تزوجت رانيا (اسم مستعار لامرأة من الدرباسية) وهي تبلغ من العمر 19 سنة، وحملت بطفلها الأول بعد مرور عام على زواجها، وقبل أن يتم الزواج، قامت بإجراء بعض الفحوصات الطبية العامة، لم يتبين فيها أي عائق للحمل والإنجاب، إلا أن الحمل الأول أظهر ضعف بنيتها الجسدية، الأمر الذي شكّل من حملها فترةً عصيبة إلى أن حان وقت الولادة.
تقول رانيا: “في الشهر الخامس من الحمل، كان وزني 39 كيلو غراماً، وعلى الرغم من أنني زرت طبيبةً مختصة في البداية، إلا أنها زودتني ببعض الفيتامينات التي لم أستفد منها، وكانت فترةً عصيبة إلى أن أنجبتُ طفلي الأول” وقد أخبرتها الطبيبة أنها لن تتمكن من إنجاب أكثر من ثلاثة/ثلاث أطفال/طفلات بسبب بنية جسدها الضعيفة.
توضّح رانيا أن ما قامت به من إجراءات طبية قبل الزواج لم تكن كافية لمعرفة إذا ما كان الحمل سيشكل خطراً على حياتها، أو أنه سيمر بمشكلات تعيق سيره بشكلٍ طبيعي، مشيرةً إلى أن الثقافة المجتمعية المحيطة بها لا تولي اهتماماً للصحة الإنجابية، ولم يسبق أن نصحها أحد من الوسط المحيط بأي إجراءٍ احترازي حتى تتمتع، وزوجها بصحةٍ إنجابية خالية من المشكلات.
تواصلت معدّة المادة مع عدد من النساء في مختلف مدن شمال شرقي سوريا واختارت جميع النساء المشاركات بآرائهن في التقرير، أن يتحدثن بأسماءٍ مستعارة، نظراً لحساسية هذه القضية مجتمعياً والتي تحكمها ثقافة “العيب” بحسب وجهة نظرهن، وأن الحديث بأسماء مستعارة سيمكّنهن من الخوض في تفاصيل تجربتهن دون الخوف من الحكم المجتمعي عليهن.
“لم يحدث أن أخبرني أحد من حولي بأنه يجب عليّ القيام ببعض الفحوص الطبية التي ستبيّن مدى جهوزية جسدي للحمل والإنجاب، لأن ثقافتنا المجتمعية تحتّم توريث المعتقدات من الأمهات والجدّات” تتحدث رغد (اسم مستعار) البالغة من العمر 40 سنة وتنحدر من مدينة قامشلي، والتي أنجبت ثلاثة أطفال خلال زواجها لمدة 14 سنة.
تقول رغد إن المعلومة الوحيدة التي كانت تملكها حول الفحص الطبي للزواج هو في حال وجود صلة قرابة بين الزوج والزوجة خوفاً من وجود أمراض وراثية، وعلى الرغم من أنها تزوجت ابن عمها، إلا أنهما لم يقوما بهذا الفحص أيضاً، وبعد أن حملت بطفلها الأول، بدأت مشكلات الحمل بالظهور، واحدةً تلو الأخرى، فقد أصيبت بأمراض عدة، منها فقر الدم، والروماتيزم، وبعد حملها الثاني أصيبت بانزلاق العمود الفقري، وانقراص الركب، نتيجةً لارتفاع الهرمونات لديها، وما تسببه هذا الارتفاع من زيادة في الوزن.
“لو أنني أعيش في وسط مجتمعي واعي بالصحة الإنجابية وما يتوجب القيام به من إجراءات طبية قبل وبعد الزواج، لتجنبت الكثير من الأمراض التي أثرت في حياتي بشكل عام، ووقفت عائقاً أمام حملي بشكلٍ طبيعي.” تقول رغد.
إن قضايا النوع الاجتماعي التي لا تلقَ الاهتمام المطلوب على مختلف الأصعدة، فإنها تتفاقم أثناء اندلاع الحروب والأزمات، وذلك وفق نداءاتٍ تطلقها الجهات الدولية التي تراقب سير هذه القضايا في مختلف البلدان حول العالم، وبحسب تقرير صدر عن وكالة الأمم المتحدة المعنية بالصحة الجنسية والإنجابية في العام 2023، تبيّن أنه في العام 2023، اجتاحت العالم حالات طوارئ مناخية واندلعت حروب ونزاعات جديدة وتعمّقت أزمات متعددة وأخرى قائمة بالفعل، ففي النصف الأول من العام، تمّ تهجير 114 مليون شخص قَسْراً – نصفهم/نّ، في المتوسط، من النساء والفتيات، اللواتي يعانين من أوجه ضعف فريدة تتعلّق بصحتهن الإنجابية وسلامتهن.
