في خريف العام 2019، وعند استعدادها للنوم، كانت لمسةُ يدٍ بالصدفة، سبباً لأن تكتشف نورهان إصابتها بسرطان الثدي، حين شعرت بوجود كتلةٍ قاسية في صدرها بعد أن لمسته أثناء استبدال ملابسها.
اختارت نورهان اسماً مستعاراً للحديث عن تجربتها مع سرطان الثدي، لأسبابٍ خاصة بها، وأكملت بأنها حين لامست الكتلة في صدرها لم تتمكن من النوم لدقيقةٍ واحدة، لما غزاها من شعورٍ بالقلق والخوف، ومع بزوغ فجر اليوم الثاني، سارعت إلى جانب زوجها لتخضع للفحص الذي تأملت أن يطمئنها بأن الكتلة سليمة.
تنحدر نورهان من مدينة عفرين، وتقيم في مدينة قامشلي، وتبلغ من العمر 41 عاماً، عاشت رحلةً طويلة بهدف التعافي من سرطان الثدي، والتي كانت، في بدايتها، لا تريد الاقتناع بوجود المرض في جسدها، إلا أنها تيقّنت فيما بعد أن طفلاتها الثلاث، وزوجها، وحياتها المستقرة يستحقون أن تتمتع بعزيمةٍ كبيرة للتعافي، وبالفعل كان التوجه لدمشق لمعرفة مدى انتشار المرض خطوةً أولى نحو العلاج.
عانت نورهان من خلايا متعددة البؤر، أما الكتل التي تم استئصالها من منطقة الإبط فلم تكن منتشرة، الأمر الذي سهّل العلاج دون أن ينتشر المرض في مناطق أخرى من جسدها، وتصف مرحلة التداوي بالجرعات الكيماوية بأنها مرحلة تتعب الجسد، لذا فإنها لم تقوَ على السفر لدمشق شهرياً، وقررت استكمال المعالجة في مدينة قامشلي، وتشير إلى أن علاجها لم يكن ليتم دون الدعم الذي تلقّته من زوجها.
“كنت على الدوام أفكر بطفلاتي، وأتمنى أن أبقى على قيد الحياة إلى أن أراهنّ متمكنات من الاعتماد على أنفسهن، لذا لم أفكر بالمرض، ولم أفكر سوى كيف لي أن أتجاوز هذه المحنة؛ كنت على ثقة تامة بأنني سأتعافى.” تقول نورهان.
اتّبعت نورهان، خلال فترة علاجها، سلوكيات خففت عنها بعض آثار المرض، فقد كانت تصطحب معها كوباً من القهوة أثناء تلقي جرعة الدواء الكيماوي، كما أنها، واستعداداً للتغييرات التي يفرضها المرض، قامت بقص شعرها بشكل نهائي، وتوجهت إلى الحديقة لوحدها لتزيل عن نفسها الضغط وتستعد للقاء عائلتها بعد حلاقة شعرها، العائلة التي حاولت ألا تُبدي استغراباً شديداً، وتكون جزءاً من تخفيف الأثر.
أنهت نورهان التداوي بالعلاج الكيماوي، ثم طلب منها الطبيب أن تتوجه إلى دمشق لاستكمال العلاج، وفي حالة نورهان كان المرض يتغذى على الهرمونات الأنثوية، لذا فقد وجد الأطباء أنه يجب استئصال الثدي كاملاً، إلا أن نورهان لم تتقبل البتة أن تتخلى عن ثديها، لذا فقد قابلت عدد كبير من الأطباء والطبيبات لعلّها تجد حلاً آخر غير الاستئصال، إلا أن الحل لم يكن الأفضل حسب رأيها، فقد تم الاتفاق على تفريغ الثدي كاملاً والاحتفاظ بالجلد، في الوقت الذي كان الثدي الآخر معرّضاً للإصابة بالمرض مع مرور الوقت، لذا فقد قام الأطباء بتفريغ الثديين بشكل كامل، وبقيت نورهان غير متقبلة لحقيقة فقدانها لثدييها، لذا ومع مرور عشرة أيام فقط على العمل الجراحي، قامت بإجراء تجميلي للثديين، في عمليةٍ استغرقت ثمان ساعات، واستفاقت بعدها بصعوبةٍ من التخدير، ولم تتمكن من النوم مستلقية على ظهرها لستة أشهر نتيجة أثر العمليات التي خضعت لها.
