ما يقارب من خمس سنوات، كانت المدى التي عاشتها هدى مع زوجها بعد قصة حب دامت لسنتين، وزواجٍ أثمر عن ثلاثة أطفال، لكنها لم تعلم أن ظروف الحرب لن تطيل من وجود زوجها إلى جانبها، ولم تعلم أنها على موعدٍ مع شقاءٍ لن ينتهِ بسهولة. اختارت هدى الاكتفاء باسمها الأول فقط، للحديث عن قصتها الحافلة بتفاصيل مؤلمة، وأخرى تبعث الأمل بأن أية تجربة أليمة يمكن لها أن تنتهي لتبدأ بعدها مرحلةً من الاستقرار والأمان.
تنحدر هدى من ريف مدينة دير الزور، واستقرت فيما بعد في بلدة الشدادي الواقعة جنوبي مدينة حسكة، وتعمل في مهنة الخياطة لتعيل أطفالها الثلاث ونفسها، بعد معاناةٍ عايشتها بعد وفاة زوجها، فقد عاشت معه في منزل عائلة الزوج طيلة فترة زواجهما، وأنجبت طفلها وطفلتها أيضاً في منزل العائلة، وكان الزوج يسافر إلى خارج سوريا بين الحين والآخر للعمل، والعودة مجدداً، ثم انتقلا إلى منزلٍ قاما ببناءه سوياً بهدف الحصول على بعض الاستقلالية.
كانت الحرب السورية قد بدأت، وأصبحت المنطقة التي تقطنها هدى مع زوجها، تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومع اشتداد الحصار وتدهور الحالة الاقتصادية والأمنية في العام 2016، قرر زوجها في إحدى الليالي الخروج من المنطقة للبحث عن مكانٍ أكثر أمناً لعائلته، إلا أن لغماً مزروعاً في الطريق الذي سلكه، أودى بحياته، ووصل خبر موته لهدى، دون أن تتمكن من الوصول لجثته.
حين توفي زوج هدى، كانت في الشهر الخامس من حملها بطفلتها الثالثة، ويبلغ طفلها الأكبر أربع سنوات من العمر، وطفلتها في السنة الثالثة من العمر، تقول هدى إنّ حرارة الجو في صيف تلك السنة كان يدفعها إلى النوم فوق سطح المنزل، وما إن تغفو مع أطفالها، حتى تبدأ قذائف الهاون تنهال في كل مكان، لتبدأ مع الأهالي المقيمين في محيطها رحلة الركض للاختباء في أماكن آمنة خوفاً منها على أن يصاب أحد أطفالها بأذى.
أنهت هدى فترة “عدّة” وفاة زوجها، وفي هذه الأثناء كانت قد أنجبت طفلتها الثالثة، وبدأت ضغوطات عائلة الزوج تظهر بتكرار، فقد رغبت العائلة أن تقوم هدى بالزواج من شقيق زوجها، وحين رفضت، قاموا بتهديدها بأن رفضها سيؤدي لحرمانها من أطفالها، وقاموا بالفعل بأخذ أطفالها منها لعدة مرات وحرمانها منهم لأيام عدة ويقومون بإعادتهم إليها بعد تدخل البعض من المحيطين/ات من العائلة.
“شقيق زوجي تزوج من زوجة شقيقه الأكبر بعد وفاته، وعرض علي الزواج قائلاً أنه سهتم بأطفالي ويساعدني في تربيتهم، لكنني رفضت بشدّة،” تقول هدى وتستذكر إحدى المرات التي قام شقيق زوجها الأكبر بأخذ أطفالها عنوةً وهم في حالة بكاء وانهيار تام، وذلك بهدف الضغط عليها للقبول بالزواج من شقيق زوجها.
حين تكرر رفض هدى لطلبهم، بدأت العائلة بالتشكيك في أنها على علاقة مع شخصٍ آخر، وتعرضت لمضايقاتٍ متكررة من العائلة، وبث الشائعات عنها، الأمر الذي دفعها إلى اتّخاذ قرار الابتعاد عن هذه العائلة، والبدء بحياة جديدة مع أطفالها بعيداً عنهم، وفي تلك الفترة كانت الحالة الأمنية في المنطقة في تدهور مستمر، لذا فقد قامت هدى برفقة عائلتها وعوائل أخرى بالتوجه نحو بلدة الشدادي عبر أحد طرق التهريب، وفي ظروف سيئة جداً، في الوقت الذي كانت عائلة زوجها قد لجأت إلى منطقة قريبة هرباً من القصف المتكرر على منطقتهم، وعند الوصول إلى الشدادي غادرت عائلة هدى إلى دمشق، في الوقت الذي لم تملك فيه هدى أية ثبوتيات شخصية لأطفالها، الأمر الذي وقف عائقاً أمام التحاقها بعائلتها.
يومان من العذاب كانا بدايةً لحياةٍ مستقرة ومستقلة
سلكت هدى برفقة مجموعة من الأهالي، أحد طرق التهريب للوصول من ريف دير الزور إلى بلدة الشدادي، واستمرت الرحلة ليومين مشياً على الأقدام، تخللتها نصف ساعة من الاستراحة فقط، وسط ألغامٍ مزروعة في مناطق مختلفة في ذلك الطريق، تصف هدى حالة أطفالها وتقول: “حين وصلنا إلى الشدادي، لم يتمكن أطفالي من الوقوف على أقدامهم لمدة أربعة أيام.”
