيئة، بحسب راشد (اسم مستعار لمعلّم في السلك التربوي رفض الكشف عن اسمه نظراً لحساسية القضية من وجهة نظره)، حيث تغيب المنظفات، والمياه، والكهرباء، والاهتمام بدورات المياه، ووسائل التدفئة، وكل ذلك يؤدي إلى صعوبة حصول الطلاب والطالبات على تعليم جيد في الأرياف. 

“هناك الكثير من المدارس مسبقة الصنع، عبارة عن بيوت طينية تفتقد الأبواب والنوافذ، ويصعب التدريس فيها شتاءً بسبب تسريب المياه أثناء تواجد الطلاب فيها، الأمر الذي يدفع بهم إلى التغيّب في الأيام الممطرة.” يقول راشد. 

ويشير راشد إلى أنّ الظروف الاقتصادية تدفع بأهالي الطلاب والطالبات إلى تسريبهم/نّ من المدارس أثناء المواسم الزراعية، وينقطعون/ن عن التعليم في كل موسم زراعي، “في موسم الكمأ، ينقطع أكثر من 50% من الطلاب عن دراستهم للبحث عن الكمأ.” يقول راشد.

في هذا الصدد، يقول مصطفى فرحان الرئيس المشترك لـ”هيئة التربية والتعليم في إقليم الجزيرة” (تابعة للإدارة الذاتية)، إن الهيئة تعمل وفق مبدأ إلزامية التعليم والوارد في نظام الهيئة، حيث يُلزم بالتعليم كل طالب وطالبة من الصف الأول حتى الصف التاسع، وتقدّم الهيئة الخدمات التعليمية حتى ي/تنهي الطالب/ة دراسته/ها في المرحلة الثانوية، لكن يرى مصطفى أن تطبيق المبدأ على أرض الواقع ليس بالأمر السهل، نتيجة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، بالإضافة إلى الوعي المجتمعي فيما يتعلق بأهمية التعليم. 

“في إحدى المرات، قمنا باعتراض مجموعة من الطلاب أمام أحد مخيمات المنطقة، حين كانوا متوجهين للعمل في موسم زراعي أثناء فترة التعليم، لإعادتهم/نّ إلى المدراس، إلا أننا قوبلنا باستنكار من قبل أهاليهم، وطالبوا بتحسين واقعهم الاقتصادي، قبل منع أطفالهم من العمل.” يقول مصطفى، ويشير إلى أن نسبة التسرب من مدارس الأرياف أثناء المواسم الزراعية تصل إلى 80% في الكثير من المناطق. 

يخلق التسرب المدرسي آثاراً لدى الطالب/ة في ظل غياب الاهتمام بالجانب النفسي عند انقطاعه/ها عن التعليم، بحسب ما توضحه آنيا داري الاختصاصية في مجال الدعم النفسي، والتي تشير إلى أنه يتم التغاضي عن الصحة النفسية لأنها غير مرئية ويُعتبر قياسها صعباً، وبالتالي يمكن أن تتطور لدى الأطفال/الطفلات مجموعة من الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، إلى جانب مشاكل سلوكية يمكن أن يكون لها تأثير طويل المدى على التعليم والتقدم أثناء فترة الاستبعاد، مثل الانطواء واضطرابات النوم، وتغيّرات في الشهية، والإرهاق، وردود الفعل العاطفية من حزن وقلق وغضب. 

فتيات يُحرمن من التعليم باسم العادات والتقاليد 

“انحرمتُ من التعليم بسبب عائلتي، ولم أجد من يتمكن من التأثير على والدي للتراجع عن قراره،” تقول سلام الفتاة التي تبلغ من العمر 19 عاماً والمنحدرة من ريف بلدة تل كوجر/اليعربية، وقد اختارت اسماً مستعاراً خوفاً من الحديث باسمها الحقيقي، حيث أن افتقاد قريتها للمدارس بعد المرحلة الابتدائية، دفع عائلتها إلى رفض إرسالها لمدرسةٍ في منطقة مجاورة، بعد أن وصلت في تعليمها إلى مرحلة الإعدادية. 

تقول سلام إن العادات والتقاليد في محيطها المجتمعي كانت سبباً رئيسياً في حرمانها من التعليم، حيث تقوم هذه العادات على رفض التعليم للفتيات، أو انتقالهن إلى مناطق أخرى لاستكمال التعليم، “شعرتُ بفراغٍ كبير بعد أن تركت التعليم، وكنت أستيقظ كل صباح في توقيت بدء الدوام في المدرسة، وأتأمل الطريق المؤدي إلى مدرستي القديمة، لطالما تمنيت أن أصبح مدرّسة وأن أعلم أجيالاً من بعدي، لكن لم أتمكن من تحقيق أمنيتي تلك.” تقول سلام. 

“من عاداتنا، إن ظهرت على أية فتاة، مهما كان عمرها، أيّاً من علامات الأنوثة، فيتم إيقافها عن التعليم، ولا نملك سلطة القرار في ظل وجود الرجل إن كان أباً أو شقيقاً،” تقول منى (اسم مستعار لسيدة من ريف بلدة تل كوجر/اليعربية، رفضت التصريح عن اسمها للسبب ذاته، وهو الخوف من محيطها المجتمعي). 

تقول منى إن العادات المجتمعية قائمة على فكرة أن التعليم لا يفيد طالما أن مصير كل فتاة هو الزواج، وقد زادت تبعات الحرب الطين بلّة، فإن الخوف من حالة غياب الأمان يدفعهم/نّ للرفض القاطع لخروج الفتيات من الإطار الجغرافي لقراهنّ. 

