“حتى الآن، لا أستطيع أن أرسل أطفالي إلى المتجر وحدهم، لا أشعر بالأمان، وآخذهم بنفسي إلى المدرسة، إلى الملعب، إلى أي مكان يريدونه؛ أصوات الانفجارات والرصاص ما زالت تلاحقني، وبمجرد سماع أي صوت مرتفع، يعود كل شيء وكأنه يحدث مجدداً،” بهذه الكلمات يروي المصور الصحفي جهاد درويش واحدة من اللحظات التي غيرت حياته، فلم يكن الأمر مجرد توثيق لكارثة، بل تجربة شخصية صعبة تركت أثرها النفسي العميق عليه، في حديثه عن التفجير الذي حدث في الحي الغربي بمدينة قامشلي سنة 2016.
ويضيف: “كان الانفجار هائلاً، اهتزت نوافذ منزلي، وغطى الغبار السماء، لم أفكر كثيراً، أمسكت بالكاميرا وركضت نحو موقع التفجير وسط مدينة قامشلي، الذي لم يكن يبعد سوى 200 متر عن منزلي. عندما وصلت، كانت الشظايا لا تزال تتساقط، والدخان الكثيف يحجب الرؤية، كنت أبحث عن اللقطات المناسبة لنقل حجم الدمار، لكن فجأةً، وسط الفوضى، امتدت يد رجل من الظلام، كانت تحمل طفلة صغيرة ووضعها بين يدي، لم أكن أرى ملامحها بوضوح، لكن جسدها كان بلا حراك. تجمدت قدماي من الخوف، هل ماتت؟ هززتها قليلًا، وفجأةً، سمعت صرخة بكائها، حينها شعرت أنني أتنفس من جديد، وركضت بها إلى أقرب مساعدة.”

في سوريا، لا يكتفي الصحفيون/ات بتغطية الأحداث، بل يعيشونها بكل تفاصيلها، منذ عام 2011، تحولوا/ن من مراقبين/ات إلى شهود، تنقّلوا/ن بين جبهات القتال، ولاحقوا/ن القصص الإنسانية وسط الأنقاض، وواجهوا/ن مشاهد الموت والدمار باستمرار، فالصحافة في مناطق النزاع ليست مجرد مهنة، بل تجربة تترك أثراً نفسياً طويل الأمد.
يؤكد جهاد أن الألم لا يزول حتى بعد انتهاء المهمة الصحفية، بل يرافق الصحفيين/ات كجرح مفتوح لا يلتئم، “لا يمكنك فصل نفسك عن ما تراه، هذه ليست مجرد صور، بل أرواح وأحلام تُدمر أمامك، وكل مأساة مرتبطة بمكان تعرفه، بشخص قريب منك، بصديق أو قريب قد يكون الضحية التالية.”
تجارب مؤلمة ملازمة للصحفيين/ات حتى بعد انتهائها
في أثناء تغطيته معارك الباغوز عام 2019، واجه جهاد موقفاً لا يزال عالقاً في ذاكرته: “كنا في الصحراء حيث تجمع المدنيون الفارون من تنظيم داعش. رأيت فريقاً طبياً يحاول إنقاذ طفل في السادسة من عمره، جسده مليء بالشظايا، والطبيب يحاول إبقائه واعياً حتى لا يموت، لم أتمالك نفسي، انفجرت بالبكاء أثناء التصوير، ربما لأنني رأيت فيه صورة ابني، الذي يشابه الطفل في عمره، تلك اللحظة بقيت معي حتى اليوم.”
في دراسةٍ نشرتها المجلة العلمية لبحوث الصحافة، وأجريت على الصحفيين/ات الميدانيين/ات، أظهرت النتائج أن 23.8% من الصحفيين/ات الذين/اللواتي يغطون الأحداث العنيفة يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بمستويات شديدة، بينما لم يكن أكثر من 56.9% منهم/نّ على دراية مسبقة بتأثير التغطية على صحتهم/نّ النفسية.
أما الصحفية رنيم خلوف، فقد واجهت صدمة نفسية بعد تغطيتها للزلزال في حلب في سنة 2023، “كانت المشاهد مروعة، الدمار في كل مكان، صرخات العالقين تحت الأنقاض، وجوه الناجين مليئة بالذهول. كنت أقوم بعملي، لكن عندما عدت إلى المنزل، لم أستطع النوم، فالكوابيس لم تتوقف، وكأنني ما زلت هناك، أعيش الحدث مجدداً كل ليلة.”
لم تستطع رنيم التغلب على صدمتها بمفردها، فقررت اللجوء إلى معالج نفسي، وتقول: “لم أكن أظن أنني أحتاج إلى ذلك بهذا الحد، لكن بعد عدة جلسات، شعرت بتحسن كبير، وأصبحت أكثر هدوءاً، وأكثر قدرة على التعامل مع الأحداث العنيفة،” وتؤكّد رنيم أنّ العلاج النفسي ليس عيباً، بل ضرورة، خاصة للصحفيين/ات الذين/اللواتي يتعرضون لهذا النوع من الضغوط بشكل مستمر.

