الحرب السورية تحرم الشدادي من المياه الآمنة

“أخبرتني الطبيبة الاختصاصية أنه ينبغي علي شرب المياه من مصادر نظيفة، وإلا فإن جنيني سيكون معرّضاً للخطر.” تقول منال (اسم مستعار) المنحدرة من بلدة الشدادي جنوبي مدينة حسكة، والحامل التي تسببت لها المياه غير الآمنة، بالإصابة المتكررة بالتهاب المجاري البولية، ليتبين فيما بعد وجود رمل وحصى صغيرة في الكلى لديها.

يعيش أغلب أهالي بلدة الشدادي معاناةً مستمرة لأكثر من عشر سنوات، نتيجة وصول مياه غير آمنة إليهم/نّ بعد انحسار مياه نهر الفرات، والتي كانت تعتبر مصدراً رئيسياً لمياه الشرب في البلدة، وعلى الرغم من الحلول المؤقتة التي أوجدتها الجهات المعنية (بلدية البلدة)، إلا أنها لم تفِ بالغرض، حيث يضطر الأهالي في البلدة وريفها إلى شراء المياه المعبأة في الصهاريج، مخلّفةً أعباء اقتصادية تزيد من صعوبة المعيشة، بحسب ما يوضحه أحمد العلي من سكّان البلدة.

يشير أحمد إلى إن بلدية البلدة خصصت 1000 ليتر من الماء شهرياً، ولمرة واحدة لكل عائلة في الشدادي، إلا أن هذه الكمية من المياه يتم استخدامها خلال أقل من أسبوعين، وعلى الرغم من أنهم/نّ يقومون/ن بشراء المياه من الصهاريج الخاصة للأيام المتبقية من الشهر، إلا أنها أيضاً تسبب أمراضاً لدى الأطفال والطفلات من قبيل الإسهالات الحادة، والتهاب الأمعاء، بينما يتم الاعتماد على مياه الآبار المنزلية في التنظيف.

يقول أحمد: “نشتري 1000 لتر من المياه من الصهاريج التابعة للبلدية لمرة واحدة شهرياً بمبلغ 26 ألف ليرة سورية (ما يعادل 2 دولار أمريكي)، ونضطر لشراء حاجتنا المتبقية من المياه من الصهاريج الخاصة في مدينة حسكة، بسعرٍ يصل إلى ما يقارب من 90 ألف ليرة سورية (ما يعادل 6 دولار أمريكي) للخزان الواحد.”

تشير منال إلى أن عائلتها المكوّنة من ستة أشخاص، تحتاج إلى كمية مياه شهرياً بمبلغ يصل إلى 150 ألف ليرة سورية (ما يعادل 10 دولار أمريكي)، وتزداد مخاوفها على صحتها وصحة جنينها نتيجة استخدام المياه غير الآمنة في ظل حملها وإصابتها بمرض فقر الدم، وتنويه الطبيبة المختصة المتكرر إلى ضرورة توقفها عن شرب المياه التي يحصلون/ن عليها من الصهاريج.

مياه الشدادي غير آمنة.. والسعي للحصول عليها يخلق مشكلات مجتمعية وصحية

تزداد معاناة أهالي البلدة مع أزمة المياه عند قدوم فصل الصيف وزيادة الحاجة إلى استخدام المياه، لذا فإن صعوبة الحصول عليه، يخلق بعض المشكلات المجتمعية من قبيل النزاعات والخلافات بين أهالي البلدة أنفسهم/نّ، وبينهم/نّ وبين الجهات المعنية، بحسب ما يوضّح دحّام الجاسم من أهالي قرية الجرمز في ريف بلدة الشدادي.

ويوضّح دحّام أنهم/نّ يعتمدون/ن على مياه الآبار للاستخدام المنزلي وسقاية الحيوانات، أما مياه الشرب فإنهم/نّ يقومون/ن بشرائها من الصهاريج، التي يتم توفيرها بصعوبة بالغة بعد ضغطٍ من المسؤولين/ات في الكومينات (المجالس المحلية)، كل ذلك يتسبب بحدوث خلافات وملاسنات بين الأهالي أنفسهم/نّ، وبينهم/نّ وبين الجهات المعنية، في ظل وجود المحسوبيات التي تؤثر على تكافؤ الحصول على المياه.

يقول دحام: “نضطر أحياناً إلى استئجار سيارة خاصة لنقل الخزان إلى المحطة لتعبئته بعد انتظارٍ يدوم لساعات طويلة، نكون فيها قد تركنا أعمالنا، وتكبّدنا تكاليف مالية لا تتناسب مع دخلنا الشهري.”

