هيفاء (ثلاثينية تنحدر من مدينة الدرباسية) اختارت اسماً مستعاراً للحديث عن تجربتها الأولى في غرفة العمليات لولادة طفلها، وتصف التجربة بـ “المؤلمة” حين استفاقت من حالة فقدان الوعي، نتيجة الألم بسبب الصفعات التي تلقّتها من الممرضة، وبدأت تفقد وعيها من شدة المعاناة، والغريب أن الممرضة صفعتها وصرخت في وجهها لإيقاظها، وحين حاولت التعبير عن ألمها، صرخت في وجهها قائلةً: “وطّي صوتك، شو ما حدا ولد غيرك!”
“في ولادتي الثانية، تركتني الطبيبة أعاني وحدي، فقد غادرتْ الغرفة لتجيب على مكالمةٍ هاتفية، بينما كانت الممرضات يتبادلن الأحاديث، في الوقت الذي كنت أقاوم آلام المخاض لوحدي فترةً طويلة.” تقول هيفاء.
لم تكن هيفاء الوحيدة التي تعرّضت لمواقف أليمة في غرفة العمليات أثناء الولادة. سوسن (اسم مستعار لسيدة ثلاثينية من الدرباسية) عايشت ردة فعل سلبية من الحمل والولادة نتيجة ما عانته أثناء ولادتها بابنها الوحيد، تقول: “تلقّيتُ معاملةً سيئة جداً من الطاقم الطبي.. تعاملوا معي وكأنني أملك القدرة على التحكم بجسدي، رغم أنني كنت في حالةٍ من الضعف الشديد.” مشيرةً إلى أنها تعرّضت لضغطٍ متكرر على بطنها وضربٍ على ساقيها، بالإضافة إلى الصراخ المستمر من قِبَل الطبيبة والممرضات.
يعرّف العنف أثناء الولادة على أنه التعرض في أثناء الحمل أو المخاض والولادة أو بعدها إلى سوء المعاملة أو الإجبار على الخضوع لإجراءات على غير إرادة المرأة بأيدي الكوادر الطبية، وهي مشكلة عالمية فيها انتهاك لحقوق المرأة، ومن الممكن أن تُعرّض حياتها، وصحتها (النفسية أو الجسدية) للخطر.
البعض يعتبر معاناة الولادة ضرورة!!
عايشت سعاد (اسم مستعار لسيدة أربعينية من سري كانيه/رأس العين) تجربة تصفها بـ “المرعبة” أثناء ولادتها بطفلتها قبل أربع سنوات، وعلى الرغم من أنها أنجبت ستة أطفال، إلا أن الولادة الأخيرة كانت الأقسى، فقد سمعت الطبيبة حين أخبرت مُساعِدتها أنه عليها الانتهاء من ولادتها بسرعة، لأنها ستجري عمليةً أخرى في اليوم ذاته، لذا فقد قررت الطبيبة إجراء شقّ في المهبل دون موافقةٍ مستنيرة من سعاد، وقد قامت بهذا الإجراء دون تخدير، الأمر الذي عرّضها لألمٍ شديد، ولم يتوقف الأمر هنا فحسب، فقد قامت الطبيبة بخياطة الشق دون تخدير أيضاً.
ولا تقتصر المعاناة على الولادة الطبيعية فقط، بل تتعرض النساء أحياناً للإهمال في ولادات أخرى وتعد تجربة خديجة (اسم مستعار لسيدة أربعينية من الدرباسية) مثال على ذلك، فخلال ولادة طفلها الثاني، تُركَت في غرفة الولادة لفترات طويلة دون أي دعم، وتقول: “كنت أشعر بالعجز، وكانت الممرضة تتركني كل فترة لتعود بعد مدة، وأنا أصرخ من الألم، في النهاية، خضعتُ لولادة قيصرية، لكنني كنت وحيدة طوال تلك الساعات.”
الولادة تجربة مليئة بالخوف والقلق، ومن واجب الأطباء والطبيبات تقديم الدعم النفسي والمعنوي للنساء أثناء الولادة، لكن هناك بعض الحالات التي يضطر فيها الطاقم الطبي إلى أن يكون أكثر حزماً حين يتعلّق الأمر بسلامة الأم والجنين، بحسب ما توضّحه نسرين شمس الدين بك الاختصاصية في أمراض النساء، وتعيد الاضطرار للحزم إلى الحالات التي تكون فيها المرأة فاقدةً القدرة على الدفع بسبب التعب والألم.
تشير نسرين إلى أن الإجراءات التي يتخذها الأطباء والطبيبات أحياناً، من قبيل الضغط على البطن أو شق الفرج الوقائي، قد يُنظر إليها على أنها عنف، لكنها في الواقع خطوات ضرورية للحفاظ على سلامة الأم وتسهيل الولادة.
من جانبها، تقول الممرضة نالين برو إن الصراخ أو استخدام القوة أحياناً قد يكون ضرورياً في بعض الحالات، خاصة عند التعامل مع القاصرات أو الحالات الصعبة.