حين وصلت هدى إلى الشدادي، استقبلتها إحدى العوائل التي تربطها بها صلة قرابة، واستمرت بالمكوث لدى العائلة لما يقرب من أسبوع، إلا أنها بدأت تسعى لتجد مكاناً مستقلاً تعيش فيه مع أطفالها، وقد وجدت منزلاً مؤلفاً من غرفة واحدة ومطبخ، وقامت باستئجاره وسكنت به مع أطفالها، تقول هدى إنها خلال تلك الفترة تعرضت لمضايقات كثيرة، فقد قابلها شقيق زوجها من والده، وعرض أيضاً فكرة الزواج منها مبرراً طلبه بأنه سيقوم بالعناية بأطفالها، وتقديم كافة المستلزمات، لكن طلبه أيضاً قوبل بالرفض.
كانت هدى تملك بعض الخبرات في مهنة الخياطة، واستثمرت هذه الخبرات لتحوّلها لعملٍ تعتاش منه، وقد قامت إحدى قريباتها بإعارتها ماكينة خياطة بدائية لتعمل عليها، ثم استأجرت محلاً صغيراً وبدأت العمل فيه، وكانت تقوم ببيع المحروقات أيضاً إلى جانب الخياطة، وتمكنت من تحسين وضعها الاقتصادي يوماً بعد يوم، كما تمكنت من شراء ماكينة أحدث، واكتسبت الكثيرات من نساء الشدادي اللواتي لجأن لها لحياكة ملابسهن.
لم تتوقف هدى عند تحقيق استقلالها الاقتصادي وتحسين واقعها، فقد سعت لأن تساهم في تحقيق هذا الاستقلال لدى نساء أخريات عايشن تجارب مشابهة لتجربتها، حيث كانت تحصل على بعض الخدمات من جمعية تنشط في تلك المنطقة، وتعرّفت من خلالها على بعض النساء اللواتي عايشن ضغوطات مجتمعية وظروف اقتصادية صعبة، وطرحت عليهن فكرة أن تقوم بتدريبهن على الخياطة حتى يتمكنَّ من العمل أيضاً، وقد تمكنت خلال فترةٍ من الزمن من تدريب ثلاث مجموعات وفي كل مجموعة درّبت ما يقارب عشر نساء على مهنة الخياطة، والكثيرات منهن بتن يعملن في هذه المهنة ويوفّرن مستلزمات حياتهن منها.
تؤكّد هدى أن مجابهة أي ضغط مجتمعي، ومحاولة تحقيق الاستقلال الاقتصادي ليس بالأمر السهل في مجتمعات تحكمها أعراف قائمة على التحكم بمفاصل حياة النساء، لذا فإن الإرادة والإصرار، وبذل كل الجهود الممكنة سبيلٌ لتحقيق الهدف المذكور.
“إن الظواهر من قبيل إجبار النساء على الزواج من أشقاء أزواجهن بعد وفاتهم، أو “زواج الحيار” (أي إجبار الفتاة على الزواج من أحد أبناء عمومتها إن طلب ذلك) وغيرها من الظواهر، لا زالت موجودة بكثرة، وتشكّل ضغوطاً كبيرة على النساء.” تقول لمى محمد الناشطة النسوية المقيمة في مدينة الرقة، وتشير إلى أنّ تأثيرات هذه الظواهر المجتمعية تؤدّي لحرمان النساء من الكثير من حقوقهن أهمها التعليم والعمل.
وتوضح لمى أن الكثيرات من النساء لا زلن يعانين من انعدام الحرية في اتخاذ القرارات الشخصية، وهناك تفاوت في درجة الضغوطات بين المدن والأرياف، ويمكن اعتبار النساء ممن حققن الاستقلال في مختلف الأصعدة في مجتمع تحكمه هذه الأعراف يمكن اعتبارها ناجية، لذا من الضروري أن تقوم منظمات المجتمع المدني، وخاصة المنظمات النسوية برفع الوعي المجتمعي، مع ضرورة بذل الجهود للوصول إلى الأرياف، واستهداف مختلف الشرائح المجتمعية وليس رفع الوعي لدى جنس بعينه، نظراً لأن تأثيرات هذه الظواهر تصل للمجتمع ككل.
ليس رفع الوعي هو الحل الوحيد بحسب رأي لمى، إنما يستوجب العمل على مشاريع سبل العيش، لتمكين النساء في مهن مختلفة مع أهمية مراعاة السياق المحلي للمناطق المستهدفة واحتياجاتها، بهدف تحقيق أولى الخطوات نحو استقلال النساء اقتصادياً، وزيادة مساهمتهن في تأمين معيشة عوائلهن.
ولا يجب إغفال أهمية الدعم النفسي ودراسة آليات تقديمه للنساء ممن عايشن ضغوطات مجتمعية، للتخلص من أثر هذه الضغوطات وتأمين الجهوزية للانتقال إلى مرحلة الاستقلال الاقتصادي، وتحقيق الفاعلية والأثر المستدام في المجتمعات التي يعشن بها، بحسب ما توضحه لمى.