“تغيّرت حياتي كاملةً بعد إصابتي بسرطان الثدي، كنت سابقاً حازمة وعصبية، وساخطة على كل الظروف المحيطة بي، إلا أن إصابتي بالمرض علّمتني التحلي بالصبر، والنظر للحياة على أنها نعمة وأنني أستيقظ كل يوم وأنا محاطة بعائلتي.” تقول نورهان وتستذكر السيدات المصابات بالمرض ممن تعرفت عليهنّ أثناء رحلة العلاج، حيث كان البعض منهن يفقدن أعصابهن، وأخريات توفّين أثناء العلاج، معتبرةً أن أهم العوامل لنجاح العلاج هو السعي، والاستمرارية، والتحلي بالأمل للشفاء.
اليوم وبعد تعافي نورهان من سرطان الثدي، باتت نورهان أكثر حرصاً على صحة جسدها وأجساد بناتها، متحدّية “ثقافة العيب” التي تحكم مجتمعات المنطقة فيما يتعلق بصحة أجساد النساء بحسب رأيها، وتحاول نشر الأمل لدى أية سيدة تعاني من المرض.
في العائلة تاريخٌ طويل مع سرطان الثدي .. لم يقيها من الإصابة به
بهية مراد سيدة ستينية من مدينة قامشلي، أصيبت بسرطان الثدي حين كانت تبلغ من العمر 42 عاماً، كانت يقظةً دوماً لأي تغيير يطرأ على جسدها، نظراً لتاريخ طويل يجمع نساءً من عائلتها مع مرض سرطان الثدي، لذا حين شعرت بوجود كتلةٍ في ثديها سارعت لإخبار زوجها وعائلتها وتوجهت للفحص، لتكتشف إصابتها بالمرض.
“قبل إصابتي بالمرض، كنت أقدّم دعماً نفسياً كبيراً لنساءٍ من عائلتي أصبنَ بسرطان الثدي، وكنت أحاول جاهدةً أن أزرع في قلوبهن الأمل بالشفاء، إلا أنني حين أصبت بالمرض اكتشفت أنه عبءٌ ثقيل، ومواجهته ليست بالأمر السهل.” تقول بهية.
خضعت بهية لعملية استأصلت فيها ربع حجم الثدي، لتستكمل العلاج عبر التداوي بالكيماوي، والتي تعتبرها من أصعب الفترات خلال رحلة العلاج، إلا أن ما كان يشغل بالها هو أطفالها الذين كانوا صغاراً في السن حينها، وجلّ ما تمنّته هو أن ترى أطفالها يكبرون وينجحون في تحصليهم العلمي، لذا فإنها لم تأبه لما تركه المرض من أثر على جسدها.
ونظراً لتكلفة العلاج الباهظة، فإن الوضع المادي لعائلة بهية لم يكن متوافقاً مع حاجات العائلة، وحين قرر ابنها الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية السفر إلى دمشق للعمل بهدف جمع المال اللازم لدراسته، رفضت بهية ذلك، وعملت، رغم مرضها، على خياطة الملابس، حتى تساعد ابنها للحصول على حصص تعليمية خاصة تحضيراً لشهادة الثانوية العامة، وذلك انطلاقاً من طموحها لأن يحقق أولادها نجاحاتٍ كبيرة في مرحلة التعليم.
حظيت بهية بدعمٍ معنوي من عائلتها، ساعدها في النهوض من جديد، وتحمّل الآلام في مرحلة العلاج، والتعب المترتب على السفر لمسافاتٍ طويلة خلال فتراتٍ متقاربة، والابتعاد عن عائلتها، وما تكبدته من تكاليف مالية باهظة للعلاج، وما كان يعزّيها هو النتائج التي كانت تحصل عليها، والثناء الذي تلقّته من الطبيب المختص كونها كشفت مبكّراً إصابتها بالمرض.
تقول بهية إنه، ولحسن الحظ، خلال السنوات الأخيرة، انتشر وعيٌ مجتمعي تجاه هذا المرض، ولعب الإعلام والمبادرات المجتمعية من قبل الأطباء والجهات المختلفة دوراً مهماً في رفع هذا الوعي، حيث أنه سابقاً كان من المعيب أن تقوم سيدة بالكشف عن الثدي بهدف الفحص وخاصة حين يكون الطبيب رجلاً، لذا فإن الأمر تغيّر الآن، وتأمل أن تنتهي التحديات التي تواجه مرضى ومريضات السرطان.
انطلاقاً من تجربتها الصعبة، باتت بهية تطلق مبادراتٍ تصب في الوعي تجاه أهمية الكشف المبكر عن المرض، حيث تعمل في دار المرأة بمدينة قامشلي، وتستثمر قدرتها على الوصول إلى شريحة واسعة من السيدات لتنشر الوعي لديهن، وتساعدهن في الوصول إلى الخدمات المتوفرة في المنطقة فيما يتعلق بالفحص والكشف المبكر عن المرض والتداوي منه.
