الصوت المنسي .. الفئة الشابة تحت ظل النزوح بشمال شرقي سوريا

“أُجبرْتُ على ترك الدراسة، والعمل لإعالة أسرتي، وذلك بعد وفاة والدي قبل الحرب السورية بفترة قصيرة، هذه الحرب التي منعتني من أنعم بطفولتي.” يقول جوان علي البالغ من العمر 26 عاماً، والمنحدر من مدينة عفرين في شمال غربي سوريا. 

كان جوان يدرس في الصف الثامن، حين توفّي والده، لذا فقد اضطر لترك دراسته، والبدء بالعمل في مدينة حلب لإعانة أسرته، إلا أن الحرب التي شهدتها المدينة، أجبرتْ جوان وعائلته لترك المدينة متّجهين/ات إلى مدينة عفرين. 

لم ينسَ جوان طموحه في إكمال دراسته، وبعد أن بدأ العمل كمحاسب، تلقّى الدعم من شقيقته وأحد أقاربه، وتمكّن من الحصول على شهادة التعليم الأساسي وهو يبلغ من عمره 23 سنة، وينوي أن يحصل على شهادة الثانوية العامة، ليلتحق بعدها بالجامعة. 

“كانت للحرب السورية دوراً كبيراً في تحطيم طموحاتنا وأحلامنا، لكن رغم كل ما يحدث، ورغم كل الصعوبات التي تواجهنا كفئة شابة، فإنني سأسعى دوماً لأحقق طموحي، مهما كلّفني الأمر.” يقول جوان. 

تُعتبر الفئة الشابة من أكثر الفئات التي عانت من تبعات الحرب السورية، وخاصة الفئة التي دخلت مرحلة الشباب خلال سنوات الحرب، وما يضاعف من المعاناة من أثر الحرب هو النزوح نحو مجتمعاتٍ جديدة والعمل على تأسيس حياة وطموحات تناسب الواقع المتغير بعد النزوح، بحسب آراء عيّنة من الشباب والشابات ممن تواصل معهم/نّ فريق نيكستوري. 

تجارب شباب وشابات من المجتمع الضيف .. بعضها تكللت بالنجاح وأخرى لا زالت تطمح إليه

نزح أحمد (اسم مستعار لشاب عشريني من مدينة دير الزور) إلى مدينة قامشلي، بعد الصراع والأحداث الساخنة التي شهدتها مدينة دير الزور مؤخراً، هادفاً إلى الاستقرار في منطقةٍ أكثر أماناً، ويسهل فيها الوصول إلى إحدى الجامعات الخاصة بهدف الدراسة فيها. 

لم تكن رحلة أحمد في البحث عن الاستقرار سهلةً البتّة، فقد بدأت المعاناة في إيجاد منزل للإيجار، كما أنه لم يتمكن من الاندماج الحقيقي مع المجتمع المضيف، إلا أن الطموح لاستكمال رحلة التعليم، والبقاء في منطقة آمنة نسبياً، تدفعه لتحمّل المعاناة حتى يتمكن من تحقيق الطموح يوماً ما، وفقاً لقوله. 

أما بشرى الحسين (24 عاماً) من ريف حلب الشمالي، فقد أمضت قسماً كبيراً من فترة شبابها في تجارب النزوح المتكررة مع عائلتها، فقد نزحت مع عائلتها من قرية “إحرص” بعد سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على مناطق بريف حلب الشمالي، نحو مدينة عفرين، وأقامت فيها حتى العام 2018، وللمرة الثانية، أُجبرَتْ على النزوح إلى مناطق شمال شرقي سوريا لتستقر مع عائلتها في مدينة الرقة. 

تعمل بشرى مساعدة جرّاح، وتستمر في تذكّر المعاناة التي عايشتها جرّاء النزوح المتكرر في الوقت الذي كان لا بد لها من التخطيط لمستقبلها كأية شابة في عمرها، وتقول بشرى إن عزاءها الوحيد هو الاستقرار الذي تنعم به مذ وصلت إلى مدينة الرقة منذ خمس سنوات، وحظيت بفرصة عمل كانت تطمح له دوماً. 

تعمل ليلان رسو (22 عاماً) في المجال الصحفي، وتنحدر من مدينة سري كانيه/ رأس العين، ومقيمة في مدينة عامودا، وترى من جانبها أن التحديات التي تواجه الفئة الشابة من المجتمع الضيف كثيرة، لعل أهمها الواقع المعيشي الصعب، وقلة فرص العمل، إلى جانب الأزمة الاقتصادية، ومجمل هذه التحديات تواجهها مختلف المجتمعات في شمال شرقي سوريا، إلا أنها مضاعفة لدى المجتمع الضيف وعلى وجه الخصوص الفئة الشابة منه.

