“في كلّ يوم من أيام توفّر المياه في الحي، أعيش حالةً طارئة ومستمرة يتخللها قلق كبير، فإن لم أتمكن من متابعة الماء، وتعبئة خزان المنزل، فإنني على موعد مع توبيخٍ شديد من عائلة زوجي.” تقول سلوى، المنحدرة من ريف مدينة ديريك/المالكية.
لم تُخفِ سلوى حدوث الكثير من المشاكل العائلية نتيجة أزمة المياه التي تعاني منها مناطق الجزيرة بشمال شرقي سوريا، ومن ضمنها أرياف مدينة ديريك/المالكية، هذه المشاكل التي تؤثّر بدورها على حياتها الأسرية والصحية، حيث يتم تزويد قريتها بالمياه بنظام تقنين (يوم تزويد يليه يوم انقطاع)، الأمر الذي يزيد من الأعباء التي تتحملها سلوى إلى جانب واجباتها المنزلية الأخرى.
وتضيف سلوى أن عائلة زوجها أوكلتها مهمة مراقبة المياه وتعبئة خزان المنزل، كما أنها تتعرض للتوبيخ في كل مرة لا يتم الأمر فيه، أو حين تستخدم كميةً من المياه في استحمام أطفالها/طفلاتها، أو القيام ببعض الأعمال المنزلية، وعلى مستوى النظافة الشخصية، تشير أنها تعاني أمراضاً نسائية نتيجة نقص المياه، في ظل حاجة النساء للمياه أكثر من الرجال، وخاصةً بعد فترة الدورة الشهرية أو العلاقة الزوجية.
وفي هذا الصدد، تقول شيرين هاني الاختصاصية بأمراض النساء، إن ارتفاع درجات الحرارة والجفاف يؤثران سلباً على صحة النساء، حيث ترتفع نسبة النزوف الطمثية والرحمية لديهن، سواءً أكان أثناء الدورة الشهرية أو بعد الولادات الطبيعية أو القيصرية، مشيرةً إلى أن أكثر الأمراض انتشاراً لدى النساء وخاصة في فصل الصيف، هي الالتهابات الناتجة عن عدم القدرة على الاهتمام بالنظافة الشخصية نتيجة نقص المياه.
وأوضحت شيرين أن التغيرات المناخية كالجفاف ونقص المياه يكون تأثيرهما مضاعف على صحة النساء من الرجال، نظراً لأن التشريح التناسلي يختلف بين الجنسين، لذلك تكون الالتهابات أكثر شيوعاً عند النساء سواءً أكانت البولية أو التناسلية نتيجة قصر الإحليل من جهة، وتغير حموضة المهبل من جهة أخرى.
وسبق أن أشارت مفوّضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت في “حلقة نقاش حقوق المرآة وتغير المناخ”، إلى تعرض النساء الحوامل والمرضعات إلى إنعدام الأمن الغذائي بسبب التغيرات المناخية، إضافةً إلى تسبّب شرب المياه الأكثر ملوحة، لولاداتٍ مبكّرة ووفيات أمهات وأطفال/طفلات حديثي/ات الولادة، كذلك الأمر فقد يؤدي الضغط الاقتصادي الناتج عن هذه التغيّرات إلى حالات تزويج أطفال/طفلات وزواج مبكر أو بالإكراه كاستراتيجية للتكيف.
وفي سياقٍ متّصل، قالت الصحفية المختصة بالشؤون الاجتماعية والثقافية والبيئية زينة شهلا، إنّ التغيرات المناخية من شأنها أن تزيد من حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، حيث تشير الدراسات الأممية إلى أن تلك التغيرات تفاقم من معاناة الفئات الهشة ومن بينها النساء.
وجاء في تقرير صادر عن الأمم المتحدة، أنه في المناطق الريفية على وجه الخصوص، غالباً ما تتولى النساء والفتيات مسؤولية تأمين الغذاء والماء والحطب لأسرهن، ففي أوقات الجفاف وعدم انتظام هطول الأمطار، تعمل المرأة الريفية بجهدٍ أكبر، وتمشي لمسافاتٍ أبعد، وتقضي المزيد من الوقت في تأمين الدخل والموارد لأسرتها، وهو ما من شأنه أن يعرّضهن أيضاً للعنف القائم على النوع الاجتماعي.
وتتفاقم معاناة سكان/ساكنات قرية سلوى وغيرها من القرى بسبب جفاف الآبار المنزلية الناتج عن انخفاض منسوب المياه الجوفية بفعل التغيرات المناخية، لاسيّما أنهم/نّ يعتمدون/ن بشكلٍ رئيسي على زراعة الخضار المنزلية.
ورجح تقرير صدر عن منظمة “IMMAP” المتخصصة بإدارة البيانات، أن تكون سوريا أول البلاد المتضررة من التغير المناخي، وتوقع التقرير أن تعاني مناطق شمال شرقي سوريا من الجفاف على المدى الطويل، بمعدل مرة كل ثلاث سنوات، بينما سينخفض هطول الأمطار بنسبة 11% خلال العقود الثلاثة المقبلة، وستكون انعكاسات ذلك كارثية على البلاد.
