“أطفالي يقضون أكثر من تسع ساعات يومياً أمام شاشات الأجهزة الذكية، فقد سمحت لهم باستخدامها في البادية كوسيلة للتسلية، وكنت أجهل أنني لن أستطيع التحكم بهم وفقدان السيطرة عليهم بعد فترة من الزمن.” تقول يسرى الشيخ (45 عام من مدينة الدرباسية) الأم لثلاثة أطفال ذكور تبلغ أعمارهم بين 12 و 15 سنة، التي اعتقدت أن الهواتف الذكية مجرّد أدوات للتسلية للأطفال، ولم تتوقع أن تتحول حياتها لكابوس نتيجة فقدانها السيطرة على استخدام أطفالها لهذه الأجهزة.
تسرد يسرى النتائج التي خلّفها الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية من قبل أطفالها، وتقول: “ابني الأكبر يعاني من اضطرابات عصبية، وبات سلوكه عدوانياً، ولا أستطيع التحكم في تصرفاته، أما ابني الثاني، فيعاني من مشاكلٍ في النطق، فقد كان طبيعياً، إلا أنه ومع مرور الوقت بدأ يتراجع في النطق،” وتبدي يسرى حزنها الشديد حين تتحدث عن محاولات طفلها للتحدث ومكافحته للتعبير عما يريد، حيث باتت إمكاناته النطقية لا تتجاوز بضع جملٍ قصيرة، أو عدم التحدث على الإطلاق في الكثير من الأحيان.
الحالة التي وصل إليها أحمد حمو مع أطفاله الخمسة، لا تقل خطورةً عما وصلت إليه حال يسرى مع أطفاله، وينحدر أحمد من بلدة أبو راسين بريف حسكة الشمالي، ويبلغ من العمر 50 عاماً، وهو أب لخمسة أطفال، حيث تعرّض للضرب بالهاتف من قبل طفلته الأصغر، وذلك أثناء محاولته أخذ الهاتف من يدها.
يقول أحمد إن أطفاله يستخدمون الهواتف بإفراط إلى درجة لا يمكنه تذكّر عدد الساعات التي يقضونها أمام الشاشة، وجلّ ما يتابعونه حلقات على تطبيق “يوتيوب” لأناسٍ يرقصون/ن ويأكلون/ن ويغنون/ين، في الحين الذي يشعر به بالندم الكبير ويتمنى العودة للوراء وامتناعه عن شراء أي جهاز ذكي للمنزل، كما أنه لا يملك أية فكرة للتخلص من تأثيرات هذه الأجهزة على أطفاله.
أما عبود خليل (25 عام من مدينة الدرباسية) الأب لطفل وحيد، يقول إن ابنه لم يتجاوز الرابعة من عمره بعد، ويقضي ساعات طويلة مستخدماً الهاتف، ويعترف بأنه وزوجته يحملان ذنب الأمر، كونهما انساقا وراء متطلبات طفلهما رغم صغر سنه، كما أنهما لم يفكرا بالنتائج التي قد يخلّفها إهمالهما له، على حد وصفه، ويقول “كنا ننبهر بذكاء طفلنا حين تعلّم كيفية استخدام الهاتف بسرعة، كما تعلّم تنزيل الألعاب والتطبيقات، لكننا لم نعلم أنه بات يعاني من مشاكل صحية في ظهره وعينيه نتيجة استخدامه المفرط للهاتف.”
مخاطر كثيرة تهدد الأطفال والطفلات لدى استخدامهم/نّ للأجهزة الذكية، صحياً ودراسياً
تقول يسرى والدة الأطفال الثلاثة، إنّ طفلها يعاني من اضطراباتٍ عصبية، ويقوم بحركات غير طبيعية، وتعبيرات لا إرادية تظهر على وجهه، من قبيل إغلاق عينيه بقوة وبشكل متكرر ولا إرادي، كما أنه يُثني شفتيه ويلويها ويحركها كما أنه يعاني من التشنّج، وعن ابنها الذي يعاني من صعوبة في النطق، تقول: “أخرجتُ طفلي من المدرسة بعد أن أنهى الصف الثاني، لأنه لم يعد يتمكن من نطق كلمتين متتاليتين بشكلٍ صحيح، نتيجة تعثره وتلكؤه بالكلام، الأمر الذي شكّل لديه عقدةً نفسية، وأكّد الطبيب أن حالته تعود لاستخدامه للأجهزة الإلكترونية لساعات طويلة.”
