الرعب يترك أثره .. السكري يفتك بأطفال الرقة بعد الحرب

في ساحة مبنى كان، قبل سنواتٍ مضت، سجناً يديره تنظيم “الدولة الإسلامية” وسط مدينة الرقة، مجموعةٌ من الأطفال والطفلات، يرقصون/ن ويتبادلون/ن الابتسامات فيما بينهم/نّ. يتعبون/ن من الرقص، ويركضون/ن لأحضان الأم أو الأب ممن رافقوهم/نّ إلى فعالية ترفيهية في اليوم العالمي لمرضى السكري المصادف 14 تشرين الثاني/نوفمبر.

 

في الساحة الواسعة، يقف رامي شواخ البالغ من العمر 15 سنة، دون أن يختلط بأحد أو يشارك في أنشطة الفعالية، وتبدو تعابير الحزن واضحةً على وجهه، ليجيب (بلهجته المحلية) عن سبب تواجده هناك: “آني مريض.”

قبل ما يقارب سبع سنوات، وحين شهدت مدينة الرقة بدء معركة القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”، حدث انفجار قوي بالقرب من المنزل الذي يقطنه رامي وعائلته، وشعر، على إثر صوت الانفجار، بخوف ورعب شديدَين، ما أدّى إلى إصابته بداء السكري.

 

لاحظت عائلة رامي فقدانه المستمر للوزن، وتكرار حالة “التبول اللا إرادي”، التي لا زالت ملازمة له حتى الآن، لذا، وبعد مرور شهرين على حالته تلك، لجأت العائلة لطبيبٍ مختص وعلِمت حينها إصابته بداء السكّري، ليبدأ رحلة علاجٍ مليئة بالتحديات، انتهت بإيقافه عن التعليم.

 

محمد خير شواخ (والد رامي) يعمل في “المياومة” في فرن وسط المدينة، يقول إنّ ابنه عاش معاناةً كبيرة في المدرسة، وكان، بسبب وضعه الصحي، يحتاج للخروج للتبول عدة مرات خلال اليوم وفي فترات متقاربة، إلا أنّ المدرّسة كانت تمنعه من الخروج لأكثر من مرة، ويتعرّض للتنمر من قبل الطلاب والطالبات إذا ما تبوّل على نفسه، ويشير إلى أنه زار المدرسة مرات عدة ليُطلع الطاقم التدريسي على حالته الصحية، إلا أنّ الطاقم كان يتغير بين الفترة والأخرى، ويعود رامي للمعاناة نفسها، لذا فقد قرر إيقافه عن التعليم، واصطحابه للعمل، ليسهل عليه مراقبته إن تدهورت حالته الصحية بشكلٍ مفاجئ.

 

“رامي طفل صغير، ويريد أن يأكل الأطعمة المختلفة، إلا أن نسبةً كبيرة منها مضرّة بصحته، وحين نمنعه عنها، يقوم بتناولها بالسر، ونعلم بالأمر حين نقوم بإسعافه عند ارتفاع السكر لديه.” يقول محمد خير.

 

آلاف الأطفال والطفلات في الرقة مصابون/ات بالسكري والجزء الأكبر بسبب الحرب

 

في ساحة المبنى ذاته، تتقدم جلاء الحمزاوي من أهالي مدينة الرقة، إلى الأطفال والطفلات المشاركين/ات في الفعالية، وتغنّي معهم/نّ، ثم تقدّم لهم/نّ قطعاً من البسكويت لتعويض التعب في الفعالية ولئلا تؤثر الحركة عليهم/نّ.

 

تعمل جلاء رئيسة مجلس إدارة “جمعية ماري للثقافة والفنون والبيئة”، وتدير “نادي أطفال مرضى السكري”، وهو أحد مشاريع الجمعية، الذي تأسس في العام 2007 بالتعاون مع عدد من أطباء وطبيبات المدينة، واستمر في العمل للعام 2012، وتوقف العمل في النادي نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، والمعارك التي شهدتها مدينة الرقة، تقول جلاء إنّ مبنى النادي تحوّل لسجن ومقر عسكري يديره تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتعرّض لتدميرٍ كبير جرّاء الحرب في المدينة، إلا أنهم/نّ قاموا/ن بترميمه ليعود للعمل في العام 2023.

