الوصم الاجتماعي .. حاجزٌ يعزز التمييز والإقصاء

لم يعلم عامر وعائلته أن امتناعهم/نّ عن قتل ابنتهم/نّ بداعي”الشرف”، سيضع العائلة أمام ضغطٍ مجتمعي انتهى بتركها لمنزلها، وانتقالها إلى مدينة أخرى لتجنّب هذه الضغوط.. كان الحفاظ على ابنتهم/نّ قراراً كبيراً ينبغي لهم/نّ تحمل الكثير من الضغوط بسبب

اختار “عامر” اسماً مستعاراً أثناء الحديث عن تجربته، لما تحمله هذه القضية من حساسية مجتمعية، لا زالت تطال العائلة حتى الآن، والتي لم ترضخ لضغط المحيط العائلي الأكبر لقتل ابنتها التي اختارت الزواج بشخصٍ لم يلق الموافقة من العائلة، لذا فقد اختارت الزواج به دون رضاهم/نّ

“كنت صغيراً حين تزوجت شقيقتي، وبدأت تنهال على والدي كلماتً قاسية من أعمامي، أذكر حين أخبروه أنه يجب أن يغسل عاره وإلا فإنه ليس برجل.” يقول عامر الثلاثيني المنحدر من مدينة الدرباسية ويستذكر الحالة التي عاشها والده ووالدته من حيرة وقلق وضغط نفسي، حيث رفض والده أن يمس الابنة بأي ضرر، وإن كانت قد تزوجت بدون رضاه، فإن ذلك لا يستدعي أن يُلحق بها أي أذى، إلا أن أشقائه وضعوه أمام خيارين، إما قتلها، أو حرمانه من حقه في الميراث، لكنه اختار أن يترك المدينة ويحافظ على حياة ابنته وتركها لتعيشها كما ترغب مع الشخص الذي تحبه. 

“اخترنا الطريق الذي سينهي دائرة عنف لا ينتهي أذاها وأثرها على العائلة ما حيينا، وعوضاً عن تلقينا الدعم من محيطنا المجتمعي، إلا أن قرار والدي قوبل بالكثير من الكره والعداء، والحرمان من العائلة والممتلكات.” يقول عامر.

عايشت عائلة عامر وصماً اجتماعياً نظراً لرفضها تبني فكراً مجتمعياً يقضي بقتل النساء إذا ما فعلن أي شيء خارج نطاق القيم المتعارف عليها، ولا يقتصر الأمر على هذه القضية فحسب، فهو يحمل معاييراً مختلفة، كالمعاناة التي عايشتها نوفة (28 سنة من مدينة حسكة)، بسبب امتلاكها بعض المواصفات الجسدية والشكلية التي لا تتناسب مع معايير الجمال في مجتمعها حسب ما توضحه، بالإضافة إلى عدم قدرتها على الإنجاب

“حين تزوجت، بينتُ آمالاً كبيرة على إيجاد الحب والأمان مع عائلة زوجي، إلا أن تعاملهم معي كان عنصرياً لأن مظهري الخارجي لا يتناسب مع نظرتهم للجمال، وما زاد الطين بلة، عدم قدرتي على الإنجاب لوجود جرثومة في دمي.” تقول نوفة.

عايشت نوفة وصماً اجتماعياً من نوعٍ آخر، فقد كان يومها مليئاً بالانتقادات والسخرية، والعيش تحت وطأة النظرات والكلمات الجارحة، التي لم تتمكن من تجاوزها يوماً، والتي أشعرتها أنها شخص غير مرغوب به في وسطها القريب.

أما حميد (اسم مستعار لشاب عشريني من مدينة الدرباسية)، فإنه يعاني من مرض التصلب اللويحي، والمعروف بـ “الصرع”، ولم يسلم من التمييز والرفض المجتمعي نتيجة للنظرة المجتمعية تجاه المصابين/ات بهذا المرض. 

