حين تتحول المخدرات إلى وقود للعنف

لم تتوقع آمنة يوماً أن تحوّل المخدرات ابنها من شابٍ هادئ ومعيل لعائلته، إلى مرتكب جريمة قتل بحق أفراد عائلته، آمنة السيدة التي تقطن مدينة الرقة، فضّلت عدم الكشف عن اسمها الحقيقي نظراً لما تتركه قضايا المخدرات وما تتبعه من مشكلات تصل إلى القتل، من وصمٍ اجتماعي لا زالت تعاني منه حتى الآن. 

“كان ابني العشريني قد قرر البقاء لرعايتنا أنا ووالده بعد سفر إخوته خارج البلاد، وقمنا بتزويجه، في الوقت الذي بدأ فيه العمل مع والده، لقد كانت حياتنا هادئة إلى حين تلك الليلة المشؤومة التي أفقدتنا أفراد عائلتنا على يد ابني.” تقول آمنة.

بعد أن رُزق عماد (اسم مستعار للشاب العشريني من مدينة الرقة) بطفله الأول، بدأت سلوكياته تتغير، وبدأ يميل للعصبية الزائدة واختلاق المشكلات مع العائلة، إلى جانب غيابه لساعاتٍ طويلة عن المنزل، وذلك بعد أن تعرّف على مجموعةٍ من الأشخاص لم يسبق له أن جمعته أية علاقة بهم، بحسب ما ترويه آمنة.

وتقول آمنة إنه في إحدى الليالي من العام 2019، وعند تناول العائلة لوجبة العشاء، قام عماد بشكل مفاجئ بهدف لقاء أصدقائه سابقي الذكر بعد اتصالهم به، وحين حاولت زوجته منعه من الذهاب مبررةً أن عائلته تحتاج إلى وجوده بجانبهم، لم يتمالك نفسه وقام بضرب زوجته التي حاولت أن تفلت نفسها من بين يديه، وهربت إلى مطبخ المنزل حاملةً طفلها الصغير، وعند لحاقه بها قام بطعنها مرات عديدة، كانت إحداها من نصيب الطفل، وعند محاولة الأب أن يوقف ما يقوم به ابنه، نالته طعنةٌ منه في عنقه.

تستذكر آمنة تلك اللحظات بتنهيدةٍ طويلة، وتصف حال ابنها الذي وقف في مكانه بذهول ودون أية حركة، أما هي فقد خرجت من المنزل وبدأت بالصراخ وطلب المساعدة، وحين وصلت العائلة إلى المشفى كانت زوجة عماد وطفله وأبيه قد فارقوا الحياة، أما هو فقد ألقت قوات الأمن القبض عليه.

“لم أحتمل الصدمة حينذاك، وما زاد من صدمتي حين أخبرني المحامي أن ابني كان متعاطياً للمخدرات، وهي التي سببت له نوبات العصبية طيلة تلك الفترة، وحوّلته إلى مجرمٍ قتل عائلته.” تقول آمنة. 

من جهتها، ذكرت شقيقة الزوجة التي فضلت عدم ذكر اسمها، أن شقيقتها اشتكت على الدوام خلال الفترة التي سبقت مقتلها، من سلوكيات زوجها، ووجود المشاحنات المستمرة بينهما، في ظل عدم تقبّله لطفله، كما أن شقيقتها اشتكت من تعرّضها للضرب على يد زوجها بشكل متكرر، إلا أن موقف عائلتها اقتصر على طلب الصبر واصفين الأمر بـ”أزمةٍ عائلية” وسوف تمضي، إلا أن الثمن كان فقدانها لحياتها. 

في تقريرٍ يعود للهيئة الدولية لمراقبة المخدرات، والذي صدر في العام 2023، فإن ارتباطاً وثيقاً يجمع بين تعاطي المخدرات، وحدوث اضطرابات عقلية وسلوكية، الأمر الذي يفرض إيلاء الاهتمام وإعطاء الأولوية لقضية الصحة العقلية في إطار الجهود الرامية إلى الوقاية من اضطرابات تعاطي المخدرات وعلاجها. 

الحياة بعد المخدرات ونتائجها .. شبيهةٌ بالموت البطيء

بعد اعتقال عماد، حُكم عليه بالسجن لثماني سنوات، إلا أن تدهور حالته الصحية دفع بالمحكمة لإطلاق سراحه بعد مرور سنتين على سجنه لمتابعة العلاج، وتقول والدته إنه خرج من السجن في حالةٍ يُرثى لها، وفقد الكثير من وزنه رغم تعافيه من إدمان المخدرات، كما أنه دخل حالةً من العزلة، وتعرّض لنوبات بكاءٍ شديدة كان يفقد وعيه بعدها، وبعد قيام والدته بمحاولات عديدة لمعالجته من خلال مراجعة أطباء مختصين/طبيبات مختصات، تم تشخيصه بالإصابة بمرضٍ يُعرف بـ “الرهاب” الذي جعل من وضعه في تأزمٍ مستمر. 