من جهتها، أوضحت فاطمة العبد لله الرئيسة المشتركة لبلدية الشعب في الشدادي أن البلدة تملك محطّتَيْ تحلية، خرجت إحداها عن الخدمة وتحتاج لصيانة لا يمكن تحمّل تكاليفها في الوقت الحالي، لذا فإنهم/نّ يعتمدون/ن بشكلٍ كامل على المحطة الأخرى لتغطية حاجة المدينة، كما أنهم/نّ يملكون/ن خمسة صهاريج مخصصة لتوزيع المياه على أهالي البلدة أما بالنسبة للريف، فإنهم/نّ تعاقدوا/ن مع صهاريج خاصة يبلغ عددها 35 صهريجاً، على أن تبيع جميعها المياه بسعرٍ موحد يبلغ 25 ألف ليرة سورية (ما يعادل دولار أمريكي ونصف).

وتشير فاطمة إلى أن الصعوبات تمكن في ارتفاع تكاليف صيانة محطات التحلية، مما يؤدي إلى نقص في الإنتاج وسوء في الجودة، منوّهة إلى أن عدم وجود تعاون كافٍ من قبل الكومينات يخلق صعوبة لدى بعض الأهالي للحصول على المياه.

بعد التواصل مع العديد من أهالي البلدة تبيّن أن سعر المياه التي تخصصها البلدية غير موحّدة السعر، حيث توضح رانيا (اسم مستعار) المقيمة في ريف بلدة الشدادي أنهم/نّ يقومون/ن بشراء 1000 لتر مقابل 35 ألف ليرة سورية (ما يعادل 2 دولار أمريكي)، وتتفق مع أحمد أن الكمية لا تكفي سوى لأسبوعٍ واحد، نظراً للحاجة المحلّة لكمية معينة من المياه يومياً، سواءً للغسيل أو الاستحمام أو لسقاية الحيوانات، في ظل عدم صلاحية مياه الآبار للاستخدام حيث تخرج المياه مالحة من الآبار الجوفية في البلدة.

تقول رانيا: “عانيتُ شخصياً من التهابات في المجاري البولية، وآلام في المعدة، وأصبت بجرثومةٍ في أمعائي، إن معاناتنا مع المياه غير الآمنة كبيرة جداً، ولا حلول تلوح في الأفق.”

وعلى صعيد الأمراض النسائية، فإن ليلى حسن الاختصاصية في أمراض النساء، أوضحت أن المياه غير الآمنة أثّرت بشكل كبير على صحة النساء وخاصةً الحوامل منهنّ، حيث تتسبّب هذه المياه في الإصابة بالتهابات مجرى البول، بالإضافة إلى الأمراض الجلدية من قبيل الأكزيما والطفح الجلدي، والأمراض التي تنتقل عن طريق المياه، مثل الجيارديا التي تسبب الإسهال والتقيؤ وآلام البطن.

وتنوّه ليلى إلى أن النساء الحوامل معرّضات بشكل خاص للإصابة بالتسمم وأمراض الجهاز الهضمي، التي تؤثر على الجنين سلباً، كما أن التسمم بالمياه الملوثة قد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة من قبيل الفشل الكلوي، والتهاب الكبد، ومن جهةٍ أخرى، فإن نقص التغذية الناتج عن تلوث المياه يزيد من مخاطر الولادة المبكّرة وانخفاض الوزن.

خلال الشهر الفائت، استقبل محمد الجراح الطبيب المختص بأمراض الأطفال والطفلات ببلدة الشدادي أكثر من 200 حالة إصابة بالأمراض المعوية، والتي كان سببها الرئيسي شرب مياه غير آمنة، وتراوحت الحالات بين إسهالات حادة والتهابات معوية لدى الأطفال والطفلات.

ويوضح الطبيب المختص أن معالجة المياه منزلياً غير كافٍ لاعتبارها آمنة للشرب، وهناك حاجة ملحّة ومستعجلة لتحسين جودة المياه التي تصل لأهالي البلدة وريفها، واستمرار استخدام المياه المتوفرة حالياً سيزيد من معدلّات الأمراض وانتشارها بين السكّان والساكنات، الأمر الذي ينذر بتهديد حقيقي للصحة العامة.

أزماتٌ تخلّفها الحرب وتهدد بنية المجتمع .. أزمة المياه في مقدّمتها

قبل العام 2011، كانت بلدة الشدادي تعتمد بشكلٍ رئيسي على مياه نهر الفرات، التي كانت تمر بعدة محطات تصفية متقدمة، تقوم بتنقية مياه النهر لتصبح آمنة وصالحة للشرب، فقد كانت المياه تصل إلى محطة الصبحة، ومن ثم تُضخ إلى محطة الصور، ثم إلى محطة الشمساني، ومنها إلى محطة العزاوي، لتصل أخيراً إلى بلدة الشدادي صالحةً للشرب ومختلف الاستخدامات البشرية والزراعية والحيوانية، بحسب ما يوضّحه محمد النزال المهندس الزراعي من بلدة الشدادي.