وعلى الرغم من وجود هذه التحديات التي تشكّل عقبة أمام تحقيق الطموح لدى الفئة الشابة عموماً والفئة الشابة من المجتمع الضيف خصوصاً، إلا أن ليلان ترى جانباً إيجابياً ألا وهو الإصرار والإرادة التي تتمتع بها هذه الفئة، وتدفعها إلى تحقيق الأحلام والطموحات ولو كانت بنسب متفاوتة، وفي الجانب الآخر، هناك من اقتصر طموحهم/نّ على الهجرة كسبيل لتحقيق الطموحات. 

“البعض من شباب المجتمع الضيف يفكّر بالهجرة، نظراً لسوء الأوضاع المعيشية، وصعوبة طريق التعليم، كما أن الحالة النفسية في تدهورٍ مستمر، لكن رغم ذلك كله، لا بد من السعي وبذل الجهود لخلق واقع أفضل؛ إن السعي هو السر لتحقيق أي حلمٍ.” تقول ليلان. 

“إن للهجرة ضريبة كبيرة، وهي الاستعداد للبدء من الصفر، أما تحسين الواقع هنا فإنه مرهون بالسعي، ووجود عوائلنا بالقرب منا ودعمهم لنا، كفيلٌ بأن نسير في طريق تحقيق الطموحات،” تقول سوزدار علي الفتاة العشرينية التي نزحت من بلدة كري سبي/ تل أبيض، واستقرت مع عائلتها في مدينة كوباني، معتبرةً أن الهجرة ليست حلاً رئيسياً للتغلب على العقبات التي تواجه الفئة الشابة عامة ومن ضمنها تلك التي تنتمي إلى المجتمع الضيف.

في استطلاعٍ لمركز الشباب العربي ASDAA BCW، يعود للعام 2023، والذي استهدف عيّنة وصلت إلى 3600 مقابلة مع شباب وشابات تراوحت أعمارهم/نّ بين 18 إلى 24 عاماً في عدة بلدان منها سوريا، فقد أبدى أكثر من 50% من العيّنة رغبتهم/نّ في الهجرة إلى خارج البلاد، وتشير رغبة الشباب والشابات المتنامية في الهجرة بحثاً عن حياة أفضل إلى سمتين مهمتين: الأولى، خيبة أملهم/نّ إزاء الحصول على تعليم جيد وحياة مهنية ناجحة في بلدانهم/نّ، والثانية توقهم/نّ لبناء مستقبلهم/نّ، بحسب رئيس المركز.

إن الجوانب السلبية التي أثرت على أربعة أجيال على الأقل خلال الحرب السورية، شكّلت تحديات كبيرة على كاهل الفئة الشابة وخاصة من المجتمع الضيف، وقد كانت هذه التحديات بحسب عماد أحمي مدير المشاريع في مركز آسو للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، على مستويات عدة، منها المتعلقة بالأزمة الاقتصادية، وأخرى متعلقة بحالة عدم الاندماج مع المجتمع المضيف، والصور النمطية تجاه المجتمع الضيف، والتي تؤثر سلياً على تكوين العلاقة بين المجتمعَين، الأمر الذي يخلق حالة من العزلة  وعدم الانتماء لدى هؤلاء، وبدوره يؤثر ذلك على حالة التماسك المجتمعي. 

الفئة الشابة من المجتمع الضيف والمضيف طاقات يجب استثمارها لتنمية المجتمع 

لا تستطيع رونيز محمد تجاوز الظروف التي نزحت فيها من مدينتها سري كانيه/ رأس العين، فقد نُقلت من سرير العمليات مع طفلها بعد الولادة بفترةٍ قصيرة، وتشاركت السيارة مع تسعة أشخاص من أفراد عائلتها للخروج من المدينة بعد أن تعرضت للقصف، ولكنها عايشت صعوباتً كثيرة بعد أن استقرت في مدينة قامشلي. 

“عملت أنا وزوجي لنبدأ من نقطة الصفر ونتمكن من استئجار منزلٍ بعد أن كنا نعيش مع عائلتي في منزلٍ واحد، وكان يتوجب علي العمل، ورعاية طفلي، واستكمال دراستي، كل ذلك شكّل عبئاً كبيراً علي،” تقول رونيز التي اضطرت للانتقال إلى ستة منازل خلال فترة ست سنوات، وتبقى صعوبة استكمال الدراسة، وأثر النزوح على حالتها النفسية وعلى طفلها، من أكثر الأمور التي لا تستطيع تجاوزها حتى الآن. 

من جهته، يرى الصحفي والناشط الحقوقي شيار خليل أن الفئة الشابة من المجتمع الضيف، طاقاتٌ مستدامة يجب استثمارها، وذلك من خلال توجيههم/نّ وتقديم الدعم اللازم لهم/نّ، من مختلف الأطراف، منها منظمات المجتمع المدني، “الأمر الذي سيحولهم/نّ من ضحايا إلى قادة مجتمع، مساهمين/ات بشكل فعّال في بناء مستقبل سوريا.” يقول شيار. 