تروي نالين حادثةً عايشتها “في إحدى الولادات، كانت الفتاة قاصر وخائفة جداً، وحاولت مغادرة الغرفة وهي شبه عارية فاضطررنا لإمساكها وإدخالها بالقوة، حتى إن إحدى الممرضات صرخت عليها لضبط الأمور.”
لم تتردد نالين في ذكر أبرز الممارسات التي اضطرت لاتباعها مع بعض المريضات معتبرة هذه الممارسات طبيعية، وتقول: “نضطر إلى رفع أصواتنا عليهنّ، والضغط على البطن، والتخويف، وقد نضطر إلى تركهنّ لفترة بسبب وجود عدة ولادات في نفس الوقت.”
من جهتها، تقول ملكة حصاف القابلة القانونية من مدينة عامودا، إنّ النساء أثناء عملية الولادة، يكنّ بأمسّ الحاجة الى العطف والمسايرة، ولا تجد أن الصراخ والاستهزاء والاستهتار إجراءات مبررة، وتشير في سياق الحديث إلى تزايد العمليات القيصرية في المنطقة، منوّهةً إلى أن الكثير منها يتم دون ضرورةٍ طبية، مما تعتبره نوعاً من العنف الممارس ضد النساءـ
“أصبحت العمليات القيصرية شائعة بشكل مقلق، وهناك الكثير من الحالات التي يمكن أن تتم الولادة فيها بشكل طبيعي، لكن يتم اللجوء إلى الجراحة لأسباب غير مبررة.” تقول ملكة وتضيف أنه إن لم تكن العملية القيصرية ضرورية من الناحية الطبية، فإنها تشكل خطراً على صحة الأم، ويمكن اعتبارها نوعاً من أنواع العنف الطبي.
وبناءً على تجربتها في العمل في “وقف المرأة الحرة” تؤكد ملكة على أهمية توعية النساء بمخاطر هذه العمليات، وتوضح أن الوعي المجتمعي حول هذا الموضوع لا يزال محدوداً، وتشير إلى أنها تحاول من خلال المحاضرات التوعوية أن تلفت انتباه النساء إلى المخاطر الصحية المرتبطة بالعمليات القيصرية، غير الضرورية، وتسعى لدعم المرأة وتمكينها في اتخاذ القرارات المتعلقة بصحتها.
ومع ذلك، تشير ملكة إلى أن موضوع العنف أثناء الولادة، سواءً أكان جسدياً أو لفظياً، فإنه لا يُناقش بشكل صريح في تلك الجلسات، وتقول: “لم نتلقَّ أية شكاوى أو مناقشات تتعلق بالعنف أثناء الولادة، ربما لأن النساء لا يشعرن بأن هذه التجارب تستحق الإبلاغ عنها، أو ربما لأنهن يرين أن ما يحدث هو جزء من الإجراءات الطبية المعتادة.”
لا دعاوى ولا قوانين متعلقة بالعنف أثناء الولادة
لم يتم تسجيل أية دعاوى قضائية حتى الآن لدى محاكم الإدارة الذاتية المتعلّقة بالعنف التوليدي، كما أنه لا توجد أية إجراءات معينة أو محددة بهذا الخصوص، بحسب ما توضّحه الحقوقية زوزان دهدو، مؤكّدةً أنه لا يوجد قانون خاص بالعنف أثناء الولادة، ولكن يمكن الرجوع إلى قانون العقوبات في مثل هذه الحالات فيما يخص التسبب بالأذى الناتج عن الخطأ الطبي وتطبيق القانون بحسب درجة الأذى والضرر.
“من المؤسف أنه لا توجد أيّة مبادرة أو مراجع قانونية تهدف إلى توعية النساء بحقوقهن أثناء الولادة رغم وجود نسبة كبيرة منهن قد واجهن أنواعاً من العنف خلال ولاداتهن، وغالباً لا تعرف ولا تعي النساء بحقوقهن في الادّعاء وكيفيته.” تقول زوزان.
أما في القوانين الحكومية السورية، يوضّح الحقوقي مسعود خلف أن العنف أثناء الولادة غير مذكور البتّة في القانون المدني السوري، ولكن، وتحديداً في قانون العقوبات السوري في المرسوم رقم 49، ذُكر في إحدى البنود مسؤولية الطبيب/ة، على أنها مسؤولية عقدية بينه/ها وبين المريض/ة، وهي مسؤولية شفهية لا تشترط أن تُكتب، ويكون فيها الطبيب/ة ملزماً/ة بالعناية بالمريض/ة، وأي تقصير منه/ها تحوّله/ها للعقوبة المسلكية، ويُ/تُحاكم من خلال “نقابة الأطباء”.