إنّ قضاء ساعات طويلة أمام شاشات الأجهزة الإلكترونية بمختلف أنواعها، يسبب أمراضاً ومشاكل صحية ونفسية وعصبية منها، الخمول، والانطوائية، والعزلة، وقد تصل في بعض الأحيان إلى فقدان مرونة التواصل الاجتماعي نهائياً، ولا يقتصر الأمر على الحالة النفسية، بل يتجاوز الأمر ليؤثر على النوم والتذكّر، بحسب ما يوضحه أحمد صالح، الاختصاصي في الأمراض العصبية لدى الأطفال والطفلات، والمنحدر من مدينة قامشلي.
وعن الأعراض التي قد تظهر بوضوح نتيجة وضعية جلوس الأطفال والطفلات أمام الأجهزة الإلكترونية، يقول الطبيب أحمد “هناك حالات عديدة لأطفال يعانون من مشاكل في الجهاز الهيكلي، والعمود الفقري، كالتحدب والجنف وغيرها من التشوهات الخطيرة، والتي تحتاج إلى تدخل سريع لعلاجها قبل تفاقمها.” ويشير إلى أبرز الحالات التي يستقبلها في عيادته “غالبية الحالات التي قابلتها في عيادتي كانت لأطفال يعانون من تشنجات عضلية تظهر على شكل حركات لا إرادية واضطراب فرط الحركة، وهي حالة تتسم بالاندفاعية.”
من جهتها، توضّح لافا هسام، الاختصاصية النفسية من مدينة قامشلي، أن استخدام الأطفال والطفلات المفرط للأجهزة الإلكترونية له العديد من التأثيرات النفسية، منها الانفصال عن الحياة الواقعية نتيجة الاندماج في العالم الافتراضي، والخوارزميات التي صُممت فيها هذه الألعاب أو المواقع، والتي تجعل الطفل/ة ي/تتعلق بها تعلقاً مرضياً، بالإضافة إلى شعور الطفل/ة بالقلق والتوتر باستمرار، والشعور بالاكتئاب أحياناً، بسبب المحتوى السلبي الذي ي/تتعرض له الطفل/ة أو الخسارة في لعبة معينة.
وتشير لافا أنه في هذه الحالات يتحول الأمر إلى إدمان وذلك بسبب مستويات “الدوبامين” التي تُفرز عند استخدام الاجهزة الإلكترونية أو عند الفوز في لعبة معينة، وتكون الأعراض التي تظهر على الطفل/ة في حال محاولة حرمانه/ها من الهاتف مشابهة للأعراض الانسحابية لمدمني المخدرات” مضيفة أن “غالبية المشكلات النفسية التي يعاني منها الأطفال في السنوات الأخيرة هي بسبب استخدام الهاتف، ومنها الصرع الناتج عن تأثير أمواج وذبذبات الهاتف واضطرابات النوم وكذلك اضطراب “الفومو” وهو الخوف الدائم من فوات شيء معين.”
لم تقتصر نتائج استخدام الأطفال والطفلات للأجهزة الذكية على إصابتهم/نّ بأمراض مختلفة جسدياً ونفسياً، فالكثير من الكوادر التدريسية باتت تلاحظ تقصيراً وتراجعاً واضحين من قبل الأطفال والطفلات داخل الصفوف المدرسية، وفي هذا الصدد، تقول بشرى حسين مدرّسة للمرحلة الابتدائية من مدينة الدرباسية: “لدينا 20 طالب وطالبة في الصف، وفي كل مرّة أطلب فيها منهم/نّ تنفيذ الواجب المنزلي، لا يستجيب لي سوى ثلاثة أو أربعة طلاب، ولدى سؤالي عن سبب التقصير، أسمع إجابات من قبيل (كان يلعب “بوبجي”.. كانت تلعب بالموبايل.)”
