في لحظة من لحظات التجلي بيني وبين ذاتي، وبناءً على المعطيات واستناداً إلى المنهج الفكري للعلمانية القائم على عدم إخضاع المواقف والقرارات البشرية لتأثير الدين، يتراءى لي أن هذا المفهوم إشكالي أكثر مما هو متعارف عليه بأنه دفع الدين خارج مجتمعه وإفراغه من العدمية أو استبداله بالإلحاد أو العكس، وإنما يوجد جدال علماني كما هو أي جدال سياسي أو ديني أو فلسفي أو ما شابهه إن كان خارج العقائد الأخلاقية والدينية أو داخلها، بمنأىً عن النطاق السياسي البحت، علماً لا علاقة للعلمانية بالدين الذي أنا عليه وهو الدين الإسلامي، لذلك أجزم أنه من المستحيل إقصاء الدين عن جوانب حياتنا كافةً، لأن ذلك مرتبط بالقيم الأخلاقية والنابعة من جميع الأديان وليس عن الدين الإسلامي فقط، إضافةً إلى أن العلمانية تختلف حسب السياقات المختلفة لكل مجتمع.
ظهرت الدنيوية (العلمانية) كحركة سياسية وفكرية في أوروبا حيال الخلافات بين الدولة والكنيسة آنذاك تعود للانحراف الأخلاقي والمالي لرجال الدين والتكتلات الإقطاعية والكنسية التي جمدت دورها الإصلاحي والديني، الأمر الذي خلق نوعاً من الأفكار والمبادئ التي تفصل الدين عن السياسة أو الدولة، بعد أن خلَّفت قيام وظهور المذهب “البروتستانتي” والعديد من الثورات العلمية وكذلك الثورة الفرنسية المناهضة للفكر السياسي والديني وقتذاك.
وعلى الرغم من ظهور هذا المبدأ (فصل الدين عن السياسة) إلا أنه كان العكس طاغياً على كافة الحركات الأوروبية المستعمرة من خلال إرفاق الدين لذاك الاستعمار واستحضاره ضمن الكثير من الغزوات والحروب على المدد الطويلة، وهذا ما يؤكد زعم وتفنيد فصل الدين عن السياسة بل يؤكد ارتباطهما الوثيق.
أعتقد أن العلمانية التي ظهرت في أوروبا لم تبخس الدين الذي ثار عليه حقه، بل وتنظر إليه نظرة ليست بالمطلقة تلك التي تصفه بالسيء أحياناً وبالحسن أحياناً أخرى، حيث تعتبر الدين والذي له كامل الصفات التاريخية لمدد الأحقاب الزمنية الواقعية جزءً لا يتجزأ من المؤثرات الخارجية بمنطقية الواقع من خلال اندماجه وتفاعله الكلي مع التفاصيل الواقعية كماً ونوعاً، تؤثر وتتأثر بها بمنظور تاريخي فضلاً عن واقعيته بجزئه وكله كما هي العلمانية أيضاً المتأثرة بالمعطيات المختلفة لكل سياق مجتمعي، ومثال ذلك هو المجتمع الأمريكي الذي كان ولا يزال متديناً بنسبة لا تقل عن 80%.
فالميثاق(تجاوزاً) بين العلمانية وأي وضع ديني كان عاماً أم خاصاً يكون مرتبطاً بكافة الجوانب الشخصية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والربط بينها ضمن إطار السببية، وهذا يدل على أن الدين بمنظور العلمانية هو من يبلور واقعه والعكس صحيح، فهي لا تحمِّل الدين المسؤولية الكاملة فيما آلت إليه المجتمعات من أزمات مختلفة الصعد والتي دمرتها وأهلكتها بل تلقيها على الأطراف الأخرى أيضاً وتعللها بوجود أسباب عدة شارك بموجبها الكل دونما آخر.
ولكن في مجتمعاتنا لا أعلم لماذا الكيدية في الربط بين الإسلام والتطرف والعنف المسمَّى بالتكفيري من قبل بعض العلمانيين وحتى من قبل بعض اللادينيين الذين يعتبرون الدين خرافة ويجب القضاء عليه كونه لا يخلِّف سوى التطرف العنيف والأفكار التكفيرية وما شابهها من مسائل ومشاريع مستمدة من دولة الخلافة، علماً أن العلمانية ظهرت بالأساس ضد تشريعات وهيمنة قساوسة الكنيسة واستغلالهم للدين المسيحي لتحقيق مآربهم الشخصية وإفشاء الفساد في مجتمعهم متمثلةً بكافة الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية حيث الكنيسة باتت تصدر التشريعات حلالاً كان أم حراماً دون وجود رادع يتمكن منها، بل وكانت العقوبة منتظرة أي شخص يعترض أو يخالف الأوامر الكنسية المتمثلة بعقائد من قبيل (التثليث، الخطايا الموروثة، الاعتراف، الحرمان، تقديس الصليب) وغيرها الكثير التي كانت تقابَل بالغفران أو العقوبة من قبل قسيس الكنيسة، بالإضافة إلى محاربتها للعلم الذي كان يخالف عقيدتهم.