وينوّه مسعود أنه ذُكر في إحدى المواد القانونية والمأخوذة من القانون الفرنسي، أنه في حال وجب الاختيار بين الجنين والأم، فإنه يجب التضحية بالجنين للحفاظ على صحة وحياة الأم، ويستذكر إحدى القصص ضمن ملفات القضاة، حين قام طبيب بتصوير عملية الولادة، وبعد التحقيق، سُجّلت القضية أن التصوير كان لأسباب علمية، وأُعفي الطبيب على أثرها.
“أوصي بشدّة، أن تتجرّأ النساء المتعرّضات للعنف أثناء الولادة، للادّعاء على المعنّفين/ات، وذلك من شأنه أن يشكّل ورقة ضغط لإثبات وجود هذه الظاهرة، وأن تدفع للعمل على إيجاد وإقرار قانون خاص لهذا النوع من العنف.” يقول مسعود.
في سياق متصل تقول هيفاء التي شاركت نيكستوري تجربتها إنّها لم تفكر البتّة بالتقدّم بشكوى لإدارة المستشفى أو لجهةٍ قانونية نظراً لتوقّعها بأن الرد سيكون في إطار ضرورة هذه الإجراءات، وسيتم تجاهل شكواها، إلى جانب ضعف معرفتها بالإجراءات القانونية والجهات التي يتم تقديم الشكاوى لها.
“يُعَد تقديم الشكوى أو رفع الدعوى حول هذا الموضوع أمراً غير مقبولاً بالنسبة لعائلتي، إذ يرون الحديث عن هذه القضايا أمراً غير لائق.” تقول سعاد من جهتها وتتابع: “اكتفيت بالتعبير عن عدم رضاي عن تلك الإجراءات مع الطبيبة، وحذرتُها بشكل غير مباشر، وكأنه تهديد، أنني سأقوم بتقديم شكوى، ثم أغلقت الموضوع هنا.”
وفي السياق، توضّح حنان رمضان الناشطة الإعلامية، التي تعمل على معالجة قضايا النساء إعلامياً، وتحتم بهنّ بشكل مباشر، إن معظم النساء اللواتي يواجهن هذا النوع من العنف، يشعرن بالخوف من المجتمع، وما يمكن أن يلحق بهن من وصمٍ اجتماعي إن تحدثن عن أمورٍ يصفها المجتمع بـ “الخاصة”، وتشير إلى أن الأمر لا يقتصر على النساء اللواتي يتعرضن للعنف فقط، بل إن محيطهن يلعب دورًا كبيرًا في ذلك، مما يضيف عبئاً إضافياً عليهن، حيث يُتهمن بالمبالغة في مشاعرهن وتجاربهن.
“كان لدي الإصرار على أن ألد ابنتي ولادة طبيعية، إلا أنني تعرّضت لضغطٍ نفسي كبير بأنه يجب أن أخضع لعمليةٍ قيصرية، ووصلت الضغوطات لتهديد بأن إصراري قد يكلّفني حياة ابنتي.” تقول الناشطة المدنية شيرين ابراهيم التي عايشت عنفاً لفظياً وقلة اهتمام أثناء ولادتها لابنتها، وعايشت ضعفاً وهشاشة في الإجراءات ما بعد الولادة المتعلقة بالعناية بالمولود، والإهمال الكبير للحالة النفسية للأم.
تنوّه شيرين أن معالجة هذه الظاهرة، تبدأ من حملات التوعية وحملات المناصرة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب ضرورة تجميع وتوثيق أشكال العنف التي تتعرض لها النساء أثناء الولادة، وتعزيز المعرفة لدى النساء فيما يخص هذا النوع من العنف، إلى جانب تعزيز المعرفة ذاتها لدى الطواقم الطبية نفسها، وقانونياً، من المهم العمل على كسب التأييد لإيجاد لوائح في القوانين المعمول بها في المنطقة، يمكن من خلالها معاقبة المعنِّفين/ات.
خلال إعداد التقرير، حاولت معدّة التقرير التواصل مع عدة جهات رسمية معنية بالقطاع الصحي، للحصول على بعض البيانات والإجراءات المتعلقة بالقضية المطروحة، إلا أنها لم تتلقَّ أيّة استجابة من تلك الجهات، في الوقت الذي أشارت فيه بعض المنظمات المحلية المعنية بالعمل على قضايا العنف ضد النساء أن هذا النوع من العنف غير مُدرج في أجنداتها، ولم يسبق لها أن تعاملت مع حالاتٍ مثيلة.
يمكن القول أنه هناك حاجة حقيقية لحملات مناصرة لتسليط الضوء على تكرار حالات العنف ضد النساء أثناء الولادة، ويستدعي تحرّكاً وتضافراً للجهود من كافة الشرائح المجتمعية، للضغط نحو إيجاد تشريعات وقوانين تحاسب مرتكبي/ات هذا النوع من العنف، وأن تكون هذه الحملات متعددة الأوجه، تشمل التوعية والتثقيف، والدعوة إلى تغيير السياسات والممارسات التي تسمح بارتكاب هذا العنف.