على الرغم من هذه المعاناة، لا يحصل الصحفيون/ات في سوريا على الدعم النفسي اللازم، حيث يقول جهاد إنه حين انتقل للعمل مع مؤسسة إعلامية عالمية، لاحظ حرص المؤسسة على تقديم استشارات نفسية منتظمة للإعلاميين/ات، وتقديم تدريبات على كيفية التعامل مع الصدمة، لكنّه حين كان يعمل مع مؤسسة محلية، لم يكن هناك أي دعم، “نحن نُترك لنواجه هذا الضغط وحدنا، وكأن التأقلم مع الصدمات جزء من مهامنا الصحفية.” يقول جهاد.
تؤكد رنيم أيضاً أن المؤسسات الإعلامية المحلية لا توفر أي دعم نفسي للصحفيين/ت، وتقول: “في المؤسسات العالمية، هناك سياسات واضحة لحماية الصحفيين من الإرهاق النفسي، مثل إجازات دورية، أو إمكانية الحصول على استشارة نفسية، أما هنا، فحتى لو كنت بحاجة لذلك، لن تجد جهة تساعدك.”
الصحفيون/ات بحاجة لدعم نفسي مستدام
عمار حمو يعمل مديراً للتحرير في موقع “سوريا على طول”، ويشرف على فرق صحفية تنقل قصص وآلام السوريين/ات، لكنه يؤكد أن الصدمات النفسية لا تقتصر على الصحفيين/ات العاملين/ات في الميدان داخل سوريا، بل تشمل حتى من يعملون عن بعد.
“هناك اعتقاد خاطئ بأن الصحفيين الذين يغطون الأحداث من خارج سوريا محصنون ضد الأزمات النفسية، لكن هذا غير صحيح، نحن نشعر بالعجز، لأننا ننقل مأساةً دون أن نستطيع تغييرها،” يقول عمار ويوضّح أنه بعد كل تقرير يقوم بكتابته عن مخيم الركبان (تأسس في العام 2012 على الحدود بين الأردن والعراق)، يشعر بإحباط شديد، كأنه يصرخ في الفراغ، فإنه يرفع أصوات النازحين/ات، والجميع يسمع، لكن لا أحد يفعل شيئاً، وفق ما يقوم بوصفه.

يضيف عمار أن الضغط النفسي لا يتم التعامل معه بجدية في المؤسسات الإعلامية المحلية، “في مؤسستنا، نحاول التخفيف من الضغط من خلال جلسات أسبوعية غير رسمية، حيث يتحدث الصحفيون عن أي شيء عدا الصحافة، لكن هذه الجلسات متاحة فقط للموظفين الدائمين، أما الصحفيون المستكتبون، فلا يحصلون على أي دعم نفسي.”
من جهتها، تؤكّد ندى الجندي، منسقة برنامج الحماية في “شبكة الصحفيات السوريات”، أن الصحفيين/ات يواجهون تحديات نفسية هائلة، لكن مؤسساتهم/نّ لا تقدم لهم/نّ الدعم الكافي، وتقول: “المؤسسات الإعلامية العالمية توفر استشارات نفسية منتظمة، لكن الصحفيين في سوريا، خاصة في المؤسسات المحلية، يُتركون لمواجهة هذه الأعباء وحدهم.”
تشير ندى إلى مفهوم “الصدمة النفسية الثانوية”، الذي يعاني منه الصحفيون/ات بسبب تعرضهم/نّ المستمر للقصص المؤلمة، أي أنّ الصحفي/ة وإن لم يكونوا/نّ ضحايا بأنفسهم/نّ، فإن الاحتكاك المستمر بالمآسي يترك أثراً عميقاً لديهم/نّ، في الوقت الذي لا ينعكس الضغط النفسي على صحتهم/نّ النفسية فحسب، بل حتى على علاقاتهم/نّ الشخصية، وقد يؤدي في بعض الحالات إلى إرهاق مزمن أو اكتئاب شديد..
وتضيف ندى أن هناك عائقاً آخر يمنع الصحفيين/ات من طلب المساعدة النفسية، وهو الخوف من الوصم الاجتماعي، فالكثير من الصحفيين/ات، بحسب ما تراه ندى، يشعرون بأن الاعتراف بالضغط النفسي ضعف، خاصة عندما يرون معاناة المدنيين/ات التي تفوق معاناتهم/نّ، لكن الحقيقة هي أن تجاهل المشكلة يؤدي إلى تفاقمها.

مع استمرار النزاعات في سوريا، أصبح من الضروري تبنّي استراتيجيات واضحة لدعم الصحفيين/ات نفسياً، في الوقت الذي يُطلب فيه من المؤسسات الإعلامية توفير جلسات دعم نفسي دورية، وإتاحة استشارات متخصصة للعاملين/ات فيها، بالإضافة إلى منح الصحفيين/ات فترات راحة مناسبة لتخفيف الضغوط، إلى جانب ضرورة التعامل مع الصحة النفسية للصحفيين/ات كجزء رئيسي من بيئة العمل.