في شوارع مدينة حسكة وأزقتها بشمال شرقي سوريا، بات مألوفاً مشهد النساء وهنّ يحملن الإسطوانات المليئة بالمياه، لكنه يخفي وراءه قصصاً من الألم والمعاناة المتراكمة، فمنذ سنة 2019، ومع سيطرة الفصائل السورية الموالية لتركيا على مدينتَيّ سري كانيه/رأس العين وتل أبيض، دخلت مدينة حسكة في أزمة مياه خانقة ما تزال تلقي بظلالها على حياة الأهالي، وبشكل خاص، النساء.
أدى اجتياح المدينتين إلى قطع شريان الحياة عن حسكة، حيث تقع محطة علوك، المصدر الرئيسي لمياه الشرب للمدينة وريفها، ضمن المناطق التي باتت تحت سيطرة الفصائل الموالية لتركيا. مشروع محطة علوك كان قد أُطلق عام 2010، حيث تم حفر 30 بئراً، تبعها لاحقاً 4 آبار احتياطية لتبلغ القدرة الإنتاجية نحو 200 متر مكعب لكل بئر، وعبر شبكة بطول 67 كيلومتراً، كانت المياه تُضخ بسلاسة إلى خزانات مدينة حسكة. إلى أن باتت المدينة في مواجهة أزمة وجودية إثر انقطاع المياه من المحطة بشكل متكرر.
وكحلولٍ إسعافية، قامت منظمات إنسانية بتركيب خزانات مياه في الشوارع العامة والأحياء، خاصة في أحياء مثل غويران والنشوة الشرقية والغربية. ومع غياب البدائل، وجد الأهالي أنفسهم/نّ مُجبرين/ات على نقل المياه يدوياً لمسافاتٍ طويلة؛ مهمةٌ وقعت في معظمها على عاتق النساء، وألقت بأعباء جسدية ونفسية إضافية عليهن.
النساء في خط المواجهة الأولى مع أزمة المياه
فاطمة محمد (40 عاماً)، سيدة من آلاف النساء اللواتي يعانين يومياً من تبعات أزمة المياه، تقول: “أمضي ساعاتٍ كل يوم في نقل المياه من الخزان القريب إلى منزلي، ورغم أنّ المسافة لا تتجاوز 50 متراً، لكنها كفيلة بإنهاكي، خاصةً مع وجود طفلٍ معاق يحتاج لرعايتي المستمرة له.”
لسنواتٍ طويلة قامت فاطمة بنقل المياه عبر أوعية بلاستيكية، إلى أن بدأ يظهر أثر ذلك على صحتها الجسدية، حيث باتت تعاني من آلامٍ شديدة في الظهر والكتفين، وأصيبت بالمناقير العظمية في قدمها، وعلى الرغم من إرشادات الطبيب المختص لها بألّا تحمل أشياءً ثقيلة، إلا أنها مُجبرة على الاستمرار في المهمة هذه.
“تأمين المياه بطرق أخرى لا يتناسب مع حالتنا المادية، فإننا بالكاد نستطيع أن نغطّي احتياجاتنا الأساسية.”
ويبلغ سعر الخزان الواحد بين 30 ألف و35 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 3 دولار أمريكي) إذا ما تم حساب سعر الخزان بـ 30 ألف ليرة سورية، حيث يقوم أصحاب الصهاريج بتعبئة المياه من منطقة الحمة غربي مدينة حسكة، وهي عبارة عن آبار متواجدة حول نهر الخابور، ويتم نقل المياه منها إلى المدينة.
أمّا سميرة خلف (55 عاماً)، فإنها تعاني من أزمة المياه في جانبٍ آخر، وتقول: “كل يوم هناك مشكلة مع الجيران على دور المياه، ولا أستطيع ترك بناتي للذهاب بأنفسهن خوفاً عليهن من أن يتعرّضن للتحرش،” سميرة حالها كحال غالبية نساء المدينة، تحمل قوارير المياه الثقيلة رغم تقدّمها بالسن، وسط هشاشة البيئة الآمنة للنساء، على حدّ وصفها.
العديد من النساء اللواتي تحدثن إلينا فضلن عدم كشف هوياتهن، لكنهن أكدن أن التحرش خلال تعبئة المياه، خاصة من بعض أصحاب الصهاريج أو القائمين على تعبئة الخزانات، يمثل خطراً يومياً آخر يواجهنه بصمت، حيث قالت إحدى السيدات: “ننتظر حتى يغادر أصحاب الصهاريج المكان، لتفادي أيّة مضايقات محتملة.”