وتشير بشرى إلى أنّ أثر استخدام الأجهزة الإلكترونية بات ملحوظاً في سلوكيات الطلاب والطالبات، وأن عدداً محدوداً منهم/نّ يتفاعلون/ن مع المحتوى التعليمي، ويتابعون/ن بتركيز، على عكس الغالبية ممّن يفقدون/ن تركيزهم/نّ، ويعانون/ين من خمولٍ دائم، ويغلبهم/نّ النعاس داخل الصف.
“دُعيتً إلى اجتماع أولياء الامور لأكثر من خمس مرات خلال عام دراسي واحد نتيجة إهمال طفلي الأوسط لدروسه وتعامله بعنف مع زملائه، كما أنه أخذ الهاتف معه إلى المدرسة ذات مرة دون علمنا، وتسبب بفوضى عارمة داخل الصف المدرسي، كما أنه ضرب أحد زملائه بعد أن خسر اللعبة على الهاتف.” يقول أحمد حمو الوالد لخمس أطفال من بلدة أبو راسين، ويضيف أحمد أن سلوكيات طفله سابقة الذكر بدأت بالظهور بعد أن قام بشراء هاتف خاص له حتى يتخلص من شعور الغيرة من أصدقائه، إلا أن النتيجة كانت تحوّله إلى طالب “كسول ولا مبالي.”
إن الكثير من الطلاب والطالبات يعتمدون/ن على التطبيقات والبرامج الإلكترونية في أداء الواجبات المنزلية، الأمر الذي يسبب أثراً سلبياً واضحاً على تطوير قدراتهم/نّ ومهاراتهم/نّ الذهنية، بحسب ما يوضّحه محمد الصالح الذي عمل مدرّساً سابقاً ومديراً في معهد المشلب بمدينة الرقة، ويضيف أن الحال وصلت بالطلاب والطالبات بالتخلي عن كتابة وتبييض الدروس خلال الحصة المدرسية، إنما يعتمدون/ن على الهواتف عبر تصوير اللوح الدراسي، ما يسبب حالة من الضياع والتشتت لديهم/نّ في التحكّم بالوقت، وإمكانية مراجعة الدروس في المنزل، ويشير إلى أنه قد تبدو هذه التفاصيل أموراً ثانوية بالنسبة للأهل، إلا أنها تترك آثاراً سلبية مع مرور الوقت، تتوضح معالمها في ضعف قدرة الطلاب والطالبات على الابتكار والإبداع المفقود لدى عدد كبير منهم/نّ في الوقت الحالي على حد وصفه.
تحرير الأطفال والطفلات من سجن الشاشات مسؤولية مشتركة بين الأهل والكوادر التدريسية
“إنّ إجراء لقاءات دورية مع أهالي الطلاب من قبل إدارة المدرسة، أمر في غاية الأهمية كونه يساعد على بناء نوع من الثقة بين الطرفين ليتمكن كليهما من مناقشة وفهم سلوكيات الأطفال ووضع خطط مشتركة تهدف لتوجيه الطفل نحو استخدام عادل وصحيح للأجهزة الإلكترونية.” تقول بشرى وتتابع “ندعو أهالي الطلاب بشكل دوري ولكن معظمهم يمتنعون عن الحضور لأسباب غير واضحة وهذه إحدى أكبر المشكلات التي تواجهنا.” وتجد بشرى أن من واجب إدارة المدارس العمل على تحسين التواصل مع أهالي الطلاب والطالبات نظراً للنتائج الإيجابية التي قد يتوصلون/ن إليها من خلال مشاركة التجارب والنصائح حول كيفية تشجيع الأطفال والطفلات على الانخراط في أنشطةٍ بديلة عن استخدام الهواتف والأجهزة الإلكترونية.