وسط التغيرات المناخية في شمال شرقي سوريا.. سبل العيش والتماسك المجتمعي مهدّدة بالانهيار
“الزراعة هي مصدر رزقي، ولكن عندما لا تعود عليّ بالنفع، أجد نفسي مضطراً لتركها، وأقف أمام أرضي حيث يعتريني حزن شديد يثقل كاهلي، بسبب عدم قدرتي على زراعتها كما السابق.” بهذه الجملة، عبّر المزارع أحمد طاهر من قرية شكر خاج بريف ديرك/المالكية، عن حزنه لما آلت إليه حاله، فقد بات يفكر جدّياً بترك مهنته التي يعمل بها منذ أكثر من 25 عاماً، بعد أن أصبحت خسارته تتزايد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأربع الماضية، نتيجةً لارتفاع درجات الحرارة وتفشي الأمراض، وانقطاع الكهرباء.
وكان أحمد يعتمد على الكهرباء الحكومية لسقاية مزروعاته ليلاً، ونظراً لانعدام الكهرباء منذ ما يقارب من سبعة أشهر نتيجة خروج المحطة المغذية عن الخدمة بعد قصفٍ تركي، فقد اتجه إلى استخدام الطاقة الشمسية كحل بديل، مؤكداً إلى أن هذا الخيار يفرض عليه سقاية المحاصيل خلال ذروة ارتفاع درجات الحرارة وقت الظهيرة، ما يجعلها أكثر عرضةً للإصابة بالأمراض.
إنّ اتباع هذا النمط من السقاية انعكس سلباً على الإنتاج المحلي، فسابقاً كان إنتاج خمس دونمات من الخضروات الصيفية يومياً يتراوح بين 700 إلى 1000 كيلو غرام، أما هذه السنة فلم يتجاوز الإنتاج 200 كيلو غرام بحسب ما يوضّحه أحمد.
من جهته، يوضّح عبد السلام أحمد وهو موزع خضروات صيفية، أنّ تراجع الإنتاج المحلي يعود إلى بعض العوامل الطبيعية، من قبيل غياب مصادر المياه بفعل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، مما أدى إلى تلف المحاصيل وانتشار الأمراض في ظل عدم القدرة على مكافحتها، كما أشار إلى وجود أسباب بشرية كانقطاع التيار الكهربائي نتيجة القصف وهجرة الأيدي العاملة، كل ذلك أثر على انخفاض الإنتاج المحلي وارتفاع الأسعار نتيجة زيادة طلب القوة الشرائية وضعف الإنتاج.
وبحسب بيانات البنك الدولي ، فإن درجات الحرارة في سوريا في ارتفاع مستمر، فقد بلغ متوسطها 20 درجة مئوية خلال العام 2020، بعد أن كان 18 درجة مئوية في العام 1991، حيث من المتوقع أن يستمر بالارتفاع مقابل انخفاض الهطولات المطرية.
وفي تقريرٍ صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر والصليب الأحمر النرويجي والذي حمل اسم “التصدي لآثار تغيّر المناخ والنزاعات المسلحة في الشرق الأدنى والأوسط“، فقد أوضحت التقرير فيما يخص درجات الحرارة في سوريا أنه حدث بالفعل احترار كبير، ويُتوقع ارتفاع متوسط درجات الحرارة السنوية من 2 إلى 4 درجات مئوية بحلول خمسينيات هذا القرن، ستتجاوز درجات الحرارة القصوى 35 درجة مئوية لفترة أطول، تبدأ في وقت مبكر من فصل الربيع وتستمر لفترة أطول حتى فصل الخريف. قد تصبح درجات الحرارة اليومية القصوى البالغة 40 درجة مئوية أكثر تواتراً.
وأشار التقرير إلى أنه من شأن النزاع المسلح أن يعطل أو يقوض الجوانب الاقتصادية وسبل العيش للسكان، ويؤثر تدهور البيئة والتغير المناخي على الأمن الاقتصادي وسبل العيش من خلال الحد من توافر الموارد الطبيعية وخدمات النظام الإيكولوجي..ويمكن ملاحظة تعطل سبل العيش الزراعية لأسباب شائعة كالتصحر وندرة المياه وأسباب متعلقة بالنزاعات والتي تؤثر سلباً على المزارع و البنية التحتية الزراعية.”
ولا يقتصر ضرر التغيرات المناخية ومن ضمنها ارتفاع درجات الحرارة على المزارعين فقط، حيث تعاني العاملات في الأراضي الزراعية معاناةً مضاعفة، سواءً أكان على صعيد المقابل المادي أو التأثير على صحة النساء، بحسب ما توضّحه جودي التي تعمل في الأراضي الزراعية، حيث تبدأ العمل من الخامسة صباحاً دون وجود ساعات محددة للعمل، وتتقاضى 20 ألف ليرة سورية عن كل يوم عمل (دولار أمريكي ونصف).