 

الصورة من نشاط ترفيهي أقامه “نادي مرضى السكري” في مدينة الرقة، للأطفال والطفلات المصابين/ات بداء السكري

 

يقدّم النادي بعض الخدمات للأطفال والطفلات المصابين/ات بداء السكري، وتتضمن هذه الخدمات الدعم النفسي، والترفيه، وتنمية المهارات، والفنون، كما تتوفر عيادة تقدّم خدمات المعاينة وتحليل ومعايرة السكّري، وبالتعاون مع بعض الجهات المعنية، يتوفر لدى النادي جرعات الأنسولين، بحسب ما توضحه جلاء، والتي تشير إلى أنّهم/نّ يقومون/ن بتعويض الفاقد التعليمي أيضاً للأطفال والطفلات ممن يمنع المرض التحاقهم/نّ بالمدارس.

 

“تمكننا من توثيق إصابة 3026 طفل/ة مصابين/ات بداء السكّري في مدينة الرقة وريفها، 266 طفل/ة مصابين/ات نتيجة عوامل وراثية، و270 طفل/ة نتيجة الخوف من الهزات الأرضية التي شهدتها المنطقة مؤخراً، و2490 طفل/ة أصيبوا/ن نتيجة الرعب من المعارك التي شهدتها المدينة خلال السنوات الماضية.” تقول جلاء.

 

إلى جانب جلاء، يقف محمد الأحمد الشاب العشريني من مدينة الرقة، ويتفقّد الأطفال والطفلات للتأكّد من أن جميعهم/نّ بخير. كان محمد قد تطوّع للعمل في النادي منذ إعادة ترميمه، ويعمل في قسم الدعم النفسي، يقول إن الدافع الرئيسي لعمله هو أنه مصاب بالسكري مذ كان يبلغ من العمر أربع سنوات، لذا فإنه، وانطلاقاً من المعاناة التي عايشها طيلة حياته، فإنه يرغب في تقديم كل ما يملكه من جهد لتخفيف أثر المرض على هؤلاء الأطفال والطفلات.

 

يمضي محمد أربع ساعات يومياً في النادي، ويشعر بالتعلّق الشديد بجميع الأطفال والطفلات الذين/اللواتي يترددون/ن إلى النادي، ويقوم برفع الوعي لديهم/نّ، فيما يتعلق بالعلاج من داء السكّري، مشيراً إلى أنّ المنطقة تفتقر لثقافة التعامل مع الأمراض المزمنة، لذا من المهم العمل على تقديم التوعية بالمرض لئلا يفاقم التعامل الخاطئ من حالة الطفل/ة المريض/ة.

 

في زاويةٍ أخرى من المبنى، تجلس والدة براءة التي رفضت الكشف عن اسمها، إلى جانب ابنتها البالغة من العمر 12 عاماً من مدينة الرقة، وتقرّبها من حضنها بين الحين والآخر، وتطلب منها المشاركة في الرقص مع الأطفال والطفلات، إلا أنّ براءة فضّلت الجلوس بجانب والدتها إلى حين انتهاء الفعالية.

 

كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً حين قصفت طائرة حربية بالقرب من منزل عائلة براءة، وفي الوقت الذي كانت فيه براءة وشقيقتها نائمتان، وقد استيقظتا وسط نوبةٍ من الهلع والخوف، أدّت لإصابتهما بالسكّري، إلا أن شقيقتها فارقت الحياة على إثر المرض، وبقيت براءة وحيدةً تخضع للعلاج الذي يصل تكلفته إلى 400 ألف ليرة سوريا شهرياً (26 دولار أمريكي)، إن لم تحتج للدخول إلى المستشفى، وإن احتاجت لذلك، فإن تكلفة العلاج تصل إلى ستة مليون ليرة سورية (400 دولار أمريكي).

 

“بعد إصابة طفلتي بالسكري، باتت تتأثر صحياً بالخوف والحزن، وحتى بالفرح الشديد، لقد باتت محرومة من الإحساس بمختلف المشاعر خوفاً من تدهور حالتها الصحية.” تقول والدة براءة.

