نحو انتقالٍ سياسي شامل .. سوريا على مفترق طرق

نيكستوري – جيلان رمضان 

 

بين تضاريس الحاضر وتاريخٍ غني بتنوعه، تقف سوريا اليوم أمام لحظة استثنائية قد تشكل ملامح مستقبلها، وفي ظل غياب الوضوح حول طبيعة النظام السياسي القادم، تتصاعد المخاوف من انقسامات قد تهدد النسيج المجتمعي والتماسك الوطني، ومع ذلك، تُتاح فرصة سانحة لصياغة رؤية شاملة تعكس تطلعات جميع السوريين والسوريات وتضمن الاستقرار على المدى البعيد.

 

تأتي هذه الفرصة في وقت حرج، حيث تعيش سوريا مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات التي تتطلب حلولاً جذرية. من هنا، جاءت تصريحات الإدارة الجديدة لوسائل إعلامية في وقتٍ سابق، حول عزمها عقد مؤتمر حوار وطني، وهي خطوة تسهم في رسم معالم المرحلة الانتقالية ووضع أسس لنظام حكم جديد، ولكن، ورغم هذه النية، ما زال غموض التفاصيل حول الإطار الزمني لصياغة الدستور وآليات التوافق يؤثر على المضي قدماً في هذه العملية.

 

ومع استمرار هذا الغموض، يطفو على السطح الحديث حول مشاركة تمثيل الأطياف والمجتمعات السورية في هذه الجهود، حيث لا إمكانية لنجاح العملية الانتقالية دون ضمان تمثيل شامل يعكس التنوع السوري ويضمن الحفاظ على التماسك المجتمعي. 

 

وفي هذا السياق، يجد سوريون وسوريات أن هذه اللحظة ليست فقط تحدياً سياسياً، بل هي أيضاً فرصة لإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف، ورسم خارطة طريق تشكل الأسس التي تُرسخ قواعد الاستقرار والانسجام.

 

فرص وتحديات إعادة بناء المجتمع السوري

 

 وفي ظل التحولات التي تمر بها سوريا في المرحلة الانتقالية، تتلاقى العديد من الرؤى حول سبل الحفاظ على الاستقرار وبناء مستقبل مشترك. 

ويأتي تهديد الأمن والسلم الأهلي، على رأس هذه التحديات، حيث يرى الباحث السوري زيدون الزعبي أن انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة يُشكل خطرًا حقيقيًا على الاستقرار، ويضيف أن تزايد العنف الجنائي نتيجةً لهذا التوسع في حيازة الأسلحة يعكس تدهورًا ملموسًا في مستوى الخدمات الأساسية، مشددًا على ضرورة تعزيز دور الأجهزة الأمنية وتفعيل الشرطة المدنية لضمان الأمن وتعزيز السلم الأهلي.

 

وفي سياق متصل، تؤكد الحقوقية رهادة عبدوش أن استمرار حالة الثأر والانتقام، خاصة في الأماكن العامة وأمام الأطفال والطفلات، يزيد من تعقيد الوضع الاجتماعي، وتُحذر من أن هذه التصرفات لا تخلق فقط ضغائن جديدة، بل قد تؤدي إلى تفكك النسيج المجتمعي، بناءً عليه، تدعو رهادة إلى الاعتماد على القضاء كمسار قانوني واضح للمحاسبة، وذلك للحفاظ على تماسك المجتمع وضمان العدالة للضحايا.

 

ولا يمكن التغاضي أيضاُ عن الأثر الكبير الذي تتركه الانقسامات الطائفية والمجتمعية على استقرار البلاد، فالحوار الشامل والتفاهم بين كافة الأطراف يعدان الأساس الذي يمكن أن يبني عليه مستقبل سوريا، “يجب أن يكون الحوار الوطني شاملًا وواقعيًا، بعيدًا عن الانقسامات الضيقة، وأن يُكمل المصالحة المجتمعية عبر آلية قانونية تضمن العدالة وتوقف دوامة الثأر الفردي الذي يهدد بتقويض الوحدة الوطنية.” يقول الناشط المدني بسام الأحمد.