“نعيش حالةً صعبة خلال ساعات العمل، وخاصةً في فترات الدورة الشهرية، حيث نعاني الألم الشديد في ظل درجات الحرارة المرتفعة، عدا عن التصبغات الجلدية التي تظهر على أجسادنا، بمقابلٍ مادي لا يكفي لشراء الفوط الصحية.” تقول جودي.
وأوضحت زينة شهلا، أن معاناة الفئات الهشة ومن بينها النساء تتفاقم خاصة في فصل الصيف، مشيرةً إلى أن النساء العاملات في الحقول الزراعية يعانين من استمرار ارتفاع درجات الحرارة كل عام، مما ينعكس سلباً على ظروف عملهن وتأمين احتياجات أسرهن.
من جهةٍ أخرى، فإنّ التغيرات المناخية من شأنها أن تُحدث مشاكل مجتمعية، نتيجة فقدان الموارد وسبل العيش للفئات الهشة كالزراعة، فيضطر سكان/ساكنات الأرياف للنزوح نحو المدن، وهذا ما تواجهه مناطق شمال شرقي سوريا وفق تقارير صحفية، وفي الوقت ذاته هناك أسباب أخرى للنزوح مرتبطة بغياب الخدمات وسوء الإدارة، بحسب ما توضّحه زينة.
كما أشارت زينة إلى زيادة مستويات العنف والإحباط بسبب مايعانيه/تعانيه سكان/ساكنات هذه المناطق من عدم استقرار نفسي ليس بمقدورهم/ن تأمين موارد لعوائلهم/ن، والذي قد ينعكس سلباً على القطاع الاقتصادي والأمن الغذائي في البلاد؛ بالتالي ارتفاع تكاليف هذه الموارد وعدم قدرة الأفراد على الوصول إليها.
ووفق تقرير للأمم المتحدة فإن تغير المناخ يزيد من العوامل التي تبقي الناس في حالة فقر، ويمكن أن تجعل الحرارة العمل في الوظائف الخارجية أمراً صعباً، وعلى مدى العقد الماضي 2010-2019، أدت الأحداث المتعلقة بالطقس إلى نزوح نحو 23.1 مليون شخص على المدى المتوسط كل عام”.
التدابير العاجلة والتكاتف على جميع المستويات .. من الضرورات الملحّة لمواجهة التغيرات المناخية
وفيما يتعلق بالحلول التي من شأنها تخفيف حدة تأثير التغيرات المناخية على الفئات الهشة، شددت زينة على ضرورة إيجاد حلول على أعلى المستويات، فعلى المستوى الحكومي يجب طرح حلول مرتبطة بطرق التكيف مع التغيرات المناخية كدعم القطاع الزراعي والمجتمعات المتضررة، والعمل على تثبيت هذه المجتمعات في أماكنها ودعمها كي لا تضطر للنزوح وفقد مواردها وسُبل عيشها، كما دعت إلى ضرورة دمج النساء في البرامج التي تعمل على مكافحة تأثيرات التغيرات المناخية وسماع أصواتهن وإجراء الدراسات التي من شأنها تحليل المشكلة وطرح الحلول الممكنة لها.
أما على المستوى العالمي فقد بيّنت أنه تم طرح حلول للتكيف مع التغيرات المناخية ومواجهة آثارها، أما في سوريا فهناك تأخر واضح في هذا الجانب، في ظل غياب الوعي بحجم المشكلة، ففي القطاع الزراعي لا يزال الفلاحون/ات يتبعون/ن الطرق القديمة في الري ويستهلكون/ن المياه بكميات مفرطة على الرغم من الجفاف الذي تشهده المنطقة، لعدم قدرتهم/نّ على استخدام طرق الري الحديثة لارتفاع تكاليفها وغياب الدعم.
وأضافت زينة، أنه من الضروري وجود تعاون وتكاتف بين جميع القطاعات الحكومية ونشر الوعي عن الحلول وكيفية تطبيقها وتعميمها.
ووجهت دراسة صادرة عن “دراسات في حقوق الإنسان” تحت عنوان، التغيرات المناخية وآثارها على الحقوق الاجتماعية للفـئات الأكثر ضرراً، توصيات تتعلق بقطاع الزراعة، من بينها التوجيه نحو مزيد من الاستثمارات في المجال البحثي الزراعي وتطوير استنباط سلالات المحاصيل الزراعية الأكثر استجابة وتكيفاً مع التغيرات المناخية.
ومن الحلول الواردة في الدراسة بما يخص البعد الاجتماعي، التركيز على دور الحكومة في وضع وابتكار برامج حماية اجتماعية تتوافق مع الأضرار المختلفة التي لحقت بالفئات والمهن جراء التغيرات المناخية، وخاصة الفئات الأكثر هشاشةً وتأثراً، وذلك لتقليل معدل التفاوت الاجتماعي وتحقيق العدالة والمساواة.
وفي شمال شرقي سوريا لا تزال الفئات الأكثر هشاشةً، تعاني من أثر مضاعف نتيجة تبعات التغيرات المناخية واستمرار النزاع في المنطقة، في ظل نقص الحلول والبرامج المستدامة التي قد تساهم في التخفيف من حدة آثار التغيرات المناخية والتكيف معها، فضلاً عن تحقيق العدالة المجتمعية