أما ما حدث بعد العام 2011، فيشير محمد النزال إلى أنه وبعد انحسار مياه نهر الفرات، لجأ الأهالي إلى استخدام مياه الآبار الجوفية، وتحليتها بطرق بسيطة، وقد أدى هذا التحوّل إلى تراجع كبيرة في جودة المياه، حيث تعتبر التقنيات التي استخدموها/استخدمنها غير كافية لإزالة جميع الملوثات، كما أن الاعتماد بشكل رئيسي على الآبار الجوفية، أدى إلى استنزاف الموارد المائية الباطنية بشكل كبيرة، الأمر الذي يهدد مستقبل الماء في المنطقة.

مياه آمنة

وقد حصلت نيكستوري على معلوماتٍ من مصادر رفضت الكشف عن اسمها، بعد أبحاثٍ قامت بها، تفيد أن ملوحة المنطقة في بلدة الشدادي، تتراوح بين 2400 إلى 5000 ملغ/لتر بحسب الحي، أما بالنسبة للقرى في الخط الغربي والتي تتضمن قرى عدلة، وجرمز، والعلوة، فإن الملوحة تصل إلى 3500 ملغ/لتر، وفي الخط الشرقي من ريف البلدة والتي تعتبر الأكثر تضرراً وهي قرى الحريري، والعوض، والحنة، والرشيدية، والمالحة، فإن الملوحة تبلغ 6000 ملغ/لتر في حدها الأدنى، علماً أن نسبة الملوحة الطبيعية في المياه الصالحة للشرب تتراوح بين 300 و600 ملغ/لتر.

توضّح الناشطة المدنية ناز حمي أن الكثير من الأزمات التي خلّفتها الحرب السورية الممتدة لأكثر من عشر سنوات، تنذر بمشكلات مختلفة تهدد بنية المجتمع، وتشكّل خطراً حقيقياً على حالة السلم الأهلي نتيجة نشوء حالة من النزاع على الموارد الشحيحة نتيجة هذه الأزمات، وتعتبر أزمة المياه في عموم شمال شرقي سوريا في مقدّمتها نتيجة طبيعة المنطقة التي تعتمد على الأعمال الزراعية بشكلٍ رئيسي.

وتشير ناز إلى أن النزاع على الموارد في مجتمعات متنوعة بانتماءاتها، تنذر باحتمالية تحوّل هذه النزاعات إلى نزاعات عرقية وطائفية بين مجتمعات شمال شرقي سوريا، والتي تهدد السلم الأهلي بشكل مباشر نتيجة النزاع على الموارد، كما أنها تؤثر بشكل رئيسي إلى عمليات التنمية، من خلال تأثيرها على الاقتصاد المحلي المعتمد بشكل رئيسي على الزراعة، وبالتالي حصول ضرر للصناعات المحلية وفقدان الكثير من الأهالي لأعمالها، وتراجع الإنتاج الغذائي، وينعكس سلباً على الأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية في المنطقة.

تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً هاماً في أزمة المياه، وفق ما تراه ناز، وذلك من خلال توفير المياه الآمنة للأهالي، وحفر الآبار، وبناء أنظمة لتنقية المياه، وتوفير الخزانات، والمساهمة لنقل المياه الصالحة للشرب إلى الأماكن الأكثر حاجة لها، كما أنه يجب عليها تحسين مرافق الصرف الصحي، وخاصة في المخيمات، والعمل على نشر التوعية الكافية فيما يتعلق بالنظافة والتعقيم، وتدريب المجتمعات المحلية على ترشيد استخدام المياه، وتسليحهم/نّ بالوعي الكافي لمواجهة هذه الأزمات، كما أنه يمكنها تأمين فرص عمل لأبناء المناطق المتضررة من خلال مشاريعها القائمة على توفير سبل العيش، لتخفيف وطأة التأثير الاقتصادي لهذه الأزمات.

تبقى مواجهة الأزمات التي تخلّفها الحرب رهن التشبيك والتعاون بين مختلف الجهات المعنية، سواءً أكانت السلطات المحلية، والمنظمات الإنسانية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، إلى جانب الوعي المجتمعي فيما يتعلق بالمبادرة إلى العمل على إيجاد الحلول لتخفيف أثر هذه الأزمات، عبر التعاون والعمل الجماعي.