 

 أما في الجانب الاقتصادي، فلا تبدو المخاوف أقل أهمية، حيث يعاني السوريون من أزمة اقتصادية خانقة تتفاقم بسبب سنوات من النزاع وتدمير البنية التحتية. 

 

وفي هذا الصدد، تقول الصحفية والناشطة نوار عزام: “إنّ الاقتصاد يُعد التحدي الأكبر أمام السوريين، وتحقيق حياة كريمة واكتفاء ذاتي هو ما يشغل بال الغالبية،” وتتابع: “إنّ إقامة شراكات دولية وتشجيع الاستثمار الأجنبي ضروري لتحفيز الاقتصاد المحلي، في وقت يُعتبر فيه تعزيز القضاء على رأس أولويات بناء بيئة آمنة تدعم الاستقرار الاقتصادي.”

 

الطريق نحو الاستقرار، يحتاج لمشاركة جميع السوريين/ات دون إقصاء

 

إلى جانب التحديات الأمنية والاقتصادية، تبرز أهمية دمج المكونات السورية بمختلف تنوعاتها الاجتماعية والثقافية في عملية الانتقال السياسي، وفي هذا السياق، يؤكد بعض الناشطين/ات والباحثين/ات على ضرورة إشراك جميع الأطراف والمجتمعات السورية في صياغة ملامح المرحلة القادمة، ليتسنى تجنب أية محاولات لإقصاء أية فئة قد تؤدي إلى تصاعد الانقسامات.

 

وتشدد رهادة عبدوش، على أهمية إشراك المجتمعات المحلية والمناطق المتضررة بشكل فعّال في عملية صنع القرار، مشيرة إلى أن غياب هذه المجموعات الواعية قد يعزز من العسكرة ويفتح الطريق للفوضى. بينما يرى بسام الأحمد أن مشاركة جميع الأطراف السورية في هذه المرحلة ضرورية ليس فقط من أجل استقرار سياسي، بل أيضًا لضمان عملية محاسبة شفافة تعكس شمولية الجميع.

 

ومع انشغال كل من هذه المجتمعات بمستقبلها، تترقب كل منها كيفية تضمينها في هذه العملية، وفي إطار تحقيق الاستقرار في مرحلة انتقالية تتطلب من الجميع تحمل المسؤولية المشتركة لضمان نجاحها يقول زيدون الزعبي: “من الضرورة وجود كافة المكونات في عملية الانتقال، لأن غياب أي فئة قد يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها.”

 

في حين يرى بسام الأحمد أن عملية المحاسبة وتحقيق العدالة في هذه المرحلة يجب أن تكون شفافة وشاملة لجميع الأطراف دون غياب أو إقصاء لأية فئة لتجنب حدوث اضطرابات مستمرة داخل المجتمع السوري.

 

وتتبدى أهمية إشراك فئات أخرى في هذه العملية، أبرزها الفئة الشابة، وبغض النظر عن اختلاف الثقافات وتعددها، فإن الفئة الشابة تحمل في طياتها طاقات وإمكانات كبيرة، تعد الآن جزءًا أساسيًا في رسم معالم المرحلة الانتقالية، وهو ما تؤكد عليه نوار عزام بقولها: “الفئة الشابة التي عانت بشكل كبير من سنوات الحرب، هي الأقدر على إعادة البناء، ولذلك يجب استثمار طاقاتهم وتعليمهم لتحقيق الاستقرار” وتضيف في إشارة منها لإمكانيات المرأة وأهمية إشراكها في تقرير مستقبل البلاد “تمكين المرأة وإعطائها دورًا مؤثرًا في السياسة والمجتمع يعد خطوة أساسية نحو تحقيق التغيير المنشود،” أما في سياق البحث عن حلول في المرحلة الانتقالية تنوه نوار إلى أنّ رجال الدين يمكن أن يكونوا جزءًا من الحل، حيث يمكنهم أن يلعبوا دورًا في تعزيز السلام في ظل غياب بعض مؤسسات العدالة في المرحلة الحالية.