“جميع محاولاتي للاندماج مع المجتمع، أو البحث عن عمل، باءت بالفشل، فالناس من حولي لا يرون فيّ إلا الإنسان المريض بالصرع، الأمر الذي يدفعهم للشعور بالخوف منّي،” يقول حميد واصفاً تجربته التي أنتجت مواقف قاسية، خاصةً حين قوبل بالرفض من قبل عائلة الفتاة التي أحبها، مبررين/ات الرض بأن مرضه لن يمكّنه من تأمين “حياةٍ كريمةٍ” لها

وتعرّف اليونيسيف الوصم الاجتماعي على أنه تصنيفاتٌ تُلصق بشخص أو مجموعة من الأشخاص، وبالتالي تميّزهم/نّ عن طريق تسليط الضوء سلباً عليهم/نّ، وعزلهم/نّ عن الآخرين. 

وعندما يتمّ تكوين معتقدات وأفكار معيّنة تجاه الأفراد والجماعات، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى سلوكيات وأفعال سلبية من شأنها أن تكون ضارة للغاية، بل وخطيرة في بعض الحالات.

الخوف من الاختلاف ومعارضة القيم السائدة من جذور تشكّل الوصم الاجتماعي

ينشأ الوصم الاجتماعي من مجموعةٍ من العوامل المتداخلة، يمكن اختصارها بالجهل وقلة الوعي، التي ينشأ عنها الخوف والتمييز، بحسب ما توضّحه غدير شوكت الاختصاصية في الإرشاد النفسي من مدينة الرقة، وتضيف أن الأعراف والتقاليد المجتمعية القديمة، إلى جانب التنشئة الاجتماعية والتربوية، تساهم في ترسيخ الأفكار السلبية، وتغرس أفكاراً وصمية في سنٍّ صغيرة. 

وتبيّن غدير أن الخوف من الاختلاف، يدفع الناس إلى نبذ من يختلفون/نّ عنهم/نّ، وبشكلٍ خاص في أوقات النزاعات، كما أن التجارب السلبية مع أفراد من مجموعةٍ معيّنة، تدفعهم/نّ إلى تعميم هذه التجارب على جميع أفراد تلك المجموعة، الأمر الذي يعزز حالة تشكيل مفهوم الوصم الاجتماعي. 

الوصم الاجتماعي

“داخل عائلتي الكبيرة، أُعتبّر حلقةً ضعيفة، وذلك لأنني لم أنجب ذكراً يحمل اسمي ويكمل نسلي، ويرفع رأسي بين الناس،” يقول أبو عبدو الرجل الأربعيني من مدينة الدرباسية، ويكمل “مذ بدأت بتأسيس عائلتي، وأنا أشعر بضغطٍ مجتمعي، وتعرّت على الدوام لتعليقاتٍ ساخرة بسبب إنجابي للبنات فقط.”

“أبو الفتيات” كان اللقب الذي اعتاد أبو عبدو على أن يسمعه في كل لقاء جمعه بعائلته أو دائرة معارفه، ويتعرّض لسؤالٍ مكرر عن سبب عدم إنجابه لطفل ذكر حتى الآن، فقد جرت العادات المجتمعية على ضرورة إنجاب الذكور وإن لم يحدث ذلك فإنه يُعتبر نقصاً للشخص. 

يرى حمو المنحدر من مدينة سري كانيه/رأس العين أن صعوبة تقبّل الأشخاص الذين/اللواتي اختاروا/ن نمط حياةٍ تختلف عن السائدة، يدفع المجتمع إلى النظر إليهم/نّ بشكلٍ مختلف، ويساهم في تشكيل الوصم الاجتماعي ضدهم/نّ، ويعتبر أن بعض الأمور والمسارات هي خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، وخاصة في المجتمعات ذات الطابع العشائري. 

“لا يمكنني السماح لابني بالزواج من فتاة تعاني من مرضٍ ما، خوفاً من أن ينتقل بالوراثة إلى أحفادي، ورغم أنني أعلم أنها ليست مسؤولة، لكن لا يمكنني ترك أبناء ابني عرضةً للسخرية.” يقول حمو.

أما نهلة الثلاثينية من مدينة الدرباسية، ترى أنه ورغم اعتبار موقفها متشدداً إلا أنها لا تستطيع تقبّل الخروج عن السائد، وتبرر ذلك بضرورة الحفاظ على العادات والتقاليد، بحسب وجهة نظرها. 

وفي هذا الصدد، يقول عماد أحمي مدير المشاريع في مركز آسو للدراسات الاستراتيجية، إن العوائق التي تحول دون معالجة قضية الوصم الاجتماعي، هي عوائق متعددة، منها ما هو مخطط أي ذو بعد مصلحي للمجموعات الحاكمة، ومنها ما يعود لأسباب تتعلق بالثقافة المجتمعية السائدة. 