ولا يمكن تحقيق الاستثمار الفعلي لهذه الفئة إذا ما تم فهم واقعهم/نّ الحالي بشكلٍ معمّق، وتحليل الأسباب والتحديات التي تشكّل عقبات حقيقية أمام تحقيق الاستقرار النفسي والمعيشي لهؤلاء، في ظل ضعف الفرص التعليمية والمهنية، بحسب ما يشير إليه شيار، ويؤكّد أن تبعات الأزمة الاقتصادية، وعدم توفر البنية التحتية التعليمية الملائمة في المناطق المضيفة، يعوّق قدرتهم/نّ على دخول سوق العمل والمساهمة في التنمية المطلوبة، كل ذلك إلى جانب غياب الدعم النفسي والاجتماعي لهم/نّ بعد عملية النزوح، حيث تركت الصدمات المرتبطة بالنزوح والحرب آثاراً نفسية عميقة بداخلهم/نّ، تمنع انخراطهم/نّ بشكل كامل في الحياة العامة المهنية منها وحتى الاجتماعية. 

وفي هذا الصدد، تقول الناشطة المدنية روجين حبو أن قضية الفئة الشابة عموماً هي قضية معقّدة، على اعتبار أن هذه الفئة هي الأكثر قدرة على قيادة المجتمع إلا أنه لا يتم استثمارهم/نّ بالشكل المطلوب، الأمر الذي يجعلهم/نّ بيئة خصبة ويتم استقطابهم/نّ إلى أكثر الظواهر سلبية. 

وتعتبر روجين أن الشباب والشابات من المجتمع الضيف يعانون/ين بنسبةٍ مضاعفة، وذلك لصعوبة تغيّر المكان، وحالة عدم التقبّل من المجتمع المضيف، لذا يجب على الجهات المعنية إيجاد الوسائل لدمج هؤلاء مع المجتمع المضيف، وذلك عبر إشراكهم/نّ في مشاريع تسهم في زيادة فاعليتهم/نّ في المجتمع وعمليات تنميته. 

ومن أكثر الأطراف التي يقع على عاتقها إيجاد طرق جديدة لتفعيل طاقات الفئة الشابة من المجتمع الضيف، بحسب رأي شيار، هي منظمات المجتمع المدني/غير الحكومية، والتي يقع على عاتقها الدور الأكبر في توفير برامج تعليمية مخصصة للنازحين/ات، سواء في مجالات التعليم الأكاديمي أو التدريب المهني، فعلى تلك المنظمات المدنية تصميم برامج تعليمية وتدريبية تشمل مجالات عديدة لتمكين النازحين/ات من الشباب والشابات من تولّي الأدوار القيادية داخل مجتمعاتهم/نّ، وبالتالي كافة المشاريع المدنية لتلك المنظمات تكون بمشاركة المعنيين/ات من تلك المجتمعات الضيفة. 

أما الحكومات المحلية والدولية، يقول شيار إن عليها المشاركة في هذا الدور من خلال تنفيذ المشاريع التي من شأنها تسهيل إدماج المجتمع الضيف مع المضيف، وذلك من خلال بناء سياسات تدعم توظيفهم/نّ، وتأهيلهم/نّ، ومنحهم/نّ الفرص الاقتصادية والقيادية لتلك المشاريع، إلى جانب ضرورة تقديم الدعم المالي والتقني لمشاريعهم/نّ الناشئة بقيادة الفئة الشابة، وذلك من خلال التشبيك مع القطاع الخاص. 

“لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته منظمات المجتمع المدني في تمكين الفئة الشابة بشمال شرقي سوريا، إلا أن وصول الشباب من المجتمع الضيف يحظى بفرص ضعيفة تقتصر على العلاقات الشخصية فقد دون وجود سياسة تفرض وجودهم/نّ في نشاطات ومشاريع هذه المنظمات،” يقول دمهات ابراهيم (29 عاماً) المنحدر من مدينة عفرين ويعمل في جمعية خاصة بشؤون الضحايا، ويوضّح أن الفئة الشابة من المجتمع الضيف التي تربطهم/نّ علاقات شخصية مع العاملين/ات في منظمات المجتمع المدني، يحظون/ين بفرص المشاركة فقط. 

“إن بناء مجتمع ومستقبل متعافي من آثار الحرب، وبالتالي بناء سوريا مستقبلية على أسس ونظريات جديدة من قبل المتضررين/ات من كافة أطراف النزاع السورية، مرهون بالحفاظ على الفئة الشابة كمساهمين/ات في التنمية بكافة المجالات.” يقول شيار.