وترى الباحثة الاجتماعية ابتسام السلوم أن تعاطي المخدرات من أبرز المشكلات المجتمعية التي تحدث شرخاً أُسرياً، وتخلق حالةً من الشرخ الاجتماعي بين أفراد المجتمعات عامةً، فالمواد المخدرة بحسب رأي الباحثة تدفع بالمتعاطي/ة إلى فقدان الإدراك بالسلوكيات، ويمكن اعتبارهم/نّ ضحايا للانتشار الكثيف لهذه المواد في السنوات الأخيرة، في ظل غياب الرادع القانوني لمنع التعاطي. 

وفي هذا الصدد، يقول الحقوقي كاوى فاطمي إن القوانين التي تجرّم الترويج وتعاطي المخدرات موجودة في القوانين السورية، إلا أن عدم نجاعتها، دفعت بالسلطات القانونية في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، إلى تطوير قوانين أشد وأكثر صرامة عما كانت عليه سابقاً. 

“وُضعت المادة (242) وهي مادة تجرّم بشكل علني تعاطي المواد المخدرة بكافة أنواعها، والتي تعاقب بالسجن المتراوح من ستة أشهر إلى 15 سنة، بالإضافة إلى دفع غرامات مالية حسب التهمة بدءاً من التعاطي وانتهاءً بالترويج وما يتبعه من جرائم.” يقول كاوى. 

ومن الملاحظ في السنوات الأخيرة أن هذه المواد المخدرة قد انتشرت بين فئة الشباب بنسب كبيرة جداً، مما يفرض إيجاد حلول أمنية واجتماعية للتخلص منها أو حتى الحد منها، بحسب كاوى الذي يرى أنّ تطبيق القانون على الجميع وتحقيق العدالة يُعتبران من الحلول الحقيقية الرادعة لاستخدام المخدرات، وتعتبر المؤسسات المجتمعية لها الدور الأكبر بمنع تداول هذه المواد أو التنبيه لخطورتها ليأتي دور المحاكم والقانون.” 

عايشت آمنة والدة عماد معاناةً كبيرة وسط محاولاتها المتكررة لتعافيه، إلا أن حالته الانطوائية باتت في ازدياد، ويحاول الهرب من لقاء الأقارب أو المعارف أو حتى الجيران، ويبدأ بالتصبب عرقاً كلما قابل أحدهم/إحداهنّ، وتقول آمنة “من التبعات المؤلمة لما حدث لعائلتنا، كانت الكلمات القاسية التي سمعتها من محيطي المجتمعي، كانوا يتساءلون باستغراب، كيف يمكنني احتواء مجرمٍ في منزلي، لذا فقد انتهى بنا الأمر بقيام إخوته باستكمال إجراءات سفره إليهم لتلقي العلاج اللازم.”

إن الوصم الاجتماعي هو أول ما سيقابله المتعاطي للمخدرات بعد انتهاء رحلة الشفاء، بحسب ما تراه الباحثة الاجتماعية ابتسام، والتي تؤكد ضرورة العمل على تقديم العلاج للمتعاطيين/ات من كافة الجوانب لتخفيف آثار التعاطي، بدءاً من التأكد من خلو الجسم من تأثير المواد المخدرة، وانتهاءً بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي والذي يكون منطلقه من العائلة والمحيط الاجتماعي المقرّب. 

يتواجد عماد في إحدى الدول الأوروبية، وقد خضع لعلاجٍ نفسي وعصبي، ويبدأ محاولاته للاندماج مع المجتمع الجديد، كما أنه بدأ العمل مع شقيقه، بحسب ما تصفه آمنة لما آل إليه حال عماد، واصفةً إياه بأنه يعود للحياة بعد أن أحرق عمره وقتل عائلته، وأنه لن يتمكن يوماً على المدى القريب من العودة لبلده لما يخشاه من النظرة المجتمعية التي لحقت به. 

“أخبري العالم أن عماد مات، قتل ثلاثةً من أفراد عائلته، ودُفنوا تحت التراب، أما أنا فميتٌ فوق التراب.” تقول آمنة أن هذه الكلمات التي تسمعها من ابنها في كل اتصال يجمعها به. 

إن الحلول لظاهرة انتشار المخدرات وما يتبعها من تفكك اجتماعي وتعنيف أسري وغيرها من الآثار المهددة للمجتمع ككل، تكمن في تحقيق التكامل بين عمل مختلف الجهات المعنية، بدءاً من أفراد المجتمع، وصولاً إلى الجهات المسؤولة، ومنظمات المجتمع المدني المعنية بنشر الوعي على كافة الأصعدة، وإيجاد مساحات آمنة من قبل العوائل لأبنائهم/نّ وبناتهم/نّ لمنع تفاقم المشكلات، بحسب ما تراه ابتسام

إن تأثير المخدرات على زيادة العنف الأسري وغيره من المشكلات المهددة للتماسك المجتمعي، لا يمكن اعتباره قضية فردية، بل هو تحدٍّ مجتمعي يتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية، والتصدي لها يبدأ من الوعي والتثقيف، ويمكن اعتبار أن كل خطوة نحو مكافحة المخدرات، هي خطوة نحو بناء مجتمع أكثر استقراراً وأماناً.