ضعف الوعي المجتمعي، وهشاشة الخدمات الطبية عائقان أمام تحسّن الصحة الإنجابية
حين تزوجت كوثر (اسم مستعار لامرأة من مدينة الرقة) في العام 2015، وكانت تبلغ من العمر 19 سنة، لم يكن لديها أدنى فكرة حول ما يتعلق بالصحة الإنجابية، نتيجة زواجها في سن مبكّرة، ورُزقت بخمسة أطفال، ونتيجة معاناتها من جرثومة في الدم، فقد كانت بعض أجنتها مشوهة، ولم تعلم بأن التشوه كان نتيجةً لوجود هذه الجرثومة.
تقول كوثر “لم أخضع لأي فحصٍ طبي يوماً، وتشوّه أجنتي غيّر من حياتي للأسوأ، لذا أنصح كل فتاة أن يفحصهن أجسادهن جيداً قبل الزواج والإنجاب” وتوضّح أنها اكتشفت وجود الجرثومة بعد ولادة طفليها المشوّهَين، كما أنها أسقطت عدة مرات، وكل ذلك نتيجةً لعدم خضوعها لأي فحص أو تحليل قبل الحمل والإنجاب، واستمرت في الإنجاب إلى أن طلب طبيبها بضرورة توقفها عن الحمل حتى التعافي التام من الجرثومة.
لا يعي المجتمع، بالمستوى المطلوب، أهمية الصحة الإنجابية والرعاية الطبية لكل رجل وامرأة مقبيلن/ات على الزواج والإنجاب، إنما هناك معتقد مجتمعي قائم على ضرورة الإنجاب وخاصة إنجاب الذكور دون الالتفات إلى ما يجب القيام به للتمتع بصحة إنجابية جيدة، بحسب ما توضحه مروى محمد الاختصاصية في أمراض النساء، علماً أن الصحة الإنجابية وما يستوجب فعله للتمتع بها، لا يقتصر على النساء فقط، بل على الرجال والفئة الشابة والمراهقين/ات، الذين/اللواتي يتطلب منهم/نّ الوعي الكافي بالسلوكيات التي يجب تجنبها والتي من الممكن أن تسبب خطراً على صحتهم/نّ الإنجابية لاحقاً، بحسب الطبيبة.
“إن الصحة الإنجابية هي انعكاس للصحة العامة، وتعني الوصول لحالة من الاكتمال من السلامة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية، وسلامة الأجهزة التناسلية، وليس فقط الخلو من الأمراض والإعاقة، وتعكس عموماً المستوى الصحي للرجل والمرأة في سن الإنجاب.” ذلك تعريفٌ للصحة الإنجابية بحسب ما توضحه مروى، وفي تقييمها للوعي المجتمعي تجاه الصحة الإنجابية، تقول مروى “إن غالبية حالات الزواج في مجتمعاتنا هي تزويج قاصرات، وحمل مبكّر، والهدف هو إنجاب الذكور، وأذكر في إحدى المرات كانت المراجِعة حامل في شهرها الخامس بجنين مشوّه، وحين أخبرتها بذلك، طلبت معرفة جنس الجنين لتتأكد ما إذا كان ذكراً، وذلك لرغبة العائلة بإنجاب ذكر.”
وتشير مروى إلى أن الاهتمام بجنس المولود نتج عنه ظواهر مجتمعية عدة سواءً أكان الطلاق أو تعدد الزوجات، ويمكن القول أن نسبة المعلومات المتعلقة بالصحة الإنجابية لدى مختلف الفئات المجتمعية لا تتجاوز 20%، كما أنه هناك الكثير من الحالات التي تمتنع عن إيقاف الحمل رغم تسببه بالضرر الكبير على الحامل، بحسب ما توضحه الطبيبة التي تقول “إن الحالات التي تزورني في العيادة ليتم الحمل تحت إشراف طبي، أو الفحص الشامل قبل الزواج، يمكن عدّها على أصابع اليدين” وفي الوقت نفسه، فإن الخدمات الطبية لرعاية الصحة الإنجابية لا ترقى للمستوى المطلوب، حيث تتوفر فقط تحاليل كشف التلاسيميا وفقر الدم المنجلي دون وجود صيغة صبغية وراثية للزوج والزوجة، وفي حالاتٍ متقدمة فإنها تقوم بتحويلهم/نّ إلى دمشق لعدم توفّر الخدمات الكافية في المنطقة.
