اختارت سلوى اسماً مستعاراً لتتحدث عن تجربةٍ عاشتها أثناء رحلة البحث عن عمل في منظمات المجتمع المدني بمدينة الرقة، تقول سلوى البالغة من العمر 25 عاماً، إنها عملت تطوعياً لدى بعض منظمات المجتمع المدني، طيلة فترة دراستها في كلية الهندسة المدنية، وتأملت بأن تجد عملاً يتناسب مع الخبرات التي اكتسبتها من العمل التطوعي فور تخرجها من الجامعة.
تقدّمت سلمى لشاغرٍ وظيفي لدى منظمة تعمل في الرقة، وبعد مرور فترة زمنية على إجراء المقابلة، حصلت على رد بالرفض، لم يشكّل الأمر صدمةً لها إلا بعد فترة حين عملت في منظمة أخرى، وشاءت الصدفة أن يحدث تشبيك بين المنظمة التي تعمل بها، والأخرى التي رفضت توظيفها، لتتعامل بشكل مباشر مع فتاةٍ حصلت على الشاغر الوظيفي الذي كانت قد تقدمت به، وفوجئت بأن هذه الفتاة لا تملك أية خبرات عمل في هذا المجال، وبعد تقديمها الملاحظات على سوء عملها، فقد أخبرها المدير المباشر للفتاة بأنه وزملائه سيتولّون المهام المطلوبة من الفتاة تلك، مبرراً أنه قام بتوظيفها نظراً لأن الفتاة تعيل عائلتها وبحاجة لعمل.
“إن تفضيل الوضع المادي على الكفاءات المهنية أمرٌ يتعارض مع القوانين التوظيفية للمنظمات.” يقول سامر الناشف مدير “مكتب شؤون المنظمات في المجلس التنفيذي لمقاطعة الرقة”، ويضيف أنه يمكن أخذ الوضع المادي بعد تحقيق الشروط اللازمة للتوظيف، من إمكانات وخبرات وشهادات يتطلبها الشاغر الوظيفي، وما لم يتم العمل بهذه الآلية، فإن إدارة أية منظمة تعرّض نفسها للمساءلة مشدداً إلى ضرورة مكافحة أية محسوبيات في عمليات التوظيف في منظمات المجتمع المدني.
ابتزاز وانتهاكات أخرى مختلفة يتعرّض لها طالب/ة العمل لدى منظمات المجتمع المدني
رياض حمزاوي البالغ من العمر 42 سنة، يعمل حالياً في قسم الميديا بمنظمة شباب أوكسجين بمدينة الرقة، تعرّض أيضاً لانتهاكاتٍ خلال البحث عن عمل في منظمات المجتمع المدني، حيث يعمل في هذا المجال منذ العام 2018، وبعد انتهاء المشروع الذي عمل ضمنه في العام 2022، أعلنت منظمة تعمل في الطبقة، عن شاغر ضمن اختصاص رياض المتعلق بالتصميم الغرافيكي، وحين تقدّم للشاغر، لم تجرِ المنظمة أية مقابلة معه، ليكتشف فيما بعد أن شخصاً لا يملك أية خبرة في هذا المجال، نظراً لعلاقاتٍ شخصية تربطه بأحد العاملين في المنظمة.
لم تتوقف معاناة رياض هنا، فقد تعرّض لموقفٍ مشابه حين تقدّم لشاغر وظيفي في المنظمة التي عمل بها سابقاً، في الوقت الذي أعلنت فيه المنظمة عن شاغرين، وقد قام شخص آخر بالتقدم لكليهما، ليتفاجأ رياض بأن الشخص ذاك قد تقدّم للقائمة القصيرة في كلا الشاغرين، في حين تم رفضه في الشاغر الذي تقدم إليه ضمن اختصاصه.