 

الإعلام أداة فاعلة في توجيه المجتمع السوري

 

 بينما يتشابك الماضي بالحاضر، ويبدو المستقبل غامضًا، لا يمكن تجاهل دور الإعلام كأداة مؤثرة قد تسهم في تعزيز أو تقويض عملية الانتقال، فبجانب كل ما تم الحديث عنه من تحديات وآلية التغلب عليها، يعتبر الإعلام من العوامل الحاسمة التي يمكن أن تساهم في بناء الثقة أو تعميق الانقسامات. 

 

ومن وجهة نظر الباحث السوري زيدون الزعبي فإن الإعلام في المرحلة الانتقالية يجب أن يكون حياديًا، بعيدًا عن التحريف أو استغلاله لتحقيق أهداف فئوية، معتبراً أن الإعلام الذي يروج للخطاب التحريضي يمكن أن يشعل فتيل الصراع بدلًا من البناء على أسس من الحوار والتفاهم، ويشير زيدون إلى أنه في الآونة الأخيرة، برز التصاعد في بعض الخطابات الإعلامية التي ساعدت في تأجيج التوترات بين مختلف الفئات المجتمعية، وبعض وسائل الإعلام، بتغطيتها المنحازة، ساهمت في تغذية مشاعر العداء، مما أضاف تحديات جديدة أمام التوصل إلى حلول مشتركة.

 

ومن منطلق أن الإعلام ساحة حيوية لتوجيه الرأي العام، يقول بسام الأحمد، إنه يتوجب على الإعلام أن يلعب دورًا في ضمان الشمولية والمشاركة الواسعة لجميع الأطراف السورية في العملية السياسية، محذراً من تلاعب بعض الإعلاميين/ات الذين/اللواتي يسعون/يسعين لتجميل صورة بعض الجهات أو تحريف الوقائع من أجل تحقيق أهداف ضيقة قد تعرقل عملية الانتقال السياسي، ويساهم في خلق صورة مشوهة عن الواقع السوري، مما يطيل أمد الصراع ويؤثر سلبًا على جهود المصالحة.

 

ترى رهادة عبدوش أنه يجب على الإعلام أن يكون أداة للكشف عن الحقائق، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية أو الأجندات السياسية، وفي الوقت الذي تتأرجح فيه سوريا بين المصالحة والفوضى، يتعين على الإعلام أن يعكس تنوع المجتمع السوري ويتيح منصة لجميع الأصوات بدون استثناء، وتدعو إلى ضرورة التعامل مع الإعلام كأداة لبناء الثقة بين الفئات المختلفة، خصوصًا في ظل الحاجة الملحة لتحقيق العدالة والمساواة.

 

وتشكل المرحلة الانتقالية في سوريا تحديًا معقدًا يحمل في طياته العديد من الفرص والتحديات التي تتطلب تعاونًا شاملًا بين جميع الأطراف، وتحقيق الاستقرار والتماسك المجتمعي لا يعتمد فقط على السياسات والقرارات الحكومية، بل على المشاركة الفعالة لجميع فئات الشعب السوري، سواء من خلال الحوار الوطني، أو عبر تعزيز دور المجتمع المدني والإعلام.

 

وقد أظهرت الأحداث الأخيرة أن الشفافية والمصداقية في الإعلام، إلى جانب محاسبة الأطراف المختلفة، تعتبر من العوامل الأساسية لتحقيق مصالحة حقيقية ونجاح العملية الانتقالية.

وبينما تظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية تشكل عائقًا أمام التقدم، فإن الأمل في مستقبل أفضل يبقى مرهونًا بقدرة السوريين/ات على تجاوز الانقسامات وبناء مجتمع أكثر تماسكًا وعدالة.