ولا يقتصر ضعف الاهتمام بالصحة الإنجابية على الوعي المجتمعي فحسب، حيث يعتبر فواز حاج ابراهيم، الاختصاصي في أمراض النساء، أن الوعي المجتمعي ينبع من وعي الخبرات الطبية في المنطقة، مشيراً إلى أن الكثير من المعلومات الطبية تشكّل عائقاً أمام إجراء الفحص الطبي اللازم فيما يخص الصحة الإنجابية، ولعل أهم هذه المعلومات هي البدء بعلاج عدم الإنجاب بعد مرور سنة على الزواج، كما أن الكتب الطبية توضّح أن 25% من أسباب العقم مجهولة، في حين أنه يرى أن الالتهابات هي السبب الرئيسي لعدم الإنجاب وذلك ما لا يلق الاهتمام المطلوب لدى الكثير من الأطباء والطبيبات في المنطقة في عمليات العلاج.
يقول فواز “هناك ضعف في وجود الأبحاث واللقاءات مع المجتمع المحلي للحديث حول الصحة الإنجابية، ولقاءات بين الأطباء والطبيبات لمناقشة العوائق أمام حالات ضعف الصحة الإنجابية، إلى جانب الكثير من السلوكيات البشرية اليومية تؤثر سلباً على ذلك، مجموعة من العوامل التي تعيق عملية تطوير الاهتمام بالصحة الإنجابية.” ويشير إلى أن الكثير من الأمراض يتوجب الخلو منها حتى يتم الحمل والإنجاب بشكل آمن وسليم منها فقر الدم المنجلي والتلاسيميا، والسيلان، والتهاب الكبد الفيروسي، والصرع، علماً أن فقر الدم المنجلي والتلاسيميا يصاب بهما شخص من كل أربعة آلاف شخص بحسب ما يوضحه الطبيب.
معالجة فوضى القوانين وكسر نمطية الأعراف المجتمعية سبيل نحو صحة إنجابية أفضل
“لم يسبق أن فكّرت بإجراء أي فحص متعلق باستعدادي الجسدي للزواج والحمل، وكانت المفاجأة حين حملت بطفلي الأول، وتوفي الجنين بعد أن وصلت بالحمل إلى الشهر الثامن، دون أن نتمكن من تحديد سبب الوفاة،” خاضت هيفين (اسم مستعار لامرأة عشرينية من عامودا) تجربة حمل مؤلمة بعد زواجها في العام 2020، انتهت بفقدانها لجنينها، كما أنها أصيبت في حملها الآخر بنوبات حساسية مع سعال وحكة في الجسد، وبعد الولادة عانى الطفل من الإكزيما بحساسية كبيرة، وأصابتها الحساسية في حملها الثالث.
اكتشفت هيفين فيما بعد أن ما حدث لجنينها الأول وطفلها وما أصابها خلال حملها الثالث هو إفراز جسدها لمادة خلال فترة الحمل تؤدي إما إلى قتل الجنين أو ولادته مصاباً بالحساسية، وقد علمت ذلك بعد بحثٍ طويل انتهى بمغادرتها إلى تركيا لمعرفة السبب، الأمر الذي دفعها إلى إيقاف الإنجاب بعد أن عملت أن طبيعة جسدها تحتّم عليها حملاً غير آمن.
تقول هيفين أنه عند تثبيت زواجها في المحكمة، حصلت على ورقة تثبت خلو جسدها من الأمراض التي تؤثر على الإنجاب، منوّهة أن الإجراء كان شكلياً بحتاً، حيث لم تخضع لأي فحص من قبل، إلا أن الورقة كانت إجراءً لاستكمال معاملة تثبيت الزواج.