في هذا الصدد، تقول ميديا أحمد مسؤولة بناء القدرات في منظمة إيمباكت بمدينة قامشلي، إنه وانطلاقاً من تجربتها في بناء قدرات عدد كبير من منظمات المجتمع المدني في مناطق شمال شرقي سوريا، لا توجد آليات توظيف واضحة لدى مختلف المنظمات العاملة في المنطقة، حتى أن الإجراءات الروتينية للتوظيف يتم تطبيقها في الحد الأدنى.
وتوضح ميديا أنه على الرغم من وجود السياسات لدى الكثير من المنظمات، إلا أنه تتم بعض التجاوزات سواءً أكان في اختيار السيَر الذاتية أو إجراء المقابلات، منوهةً إلى أن التجاوزات تتم بكل سهولة، وبدون رادع، في إحدى مراحل عملية التوظيف، وإن أكثر التجاوزات التي تتم في المنطقة هي توظيف الأقارب واتّباع المحسوبيات في عمليات التوظيف، إلى جانب تعيين بعض الموظفين/ات براتب وارد في الميزانية، إلا أن هؤلاء يحصلون/ن على قسم من ذلك الراتب، دون العودة إلى العقود الموقعة معهم/نّ.
ويعتبر حسين الحسين المدير التنفيذي لمنظمة أمل الفرات، إن الفساد المنتشر في عمليات التوظيف من شأنه أن يقوّض فرصاً حقيقية من شأنها تطوير وتنمية المجتمع، وإنعاش البلاد، وإن التهرب من تطبيق القوانين والسياسات نتيجة حالة طارئة، في الوقت الذي توجد به منظمات تعمل بشفافية ونزاهة، ولا يمكن إنكار الحالتين.
وتعمل في مناطق شمال شرقي سوريا 370 منظمة مجتمع مدني تحمل ترخيصاً للعمل، بحسب أحدث إحصائية حصلت عليها منصة نيكستوري من “مكتب شؤون المنظمات الإنسانية في القامشلي”، وتعمل منها 139 منظمة في مدينة الرقة بحسب إدارة “مكتب شؤون المنظمات في الرقة”.
ولا تقتصر الانتهاكات على عدم تكافؤ الفرص في الحصول على عمل لدى منظمات المجتمع المدني بل إنها وصلت إلى حد الابتزاز المالي، الأمر الذي تعرضت له “منى” التي اختارت التحدث باسم مستعار، والتي تبلغ من العمر 35 عاماً، وتحمل إجازة في كلية التربية، حيث أنها وأثناء البحث عن عمل، تمكنت من الحصول على تواصل مع أحد العاملين في منظمة تنشط في الرقة، بهدف مساعدتها في إيجاد فرصة للعمل، وقد وعدها بالعمل بالفعل، لكن مقابل الحصول على مبلغ مالي قدره 400 دولار أمريكي، وبعد تردد دام لأسابيع، قررت منى أن توافق على الشرط بهدف الحصول على العمل، وذلك ما حدث بالفعل.
ظنّت منى أن الأمر سينتهي هنا، وستنعم باستقرارٍ بعد الحصول على الوظيفة، إلا أن صداماً أثناء العمل مع الشخص ذاته، دفعه لتهديدها بفقدان عملها إن لم تدفع له مبلغاً من المال، نظراً لأنه أوضح بأن منصبه يمكّنه من اتخاذ القرار بفصلها عن العمل أو توظيفها.
“إن جهلي بالنظام الداخلي وسياسات المنظمة، جعلني فريسة سهلة لشخص تمكن من ابتزازي مادياً، فقد أوهمني أن بيده السلطة، وتمكن من تحويل عملي إلى كابوس عايشته لفترة من الزمن،” تقول منى وتشير إلى أنه تجرأ وكرر طلبه للمرة الثالثة، فقد قررت أن تقوم بإخبار إدارة المنظمة عنه، وبعد التحقيق في الأمر، قامت الإدارة بفصل الموظف ذاك من عمله، وعوقبت هي بخصم من راتبها لأشهر عدة.