وتعد تجربة هناء خليل (47 عاماً) من مدينة الحسكة، الأم لأربعة أطفال، مثالاً إيجابياً، نظراً لأنها تمكنت خلال مدةٍ زمنية قصيرة من أن تمنع طفلها الدخول في مرحلة الإدمان على الأجهزة الإلكترونية، وذلك بعد أن استعانت بإحدى المعلمات في مدرسة طفلها لتتمكن من توجيهه وإرشاده.
تقول هناء إنها، أثناء تواجدها في إحدى اجتماعات أولياء الأمور في المدرسة، قامت بطرح مشكلة طفلها وتعلقّه المفرط بالهاتف وخاصةً تطبيق يوتيوب، تلقّت اقتراحاً من إحدى المدرّسات بأن يترافق طفلاهما في أوقات الدراسة، في محاولةٍ لإشغاله عن الهاتف، وذلك ما حدث بالفعل، حيث تساهم الأنشطة المشتركة بين الأطفال والطفلات في زيادة التفاعل مع الوسط المحيط، وتنمّي لديهم/نّ روح المنافسة الإيجابية، على حد وصفها.
وفي سياق توجيه الطفل/ة، تقول لافا هسام “لخلق توازن صحي لاستخدام الأجهزة الإلكترونية يجب على الوالدين تحديد ساعات قليلة لاستخدام الهاتف، وبشروط معينة، وتتوجب الرقابة الشديدة على الطفل/ة عند استخدام الهاتف، إلى جانب انتقاء الألعاب التي ي/تلعبها الطفل/ة،” وتتابع “يتوجب برمجة إعدادات الهاتف بحيث تكون بيئة آمنة وتجعل الطفل/ة ي/نصل إلى الألعاب أو المحتوى الذي يحدده الوالدين وليس بشكل عشوائي.” في الوقت الذي تؤكد فيه على أهمية توفير البيئة التي تجعل الطفل/ة لا ي/تلجأ إلى الهاتف، بل إلى ملء الوقت بالأنشطة المختلفة واللعب والتنزه.
وفي هذا الصدد يؤكد محمد الصالح الدور المشترك بين الأهل والمعلم/ة، فالمعلم/ة ي/تلعب دوره/ها من خلال التوجيه والإرشاد، بينما الأهل يمكن أن يحددوا/ن لأطفالهم/نّ ساعات محددة لاستخدام الأجهزة، وذلك بحسب أعمارهم/نّ واحتياجهم/نّ لها.
ويختتم بالقول “يمكن وضع قواعد واضحة حول عدد ساعات استخدام الأجهزة الإلكترونية يومياَ، كما يمكن إنشاء جدول يومي يتضمن أوقاتاً مخصصة للدراسة، واللعب، والأنشطة البدنية، والوقت العائلي، مما يساعد على تنظيم يوم الطفل ويقلل من الوقت المخصص للأجهزة.”
توصل الباحثون/ات في دراسةٍ ألمانية إلى أن الأطفال والطفلات ممن استخدموا/ن الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر و”التابلت” (الكمبيوتر اللوحي) بشكل يومي، كانوا/نّ أكثر نشاطاً بشكل مبالغ فيه، بالإضافة إلى إصابتهم/نّ باللامبالاة وعدم الاكتراث بما يحدث حولهم/نّ، كما وجد الباحثون/ات أن الأطفال والطفلات الذين/اللواتي استخدموا/ن تلك الوسائل الحديثة تعرضوا/نّ لصعوبات ومشكلات في التعامل مع أطفال وطفلات آخرين/أخريات، وينصح الباحثون/ات بعدم استخدام الأطفال والطفلات ممن تقل أعمارهم/نّ عن ثلاث سنوات لأجهزة الكمبيوتر اللوحي أو الهواتف الذكية، أما بالنسبة للأطفال والطفلات الأكبر سناً، فلا يجب استخدامها لأكثر من 30 دقيقة في اليوم، بحسب الدراسة.