من جهته، يؤكّد هوزان هادي المدير التنفيذي لمنظمة نيكستيب، أن أبرز التحديات التي تواجه المنظمات المعنية بالعمل التنموي والتوعوي، هي مقاومة التغيير، فمعظم مجتمعات المنطقة تميل للتمسك بالعادات والتقاليد، والموروث المجتمعي، الأمر الذي يُصعب إحداث التغيير أو رفع الوعي تجاه القضايا المختلفة، ومن أبرزها إزالة الوصم الاجتماعي. 

وفي سياقٍ متصل، تجد الصحفية سيماف حسن أن التنشئة الأسرية، والمناهج التعليمية لعبت دوراً كبيراً في ترسيخ الكثير من الصور النمطية التي تحولت فيما بعد لوصمٍ اجتماعي بشكلٍ أو بآخر، حيث أن الكثير من الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات أنفسهم/نّ يحملون/ن أفكاراً وصوراً نمطية تجاه فئات أو عادات معيّنة، وينقلونها إلى الأطفال والطفلات الذين/اللواتي يمكن اعتبارهم/ّنّ بيئةً خصبة لتبني هذه المعتقدات.

لم يسلم أبو عبدو من الآثار النفسية للوصم الاجتماعي إذ عَمدَ في الكثير من الأوقات تجنب الاجتماعات العائلية تحاشياً للتعليقات السلبية المنهالة عليه من أفراد العائلة.

“تحولت لشخص عصبي، وحاد الطباع وكثيراً ما ألجأ لرفع صوتي على بناتي كوسيلة لتفريغ غضبي” يقول أبو عبدو ويتابع “لا أجيد طرائق أخرى تحسن حالتي وأعلم أنه ليس بالفعل الصحيح إنما هو خارج عن إرادتي.”

الوصم الاجتماعي يسبب آثارًا نفسية واجتماعية سلبية بالغة على الأفراد المستهدفين/ات، يمكن أن يؤدي الوصم إلى تقليل تقدير الذات، وزيادة مستويات القلق والاكتئاب، وتعزيز الشعور بالعزلة والاستبعاد الاجتماعي بحسب غدير شوكت.

فيما تؤكد غدير أن حالات عدة شهدها المجتمع لأشخاص فاقدي/ات الثقة بأنفسهم/نّ يعانون/ين توتراً نفسياَ مستمراَ وقلقاً بشأن كيفية تفاعل الآخرين/الأخريات معهم/نّ دون معرفة السبب الرئيسي وراء ذلك نتيجة لغياب الوعي بقضايا الوصم الاجتماعي وتداعياته النفسية والاجتماعية الخطيرة.

تضيف غدير على حديثها “إن فهم هذه الآثار يساعد في التصدي لجميع أشكال التمييز والعنف ضد فئة أو شريحة ما وتعزيز المجتمعات التي تتسامح وتتقبل الاختلافات بشكل أكبر،” وتشدد على أهمية تقديم الدعم والمساعدة النفسية للأفراد الذين/اللواتي يتعرضون/ن للوصم، ويتضمن ذلك تقديم الدعم العاطفي، وتعزيز مهارات التكيف والتعامل مع التحديات النفسية المترتبة على الوصم.

رصد التغيير المجتمعي أمر صعب في ظل الظروف الحالية

تعمل منظمة نيكستيب على معالجة الكثير من القضايا المرتبطة بالوصم الاجتماعي، مثل المساهمة في تبديد الصور النمطية تجاه الأفراد أو المجتمعات المختلفة من خلال مشاريع قائمة على رفع الوعي المجتمعي تجاه تأثير هذا المفهوم على حالة التماسك المجتمعي وهو أحد قطاعات عمل المنظمة، بحسب ما يوضح هوزان. 

“إن مبدأ عدم إلحاق الضرر من أهم المبادئ التي نتبناها في المنظمة في التعاطي مع القضايا المجتمعية، وذلك في ظل صعوبة تغيير سلوك مجتمعي معيّن وسط الظروف المختلفة غير المستقرة، الأمر الذي يصعّب من رصد التغيير بشكل دقيق،” يقول هوزان ويضيف إن مهمّة منظمات المجتمع المدني – في ظل انتشار شتّى أشكال العنف ضد فئات معيّنة – هي تحفيز المجتمع لتبنّي نهج مقاوم للصور النمطية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، ودفعها للعمل مع السلطات أو الضغط عليها وتقديم حلول تساهم في مكافحة ظواهر العنف السائدة في المجتمع والتي تندرج تحت مفهوم الوصم الاجتماعي.