 

أطفال وطفلات السكري بالرقة في مواجهة صعوبات جمّة

 

خليل طفل من مدينة الرقة، يبلغ من العمر 11 سنة، وحيد لوالدَيه، كان يلعب في الحي المجاور لمنزله قبل سنتين، حين قام أطفال الحي بإخافته أثناء اللعب، تلك الإخافة التي سبّبت له الإصابة بداء السكّري، لتبدأ معها معاناة العلاج، مع حالةٍ نفسية سيئة.

 

“بدأ طفلي يفقد وزنه باستمرار، لذا قمنا بزيارة الطبيب المختص ليتبين أنه مصاب بداء السكّري.” يقول ابراهيم العجيل والد خليل، ويضيف أن السنة الأولى من إصابة ابنه كانت صعبة للغاية، فقد كان يرفض الدواء، ويبدأ بالتساؤل عن سبب تناوله للدواء في الوقت الذي يلعب فيه أولاد الحي دون إصابتهم بأي مرض.

 

يعمل ابراهيم في مكتب للمحاسبة، ويدفع شهرياً ما يقارب 150 ألف ليرة سورية (10 دولار أمريكي) تكلفة الدواء اليومي لابنه، ويشير إلى أن هذه التكلفة تعود للحالات المستقرة، أما في الحالات الأخرى التي تكون فيها جرعة الدواء أكبر، فإن التكلفة تكون أكثر، ولا تناسب الوضع الاقتصادي لغالبية ذوي/ات مرضى السكّري من الأطفال والطفلات، وكل ذلك في ظل صعوبة توفير هذه الأدوية، بحسب رأيه.

 

صعوبة تحمّل تكلفة علاج أطفال وطفلات السكري، أمر تتفق معه والدة أحمد، المنحدرة من الرقة، حيث يعاني طفلها البالغ من العمر ثماني سنوات، من داء السكّري مذ كان عمره سنتان، وكانت العائلة تقيم حينها في لبنان، هرباً من الحرب التي شهدتها مدينة الرقة.

 

تقول والدة أحمد إن طفلها عانى من ارتفاع حرارة جسده، ونقصان الوزن، ورغم زيارة الطبيب بشكل متكرر، لم يطلب يوماً أية إجراءات توضّح السبب، واكتفى ببعض الأدوية التي لم تساهم في تحسّنه، إلا مؤقتاً، إلى أن عادت العائلة إلى الرقة بعد القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” لتكتشف إصابة أحمد بالسكري، الداء الذي أدخله في حالةٍ نفسية سيئة، تدفعه لكسر أغراض المنزل، والعَداء تجاه إخوته، وخاصةً حين يطلب تناول الأغذية المضرّة لحالته.

 

فيما يتعلق بالتحديات التي تواجه الأطفال والطفلات المصابين/ات بالسكري في الرقة، تقول جلاء الحمزاوي إنّ “نادي مرضى السكري” وفي ظل الإمكانيات المحدودة، يقدّم الدعم النفسي لهم/نّ، كما ينسق مع بعض المنظمات الدولية لتأمين جرعات الدواء، إلا أنّ الحاجة تفوق ذلك، حيث يفتقر النادي إلى الكثير من الأساسيات لتقديم الخدمات، وإلى جانب ذلك، فإنّ تأثير المرض يجعل الكثير من الأطفال والطفلات يتغيبون/ن عن المدارس، ما يسبب فصلهم/نّ منها، لذا فإن النادي بصدد توقيع وثيقة مع هيئة التربية لمراعاة الحالة الخاصة لهؤلاء، وإيجاد نظام خاص لتعويض الفاقد التعليمي.

 

ختاماً يمكن القول إنّ هناك معاناة حقيقية يعيشها الأطفال والطفلات في مدينة الرقة، معاناةٌ تتخللها تحديات جسيمة بسبب داء السكّري، وهناك حاجة ماسّة لتدخلات فورية لتوفير الأدوية، وتحسين الخدمات الصحية، ولا يمكن تحقيق ذلك دون تضافر الجهود من الجهات الدولية مع المنظمات الإنسانية والجهات المعنية من الإدارة الذاتية، وذلك لضمان حصول هؤلاء الأطفال والطفلات على الرعاية اللازمة، والدعم النفسي لتجاوز آثار الحرب، ويمكن القول إنّ مستقبل جيل بأكمله يعتمد على الاستجابة العاجلة لهذه الأزمة الصحية.