“فقدتُ خمسة أشخاص من عائلتي بعد معاناتهم مع مرض السرطان، وذلك ما دفعني إلى التخطيط لافتتاح مركز يقدّم الرعاية للأطفال من مرضى السرطان.”
بهذه الكلمات تبدأ لينا ميرزه (32 عام) سرد قصتها في رحلةٍ لتقديم ما يمكن تقديمه من مساعدة للأطفال المصابين/ات بمرض السرطان، وبدأت هذه الجهود في عام 2017، حيث قامت لينا مع مجموعةٍ من الأشخاص بمسحٍ ميداني في مدن منطقة حسكة لمعرفة ما يعانيه الأطفال والطفلات المصابين/ات بمرض السرطان، وبعد محاولاتٍ كثيرة كانت غالبيتها غير ناجحة، تمكّنت أخيراً من الحصول على ترخيصٍ لافتتاح المركز في بلدة كركي لكي/معبدة بشمال شرقي سوريا عام 2022.
في أحد أحياء هذه البلدة، صادفت لينا منزلاً شبه مهجور، اختارته وقامت باستئجاره، وبدأت بترميمه ليتحوّل فيما بعد، إلى مكانٍ يحتضن آلام وأفراح هؤلاء الأطفال والطفلات، وليترك كل طفل وطفلة دخلوا إليه، بصمةً في حياة لينا التي استذكرت جميعهم/نّ في حديثها مع معدّة التقرير.
تعمل لينا في مجال الدعم النفسي، ولم تملك سوى إيمانها بقدرة الحب والاحتواء على تخفيف الآلام عن هؤلاء الأطفال والطفلات، تقول: “أحب أن أعطي بدون مقابل، ويكفيني أن أشعر بالفائدة التي تعود على الأطفال وذويهم حين يزورون المركز؛ تلك الضحكات هي التي أستمد منها القوة للاستمرار.”
خلال جولات ميدانية في المنطقة، لاحظت لينا الحاجة الماسة لمكان يحتوي الأطفال والطفلات، خاصة المصابين/ات بمرض السرطان. ومن هنا، وُلدت فكرة إنشاء مركز “فرح” لتقديم الدعم النفسي والترفيه لهم/ن، وخلال تلك الفترة عايشت لينا مخاوفاً من التحديات التي يمكن أن تواجهها سواءً أكانت على الصعيد المادي أو المجتمعي، فقد لاقت الفكرة رفضاً في البداية، إلا أن إصرارها أثمر، وبدأ التقبّل يزداد تدريجياً، إلى أن لاقت تشجيعاً كبيراً من الأهالي، وبات الدعم المادي الوحيد للمركز، هو تبرّعاتهم/نّ.
“نحن لسنا جمعية، ولا منظمة، بل مركز يقدّم الدعم النفسي والترفيهي للأطفال والطفلات المصابين/ات بمرض السرطان، ونحاول أن نعيد دمجهم/نّ مع المجتمع، كما نساعدهم/نّ لأن يتعلّموا/ن وأن يكتشفوا/ن مهاراتهم/نّ.” تقول لينا.
من طفلين .. إلى قلوبٍ لا تُنسى
احتضن المركز في البداية طفلين، فقد أحدهما حياته إثر المرض ليترك أثراً كبيراً في حياة لينا، فقد كان الطفل كفيفاً ومصاباً بالسرطان، ولم يتمكن من التواصل مع عائلته ومحيطه يوماً، لكنه كان قوياً، وأخبر لينا أنه يطمح لأن يدير مركزاً مشابهاً يوماً ما، ويدعم الأطفال والطفلات الذي/اللواتي يعيشون معاناته، لكنه لم يتمكن من تحمّل المرض، وفارق الحياة.
لم يكن ذلك الطفل، الوحيد الذي ترك أثراً بغيابه، حيث تستذكر لينا الكثير من أسماء الأطفال والطفلات ممن خسروا/ن معركتهم/نّ مع المرض، تاركين خلفهم/نّ أثر أصابعهم/نّ على الألعاب الورقية والأنشطة التي كانوا/نّ يقومون بها في المركز.
“خلال شهورٍ قليلة فقدنا أربعة أطفال، وكل من يغادر منهم، يُشعرني بأن المنزل يفقد أحد أعمدته، وموت البعض منهم كان مفاجئاً، حيث كانت حالتهم/نّ الصحية طبيعية، خاصةً أنني كنت أزورهم في المستشفى حين كانوا يخضعون للجرعات،” تقول لينا وتكمل أن أكثر الحالات المؤثرة أيضاً هي فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً، أدى المرض لبتر قدميها، ورغم ذلك كانت تزور المركز، وتنشر الطاقة الإيجابية، الأمر الذي كان يُشعر لينا بالغرابة حين تقوم بمقارنة الحالة النفسية لهؤلاء مع الناس ممن لا يعانون من أية حالة صحية، ورغم ذلك فإنهم/نّ في تذمّرٍ مستمر.
حين تتلقى لينا خبراً بوفاة أحد هؤلاء الأطفال، فإنها تعاني من حالةٍ نفسية سيئة لفتراتٍ طويلة، وعلى الرغم من تلقّيها لملاحظاتٍ على صعوبة هذا العمل من محيطها المجتمعي، وبأنه من الأفضل لها أن تعيش حياةً خالية من الصدمات، إلا أنها تؤكّد أن قضاء الوقت مع الأطفال والطفلات يُشعرها بالطمأنينة والأمل بأنه رغم كل الصعوبات، يمكن للإنسان أن يتغلب عليها، كما يتغلب هؤلاء الأطفال على المرض القاتل.
تقول لينا أن المركز ساهم في تنمية شخصيات هؤلاء الأطفال، حيث باتوا أصدقاءً مقرّبين لبعضهم/نّ، ويقومون بأنشطةٍ وفعالياتٍ مختلفة معاً، وينعكس ذلك على حالتهم/نّ النفسية، وحالة عوائلهم/نّ، وذلك بعد أن كانوا/كنّ يعانون من الخجل والخوف من التعاطي مع الغير.
وتوضّح لينا أن المركز لا يتلقّى أي تمويل رسمي، ويعتمد بشكل رئيسي على تبرّعات الأهالي، الأمر الذي يعرّضه لخطر عدم القدرة على الاستدامة، وباتت معرّفاته على وسائل التواصل الاجتماعي، هي النافذة نحو العالم، وتؤكّد أن كل قطعة أثاث، وكل لعبة، ودفتر، قد جاؤوا نتيجة تعب وجهد وإيمان لا يلين.
“بقيت لمدة ثلاثة أشهر في حالة حركة دائمة لتأمين كل ما يلزم للمركز، دون وجود أي تمويل، لقد كان المنزل مهجوراً، وقمنا بإعادة إعماره، زارعين فيه الأمل بأن يُشفى هؤلاء الأطفال، ويُعاد دمجهم مع محيطهم المجتمعي.” تقول لينا.
رغم بساطة الإمكانيات، إلا أن حلم لينا يكبر يوماً بعد يوم، حيث تتمنى أن تصبح هذه المبادرات ثقافةً مجتمعية، وأن تصل لكافة مدن وأرياف المنطقة، وتتوسع لتشمل كافة المدن السورية الأخرى، “في كل ركنٍ من أركان هذا المركز، هناك قصة، وفي كل ضحكة طفلٍ، هناك انتصارٌ على الألم، هذا المكان ليس مركزاً فحسب، بل نقطة ضوءٍ في زمن يفتقد النور.” تقول لينا.