في هذا الصدد يوضّح الحقوقي حسن برو أن الأعراف المجتمعية قائمة على تثبيت الزواج بعد أن يتم الزواج فعلياً، ولا يتم إجراء أي فحص بشكل فعلي من قبل الأزواج في المنطقة، مشيراً إلى أن التقرير الطبي ورقة لا يكتمل تثبيت الزواج بدونها، ويتضمن التقرير خلو الزوجين من الإيدز والتهاب الكبد الوبائي، والأمراض المعدية، والهدف منها اطّلاع الطبيب/ة على الحالة الصحية للزوجين، إلا أن السائد هو قيام الزوجين بتثبيت الزواج بعد حدوثه وحدوث الحمل، الأمر الذي يقف عائقاً أمام رفض تثبيته، لذا يرى حسن أن إضافة الغرامات كعقوبة في حالة الزواج قبل إجراء الفحص أو تحديد عقوبات معينة في حالة ولادة أجنة مشوهة، من شأنها تبديد الفكر المجتمعي السائد بتثبيت الزواج بعد حدوثه.
ويشير الطبيب فواز حاج إبراهيم أن العمل على سن قوانين، وإيجاد آليات لتطبيق الفحص الطبي قبل الزواج من أكثر الإجراءات التي يمكن أن تقي من الأمراض والمشكلات التي تواجه الزوجين فيما يتعلق بالصحة الإنجابية، مشيراً إلى أنه هناك تراجع واضح في تطبيق القوانين وتحوّل البعض منها إلى إجراءات شكلية تؤثر على الصحة العامة سلباً، ومن ضمنها الفحص الطبي قبل الزواج كشرط لتثبيته.
إن ثقافة الصحة الإنجابية في سوريا عموماً سواءً أكان قبل الحرب السورية أو بعدها، ليست بالثقافة السائدة، وأن الظروف الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، ومجمل تبعات الحرب السورية فرضت تحدّياتٍ عدّة، جعلت من الصحة الإنجابية محدودة في جميع المناطق السورية وخاصة في الأرياف، بحسب الناشطة النسوية زوزان علوش.
تقول زوزان: “إن الثقافة الاجتماعية تلعب دوراً مهماً في توجهات الناس تجاه الصحة الإنجابية، حيث لا تزال هناك تحفظات حول مناقشة مسائل الصحة الجنسية والإنجابية علناً، ما يحول دون حصول النساء على المعلومات الضرورية” مشيرةً إلى أنه يمكن تقسيم الحلول إلى عدة مستويات، فعلى صعيد الجهات الرسمية لا بد من تطوير القطاع الصحي والبنية التحتية الصحية في المنطقة، وتوسيع نطاق الخدمات لتصل إلى الأرياف، وتشمل جميع جوانب الصحة الإنجابية بمختلف متطلباتها، والتشبيك مع منظمات المجتمع المدني لبناء قدرات الكوادر الطبية، والعمل على نشر الوعي تجاه الصحة الإنجابية، والتشبيك مع المؤسسات التعليمية لإدراج هذه القضية في المناهج في مختلف المراحل التعليمية.
أما على صعيد منظمات المجتمع المدني المحلية أو الدولية، توضّح زوزان أنه من الضروري العمل على توفير العيادات المتنقلة لخدمة المناطق النائية، وإشراك القادة المجتمعيين/ات في عمليات نشر الوعي حول الصحة الإنجابية، وتقديم الخدمات مجاناً أو بتكلفة منخفضة لتحقيق تكافؤ الفرص للحصول عليها، كما أنه يجب العمل على تأمين دعم مالي مستدام للقطاع الصحي، وتعزيز قدرة المنظمات المحلية لتقديم خدمات تساهم في تطوير ثقافة الصحة الإنجابية.
ختاماً يمكن القول إن أهمية الوعي بالصحة الإنجابية يُعتبر ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة وضمان جودة حياة الأفراد، وإن تعزيز الوعي وتوفير المعلومات الصحيحة والدقيقة، ومناهضة الضغط المجتمعي على النساء لإنجاب الذكور، إلى جانب الخدمات الصحية الشاملة، والقوانين الصارمة، يمكن أن يسهم في تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة تخص صحتهم/نّ الإنجابية، ومن هنا، يبرز دور الحكومات والمؤسسات الصحية والتعليمية والمجتمع المدني في العمل معاً لبناء مجتمعات تتسم بالوعي والمعرفة، وتحترم حقوق الإنسان وتعزز من قدرات الأفراد على العيش بصحة وسلامة، وإن الطريق نحو مستقبل أفضل يبدأ بالاستثمار في الصحة الإنجابية، وهو استثمار في الإنسانية نفسها.