إن مكافحة الوصم الاجتماعي تكمن في التكامل بين عمل منظمات المجتمع المدني، والوسائل الإعلامية، والقادة المجتمعيين/ات لتعزيز الوعي المجتمعي تجاه مخاطر التمسك بهذه المفاهيم، بحسب ما تراه الناشطة المدنية خناف شمو. 

وكذلك الأمر، فإن التغيير الحقيقية يبدأ من التعليم، لذا فمن الضروري إدماج قضية الوصم الاجتماعي في المناهج التعليمية، في محاولةٍ لتثقيف الأجيال الناشئة حول القضايا الحساسة مجتمعياًـ بحسب ما تراه بتول الخلف الناشطة المدنية من مدينة حسكة.

“تلعب منظمات المجتمع المدني أيضاً دوراً محورياُ في تحقيق هذا التغيير، فهي الأقدر على الوصول للفئات الأكثر تأثراً بالمعتقدات البالية، ويمكنها تقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لمواجهة تبعات هذه القضية.” تقول بتول.

من جهته، يشير عماد أحمي إلى أن القضايا من قبيل الوصم الاجتماعي ليست في سلم أولويات الجهات المعنية في مناطق شمال شرقي سوريا، وإن غياب الأبحاث والدراسات حول هذه القضايا تؤثر سلباً على تحديد سبل معالجة أثر هذه القضايا، في ظل تركيز الاهتمام على القضايا ذات الطابع العسكري والسياسي.

أما عن آلية تعزيز البحث في قضايا الوصم الاجتماعي لتقديم حلول عملية وفعالة يقترح عماد العمل وفق نقاط مهمة، منها، توفير التمويل والدعم لمشاريع شاملة وبرامج طويلة الأمد، وتحسين الظروف المرتبطة بالأمن والأمان لتأخذ هذه القضايا مساحة أوسع من اهتمام أصحاب/صاحبات المصلحة، وضمن برامج المؤسسات الحكومية والعاملة ضمن المجتمع المدني، وبناء القدرات المحلية عبر تدريب الباحثين/ات المحليين/ات على برامج مختصة في هذه القضايا وكيفية التعامل معها. 

فيما تؤيد سيماف حسن فكرة الإحاطة والإلمام بأبعاد الوصم الاجتماعي و تحفيز مراكز البحوث للعمل بشكل جدي وسريع على إجراء بحوث ودراسات معمقة حول مفهوم الوصم الاجتماعي وتداعياته، وقد نوهت لأهمية الحديث والعمل للبحث في تداعيات وإشكاليات العنف اللفظي الذي يتعرض له الغجر(القرباط) على سبيل المثال، إذ يتم تحقيرهم/نّ وإنكار أصلهم/نّ مما يدفع الكثير من أفراد تلك الشريحة إلى الإمتناع عن الحديث عن أي تفصيل يخص ما يتعرضون/ن له من انتهاكات واستبعاد وتمييز.

 أما على صعيد الإعلام المحلي فإنه ضعيف جداً في تناول قضايا الوصم الإجتماعي ويميل نحو التسطيح و الشمولية كنوع من التهرب أو إهمال هذا النوع من القضايا، وذلك خوفاً من رد فعل العامة على تناول مواضيع حساسة تنتمي في عمقها لصلب المفاهيم المجتمعية وفقاً لرأي الصحفية أولفا حاج منصور من الدرباسية.

وتجد أولفا أن تبني برامج عمل متكاملة ومعمقة حول الوصم الاجتماعي مثل حملات توعية مجتمعية، ودورا تدريبية، وورش عمل، ودعم نفسي واجتماعي، وتدابير قانونية، أمر في غاية الأهمية، نظراً لما يحمله هذا المصطلح ف طياته من قضايا تذهب لتكون خطيرة لو لم يتم الوقوف عندها، وتوضح أن هذه البرامج تلقى أثراً أكبر حين تتم معالجتها إعلامياً.