غياب ثقافة الشكوى وشكلية السياسات من أهم العوائق أمام مكافحة الفساد في منظمات المجتمع المدني
إن التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني هي ضعف الخبرات لإيجاد آليات وسياسات للتوظيف وإعلان الشواغر باحترافية، في ظل غياب هذه السياسات لدى الكثير من هذه المنظمات، لذا فإن أية إشكالية تظهر للسطح لن تتمكن المنظمة من التعامل معها بشكل سليم، بحسب ما توضحه ميديا أحمد.
“تكمن الحلول في بناء القدرات لدى العاملين/ات في منظمات المجتمع المدني، والعمل على مدونات قواعد السلوك والسياسات المختلفة ومن ضمنها تلك المتعلقة بالتوظيف، وفي الوقت ذاته على من يتقدم لأية وظيفة ويتم قبوله أن يفهم محتوى سياسات المنظمة ومدونة قواعد السلوك، للوعي بالواجبات والحقوق المترتبة عليه.” توضّح ميديا.
من جهته، يشدد بسام الأحمد مدير منظمة سوريون لأجل العدالة والحقيقة، على ضرورة وجود سياسات وإجراءات شفافة، في ظل وجود تجاوزات من قبل أفراد، إلا أنها تسيء لسمعة المنظمة ككل، لذا هناك حاجة ملحة لوجود هذه السياسات وآلية لمراقبة التقيد بها.
ويضيف بسام أن صورةً نمطية انتشرت بين المجتمع المحلي على أن منظمات المجتمع المدني قائمة على المحسوبيات والواسطات وغياب تام للنزاهة، فإن جزءاً من ذلك صحيح، إلا أن الصورة تبقى معممة، وتوجد منظمات تعمل بشفافية ونزاهة، ولكن حين تتوثق حالات تعرضت لابتزاز وتحرش وغيرها من الانتهاكات، فإن الأمر ينتقل لدرجة أخرى تتطلب تدخلاً من السلطات المحلية لمعاقبة مرتكبي/ات هذه الانتهاكات.
“عند الحديث عن الإشكاليات الموجودة لدى منظمات المجتمع المدني، فإننا بحاجة لتسليط الضوء على جانب آخر من الإشكالية وهي غياب الخبرات الكافية للبعض من طالبي/ات العمل لدى منظمات المجتمع المدين، لذا فإننا نشدد على ضرورة العمل تطوعياً لفترات طويلة لاكتساب خبرات كافية تؤهل حاملها للحصول على وظائف في هذه المنظمات.” يقول بسام.
من جهة أخرى وفي السياق ذاته، تؤكد رانيا علو المديرة التنفيذية لمنظمة “الفصول الأربعة” إنه يجب رفع الوعي المجتمعي تجاه تبعات التوظيف غير القانوني، حيث أن الرضوخ للمبتزين/ات، يساهم في نشر الفساد، لذا فإنه من الضروري الحذر واليقظة عند التقدم لأي شاغر وظيفي، والفهم الحقيقي لمتطلبات هذا الشاغر، بهدف منع أية محاولة انتهاك مقابل التوظيف، بحسب ما توضحه رانيا.
ختاماً، يبقى الأمل معقوداً على أن تجد أصوات طالبي وطالبات العمل في منظمات المجتمع المدني في شمال شرقي سوريا صدىً لدى الجهات المعنية، حيث يتبين أن التحديات التي يواجهونها/نها ليست مجرد عقبات فردية، بل هي انعكاس لواقع معقد يتطلب تضافر الجهود لإحداث تغيير حقيقي.
كما أن بناء مستقبل أفضل يتطلب من جميع الجهات المعنية العمل على تعزيز بيئة عمل آمنة وعادلة، حيث يمكن لكل فرد أن يساهم/تساهم بفعالية في بناء مجتمع مدني قوي ومستدام.