ليلى أحمد (35 عاماً) من حي النشوة الغربية، فقدت جنينها في الشهر السادس من حملها، تقول: “كنت أجرّ برميلاً مليئاً بالماء، وفجأة شعرت بألم حاد، حينها أخبرني الطبيب أنني فقدتُ جنيني، والسبب هو حمل الأشياء الثقيلة.”
وتكررت الحالة لدى زهرة جاسم (20 عاماً)، وهي نازحة من مدينة سري كانيه/ رأس العين، وتقطن في مخيم واشوكاني الواقع غربي مدينة حسكة، والذي يحتضن النازحين/ات من سري كانيه/ رأس العين، حيث فقدت جنينها للسبب ذاته، وتقول: “بعد فقداني لجنيني الأول، امتنعت عن نقل المياه خلال حملي الثاني.”
وعن الإجهاضات التي تعاني منها نساء مدينة حسكة نتيجة نقل المياه لمسافات طويلة وبأوزان عالية، يوضّح الاختصاصي في أمراض النساء سيبان نجار أنّه يتوجب الحذر من المهام الشاقة التي تقوم بها النساء، والتي قد تؤدّي لإصاباتٍ مزمنة من قبيل مشكلات في العمود الفقري أو الضغط العصبي، وصولاً إلى فقدان الأجنّة في وجود الحمل.
ويحذّر سيبان نجار، الاختصاصي في التوليد والأمراض النسائية، من خطورة الأعباء الشاقة التي تتحملها النساء، والتي قد تتسبب بإصابات مزمنة، مثل مشكلات العمود الفقري والضغط العصبي. ويؤكد أن هذه الأعباء لا تقتصر تأثيراتها على الصحة الجسدية فحسب، بل قد تصل في بعض الحالات إلى فقدان الحمل نتيجة الإجهاد البدني المستمر.
ومن أبرز المخاطر التي ينبه لها الطبيب سيبان، هو حمل الأوزان الثقيلة، حيث يشكّل ذلك ضغطاً إضافياً على عضلات البطن والحوض، وقد يتسبب بإصابات خطيرة مثل الانزلاق الغضروفي أو تلف الأعصاب، كما يزيد من احتمالية التعرض للسقوط أو فقدان التوازن، نتيجة تغيّر مركز الثقل في جسد المرأة الحامل، وهو ما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة كالإجهاض أو الولادة المبكرة.

عدنان حسن، المنسق الإعلامي لمنظمة دان للإغاثة والتنمية (DRD)، يقول إنّ مدينة حسكة تعاني منذ سنوات من أزمة مياه خانقة، تفاقمت بسبب تدهور البنية التحتية المحلية. وفي خضم هذه الأزمة، باتت النساء الحلقة الأضعف، حيث يُجبَرنَ على حمل المياه لمسافات طويلة، ما يؤدي إلى أضرار صحية جسيمة.
ورغم جهود بعض المنظمات الإنسانية التي عملت على توفير خزانات مياه في المناطق الحيوية داخل المدينة، إلا أن هذه الحلول لا تزال محدودة وغير كافية، بحسب ما يراه عدنان، إذ ما زال السكان، لاسيّما النساء، يضطرون لبذل جهد شاق لنقل المياه إلى منازلهم/نّ باستخدام الأوعية البلاستيكية، مما يزيد من معاناتهم/نّ اليومية.
ويشدد عدنان على أن آليات توزيع المياه يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأثر الاجتماعي والصحي، خصوصاً على الفئات الأكثر تضرراً مثل النساء، فتأمين المياه بطريقة تحفظ كرامة الإنسان وتخفف من معاناته/ها، لا يجب أن يُنظر إليه كخدمة فقط، بل كواجب إنساني وأخلاقي.
ويؤكد أن أزمة المياه في الحسكة تتطلب حلولاً متكاملة، تجمع بين الضغط السياسي، والاستثمار في مشاريع مستدامة، والدعم الدولي، كما يدعو إلى ضرورة وقف تركيا احتجاز مياه نهر الخابور، وإعادة تشغيل محطة علوك التي كانت المصدر الرئيسي لتزويد مدينة حسكة وبلدة تل تمر وريفهما بالمياه، لضمان توفير المياه بشكل دائم وآمن للأهالي.
بينما يحتفي العالم اليوم باليوم العالمي للمياه، رافعاً شعارات الاستدامة والعدالة في الوصول إلى هذا المورد الحيوي، تبقى آلاف النساء في مدينة حسكة يواجهن يومياً واقعاً مغايراً تماماً، حيث يتحوّل الماء من حق أساسي إلى عبء ثقيل يحطّ على ظهورهن وأجسادهن المنهكة.