من جهتها، تقول آنيا داري إنه وخلال عملها مع الفتيات في المناطق الريفية، وجدت أن معدلات الانفعالات العاطفية للفتيات تكون أكبر من أقرانهن الفتيان، وتتناسب هذه المشكلات طرداً مع تقدمهن بالعمر، وتشير إلى أن الريف في دير الزور يشهد نسب عالية من فتيات لم يلتحقن بالمدارس، وتعود الأسباب إلى سوء جودة خدمات التعليم، وصعوبة الوضع الاقتصادي لعوائلهن.

التعليم في الريف بحاجة إلى حلول جذرية تبدأ من فهم طبيعة الأسباب المؤدية لتدهوره

إن رفع الوعي بقضايا التعليم هو مسؤولية مجتمعية ومن ثم يمكن اعتبارها مسؤولية فردية، حيث لا يمكن الضغط على العوائل والطلاب/الطالبات دون فهم أسباب المشكلة، لذا فإنه من الضروري الاستماع إليهم/نّ، ومن ثم إيجاد حلول تتناسب مع الوضع على أرض الواقع، بحسب ما توضحه الباحثة والناشطة النسوية هبة محرز، والتي تشير إلى أن الأساس هو تحديد نوع المشاكل إن كانت اقتصادية أو متعلقة بالبنى التحتية، أو بالعادات والتقاليد. 

وتضيف هبة أنه من المهم التفكير بطرق غير تقليدية، لاستعادة ثقة الطلاب/الطالبات، والأهالي، بالتعليم والمدارس، في ظل ضرورة عمل الجهات المسؤولة على فهم التحديات الموجودة، كما يمكن التعويل على منظمات المجتمع المدني لنزع الترهيب من العملية التعليمية، واستبدالها بطرق من قبيل التعليم البديل.

“من المهم التركيز على شرح مستقبل التعليم، بالتوازي مع مستقبل الطلاب، وبذلك تتم الإضاءة على أهمية عدم فصل موضوع تعليم الفتيان عن تعليم الفتيات، في ظل وجود تعقيدات لتعليم الفتيات والتي تتعلق بالبيئة المجتمعية التي تمارس حرمان الفتيات من التعليم،” تقول هبة وتشير إلى أنه من المفيد مشاركة الطلاب والطالبات في حلقات النقاش والتي من شأنها خلق جيل يتمتع بمنطق سليم لأهمية تعليم الفتيات، ويكون هذا الجيل نفسه جزءاً من الحل. 

أما مصطفى فرحان فإنه يوضح أن هيئة التربية والتعليم تقوم بخطوات عديدة بهدف تحسين واقع التعليم في الريف، منها الاجتماع مع عوائل الطلاب والطالبات، شهرياً، لمناقشة مشكلات التعليم، وشرح أهمية التعليم لبناء المجتمع، إلا أن الاستجابة ضعيفة، الأمر الذي يؤثر سلباً على تطبيق المشاريع التي تنفذها الهيئة.

“يجب رفع الوعي المجتمعي بأن التعليم هو السبيل للنهوض بالمجتمع، وفي الوقت ذاته، يجب العمل على تحسين الواقع الاقتصادي لإنهاء الأسباب التي تؤدي إلى مشكلات التسرب المدرسي، ونناقش هذا العامل بكثافة في اجتماعاتنا الدورية.” يقول مصطفى. 

عملت بيمان قاسم مدرّسة لأكثر من 13 عام في مدينة ديريك/المالكية، وترى أن الحل لمشكلة سوء جودة التعليم في الأرياف تكمن في البدء بإيجاد حلول جذرية بدءاً من الحلول السياسية، ثم الاقتصادية، بالتزامن مع الاستقرار الأمني، ثم البدء برفع الوعي المجتمعي، حول تعزيز دور الأسرة في إيلاء الاهتمام اللازم للتعليم، وذلك لا يمكن تحقيقه إذا لم تُسَن قوانين دستورية متعلقة بالعلم والتعليم، وضمان حق الطفل/ة في التعليم وفق الأعراف والقوانين الدولية، ومنع تشغيل الأطفال/الطفلات، ومعاقبة من يقوم بذلك، إلى جانب قوانين تمنع تزويج القاصرات. 

“لا يمكن البحث عن حلول لتحسين واقع التعليم في الريف دون البحث عن حلول لتحسين واقع المعلمين/ات، على اعتبارهم/نّ جزء رئيسي من الحل، فإن تهميش الوضع الاقتصادي لهم/نّ ينعكس سلباً على وضع الطالب/ة في المدارس.” يقول راشد المدرّس في مدارس جنوب الحسكة.

تعاني الأرياف أثراً مضاعفاً لأي واقعٍ سلبي تواجهه مناطق شمال شرقي سوريا، وقضية التعليم في الأرياف إحدى القضايا التي تستوجب إيجاد حلول جذرية بعد الفهم الواضح لأسباب سوء خدمات التعليم فيها، سواءً أكانت أسباب متعلقة بتبعات الحرب السورية، أو تلك المتعلقة بالعادات والتقاليد والتي تستوجب العمل على رفع الوعي المجتمعي تجاهها، سعياً للوصول إلى مجتمع وجهات مسؤولة تقدّر أهمية التعليم لبناء مجتمع نامٍ.