رحلة الشجاعة من وراء الألم .. سيدات هزمن سرطان الثدي
أم يوسف امرأة أربعينية تنحدر من ريف مدينة دير الزور، وتسكن في مدينة دمشق، عايشت انتشاراً للسرطان في أجزاء مختلفة من جسدها، فقد انتشر المرض في الثدي والإبط والكبد والرحم والرئتين، لم تشعر يوماً أنها تعاني من أي مرض، واستقرت في دمشق بعد رحلة نزوح شملت مدن عدة في شمال شرقي سوريا، وفي أواخر رمضان العام الفائت 2023، بدأت تشعر بألمٍ في صدرها وكتفها الأيسر، ولم تستشر طبيباً لأنها تمكنت من تحمّل الألم.
وبعد انتهاء عيد الفطر، لاحظت أن ورماً يكبر يوماً بعد يوم في صدرها، حينها قررت أن تزور طبيباً مختصاً، وبعد الفحص، اكتشفت إصابتها بالسرطان، لم تعلم حينها أن المرض منتشر في جسدها، إلى أن تعافت من سرطان الثدي.
تعمل أم يوسف في بيع الخبز وسط مدينة دمشق، واستمرت في عملها أثناء رحلة العلاج، حيث كانت تعود من جلسة التداوي بالكيماوي إلى المخبز لتعمل، وبعد مرور ثلاثة أيام عن كل جرعة كانت تشعر بآلامٍ شديدة في جسدها تُفقدها القدرة على الحركة، واستمرت على الحال هذه إلى أن بدأت بالتعافي من المرض.
“حين علم زوجي بإصابتي بسرطان الثدي، جلس وانهار بكاءً، لم يتركني للحظة، ولولا دعم عائلتي لي لما تمكنت من التعافي نفسياً ثم جسدياً من المرض.” تقول أم يوسف وتؤكّد أن أطفالها وخاصة ابنتها الصغيرة كانوا من يشغلون/ن بالها، وتود التعافي لأجلهم/نّ.
ويجمع دافع التعافي وهو الأطفال والطفلات، بين أم يوسف وشمسة الحسن المنحدرة من مدينة قامشلي والمقيمة في إقليم كُردستان العراق، عايشت شمسة مرض سرطان الثدي في العام 2017، واستأصلت ثديها نتيجة المرض، كل ذلك في رحلتها الأولى إلى دمشق للتأكد من إصابتها، حيث أنها لم تخبر عائلتها إلى أن انتهت من العمل الجراحي وبدأت العلاج.
في الجلسة الأخيرة من جرعات الكيماوي، لم يحتمل جسدها كمية الأدوية المخصصة للعلاج، إلا أنها تمكنت من تجاوز الأمر، واضطرت إلى السفر لدمشق مرةً كل ستة أشهر، ثم انتقلت للسفر مرة سنوياً، وكان الوضع الاقتصادي السيء للعائلة من التحديات التي واجهت علاجها، حتى أنها لم تتمكن من مراجعة طبيبها منذ سنوات، وانتقلت للعيش في إقليم كُردستان العراق.
تقول شمسة أنها كانت تعيش حالةً نفسية سيئة، إلا أن خوفها على أولادها كان يبني لديها الدافع لتحمّل آلام العلاج، فلم يكن لديها الاستعداد لتركهم وحدهم، وتشعر بامتنانٍ كبير لعائلتها وجيرانها ممن دعموها/نها مادياً ومعنوياً لهزيمة المرض.
تلك حكايات نساءٍ استثنائيات، ناجيات من سرطان الثدي، أعدن كتابة قصصهن بالإصرار والعزيمة، ولم تكن معركتهن مع المرض مجرد تحد للبقاء، بل كانت رحلة لإعادة اكتشاف الذات، وتلبية حاجة العائلة لوجودهن.. والأكيد أن الناجيات أكثر من ذلك بكثير، والنساء المصابات بسرطان الثدي، واللاتي يستطعن أن يصبحن ناجيات هن أكثر كذلك، لكن الطريق لمساعدتهن يمر من خلال التوعية بالكشف الدوري للنساء، وزرع الأمل في نفوسهن، فالعلاج لم يعد صعباً كما كان سابقاً، والإرادة هي التي تجعل المصابة ناجية، ومن ثم مثل يحتذى به لغيرها من النساء.