لكل حدث أسبابه الخاصة التي تجعله يظهر بالمظهر الديني أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي وكما تحكمه الأعراف والتقليدية في المجتمع، حيث الاستقطاب الحاد بين الدين والعلمانية أنشأت بينهما عداوة متصاعدة مبنية على التهجُّم والمنازعة والصراع الذي من خلاله لا بد أن يطغى طرف على الآخر بغض النظر إن كان الدين إسلاماً أو مسيحيةً أو أي دين آخر.
من الملاحَظ ،قبل عقود من الزمن في منطقتنا، كانت العلمانية والحركة الإسلامية تلعبان دوريهما كلٌ منهما على حِدا دون أن تؤثر أية تجربة على أخرى، لأن الدين الإسلامي لم يكن له علاقة بالعلمانية ولم يتأثر به أساساً لأنها تعاكس وتناقض تماماً ما يدعو إليه الإسلام المبني على الربط بين الأرض والسماء وصرف النظر عن الأمور الدنيوية وإعطاء الأولوية والاهتمام بالآخرة والقيم والمبادئ الدينية التي لا يمكن الفصل بينها وبين السياسة المدنية التي يحاول بعض العلمانيين فرضها، مستهدفين العقل وتشويه الأفكار التي تُعتَبر أحد رُكاب عملية نشر العلمانية بالنسبة لهم والذين حاولوا وبشتى الوسائل تشويه صورة الدين الإسلامي بكل الطرق الممكنة وإقصائه.
وحسب ما أظهرته العلمانية آنذاك وتظهره الآن ولدى البعض، فإن الدين له من المآثر والعمل الصالح الذي لا يمكن إنكاره مؤكدةً بأن هذه المسألة نسبية وما تمت ملاحظته آنفاً والآن أيضاً من أوضاع متردية وأزمات في هذا المجتمع، لم تكن بسبب بعض الجوانب الدينية، وإنما تداخلت وتتداخل فيها عوامل ومؤثرات خارجية أخرى متعلقة بالسلطات الحاكمة والأوضاع الاقتصادية وكذلك بدور كافة الطبقات المجتمعية على اختلاف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية والأخلاقية والعرقية والإثنية، وهذه تعتبر وجهة نظر سليمة نوعاً ما في حال طبقتها العلمانية بشكل واقعي وحقيقي على مبدأ الفصل.
ولكن من جانب آخر دخلت العلمانية بلادنا الإسلامية بعباءة عدم التدخل في ديننا وإنما لبث روح الإصلاح بين البشرية ولكنها ما فتئت بعد أن سٌنحت لها الفرصة المناسبة حتى شرعت بتطبيق المدنية ومبادئها رويداً رويداً في محاولةً منها تجريدنا من قيمنا وعقيدتنا الدينية وزرع ما يناقضها فينا بإطار مبطّن قادر على تغيير كافة الضوابط الشرعية، مرسِّخةً بذلك قوانينها الداعية للحرية الإنسانية بعيداً عن الدين بالمطلق والتي تشوبها شوائب عدة وتورث عواقب كارثية ومنها نشر الإلحاد حيث انهيار القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية وضياعها والفصل التام بين الدين والحقوق المدنية مما أفقدها قيمتها نوعاً ما وبالتالي تراجعها، مؤكدةً بذلك أن النظام العلماني ( التنويري) غير جدير بالتطبيق في مجتمعاتنا.
تَعتبر العلمانية الدين أو أية أفكار ميتافيزيقية، فرضيات لا تستند إلى أية حقائق فتفصلها عن المجتمع والدولة، كما تدَّعي أنها لا تبحث في مسألة نفي الإله أو وجوده بل تحيلها إلى الوجوديات والفرضيات الفلسفية الدينية شارطةً عدم الإضرار بالبشرية جمعاء، لذلك نراها بمنأى عن الماورائيات والميتافيزياء، وتعتبرها جدليات متباينة والشك فيها سيد الموقف، بعيدة عن منهجياتها الخاصة وماهيتها التي تستند على الوصول لنتائج مؤكدة ضمن إطار الحقيقة التي من الممكن البناء عليها، الأمر الذي أكد للكثير من الأشخاص مسلمين أو غيرهم فكرة أن العلمانية هي من تخارجت وألغت دور الإسلام في الحياة الإنسانية حيث تعارضٌ بين معايير النظام العلماني ومعايير النظام الديني.