سوريا بين الكراهية والمصالحة: هل يمكن ترميم ما تمزّق؟


بعد أكثر من عقد من الحرب السورية، لا يزال خطاب الكراهية واحداً من أخطر التحديات التي تواجه السوريين/ات، وتهديداً خطيراً للنسيج الاجتماعي هذا الخطاب لم يعد حبيس السجال السياسي، بل أصبح واقعاً يومياً، يتسلل إلى الإعلام، ومواقع التواصل، والعلاقات الاجتماعية، مهدداً ما تبقى من النسيج الوطني.

في ظل الحديث المتجدد عن مصالحة وطنية محتملة، يبرز سؤال ملحّ: هل يمكن إعادة بناء الثقة في مجتمع يزداد انقساماً؟ ومن يغذي هذا الخطاب؟ وكيف يمكن مواجهته قبل أن يُصبح عائقاً دائماً لأي مشروع جامع؟

خطاب الكراهية في الحياة اليومية: بين الإعلام والسياسة والمجتمع

من بين أكثر أشكال خطاب الكراهية انتشاراً في السياق السوري، تبرز ظاهرة التخوين والتكفير، إلى جانب الاتهامات السياسية مثل توصيف بعض الأطراف بالانفصالية أو العمالة، وفي هذا السياق، يُشير الناشط رواد بلان إلى أن هذه الخطابات، وإن اتخذت طابعاً سياسياً على السطح، إلا أنها غالباً ما تنطوي على أبعاد طائفية أو مناطقية، وهو ما يجعلها أكثر تعقيداً وتأثيراً على المجتمع.

ويكمل رواد حديثه قائلاً: “خطاب الكراهية اليوم يُعدّ من أكبر التحديات التي تواجه المجتمع السوري، وغالباً ما يرتبط بتحريض مباشر على العنف، خصوصاً حين يصدر عن جهات ترتبط بمواقع النفوذ،” ويضيف أنّ بعض الخطابات الصادرة عن شرائح محسوبة على السلطة، وإن لم تكن تمثّل كل أفراد تلك المكونات، تميل إلى التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مقلق.”

تغلغلَ هذا النوع من الخطاب في الفضاء الرقمي بشكل كبير، وباتت المنصات الاجتماعية بيئة خصبة لانتشاره، وتُشير الصحفية زينة شهلة إلى أن هذا الخطاب تجاوز حدود الخطابات السياسية والإعلام التقليدي، وأصبح جزءاً من الحياة الرقمية اليومية للسوريين/ات، موضحةً أنّ غياب الرقابة الفعالة والمساءلة المهنية، مكّن الخطاب المحرّض من الانتشار الواسع، حتى بين بعض المؤسسات الإعلامية التي يُفترض بها الالتزام بالمهنية والحياد.

وراء تصاعد خطاب الكراهية في سوريا، لا تكمن فقط العفوية أو ردود الأفعال الفردية، بل كما يشير الصحفي عباس موسى، هناك مستويات منظمة لهذا الخطاب، تبدأ من الفاعلين/ات في الشأن العام وتمتد إلى الشارع، ويقول: “هناك أطراف تُحاول شيطنة الآخر ورفع خطاب الكراهية ضده لمجرد خلاف سياسي، وهؤلاء يمكن تسميتهم بـ “الذباب الإلكتروني”، لكن اللافت أن هذا الوصف لا ينطبق فقط على حسابات وهمية، بل يشمل أيضاً شخصيات معروفة وفاعلة في المجال العام، وهذا ما يجعله أكثر خطورة.”

ويتابع عباس: “لدينا مثال واضح، حين ارتفع الخطاب العدائي تجاه الكرد قبيل اتفاق مظلوم عبدي مع أحمد الشرع، ثم خفّ هذا الخطاب بعد الاتفاق، ما يشي بوجود نمط ممنهج لا تحركه القناعات بقدر ما تحركه المواقف السياسية،” أمّا المستوى الأخطر برأيه، فهو حين تنتقل هذه اللغة العدائية من النخب إلى المجتمعات المحلية، موضحاً ذلك بقوله: “حين يردد الذباب الإلكتروني والسياسيون خطاب الكراهية، فإن الناس يتلقفونه ويعيدون إنتاجه، وهو ما يشكل تهديداً فعلياً للسلم الأهلي.”

الانقسام المجتمعي في ظل الكراهية: شرخ في الثقة والعلاقات

لا تقتصر آثار خطاب الكراهية على الانقسامات السياسية أو الاجتماعية، بل تمتد لتخلّف آثاراً نفسية وسلوكية عميقة على الأفراد والمجتمع، ويشدّد رواد بلان على أن هذا الخطاب ساهم في خلق شرخ مجتمعي حاد، وأدّى إلى تراجع واضح في الثقة المتبادلة بين مختلف المجتمعات السورية.

“نعيش حالة من التباعد الاجتماعي، حيث تمترست المجموعات خلف أفكارها ومظلومياتها، ما خلق بيئة من القطيعة والعزلة، وفرض معادلات صفرية لا رابح فيها.” يقول رواد

إنّ هذا الخطاب يغذّي التوتر الطائفي والمناطقي، ويكرّس الاصطفافات الحادة، ما ينعكس على الحياة اليومية للناس، وفق ما توضّحه الصحفية زينة شهلة، التي تشير إلى أنّ الكثير من السوريين/ات باتوا/بتن يعيشون تحت ضغط نفسي مستمر، والخوف من التعبير أو التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي بات واقعاً يومياً، والأخطر كما تراه زينة هو أن تداول خطاب الكراهية بات في كثير من الأحيان يُعامل كأمر طبيعي، ما يساهم في تطبيع العنف الرمزي والفعلي داخل المجتمع.

وتلفت الصحفية غيداء الصفدي من جهتها إلى أن الأثر المجتمعي لهذا الخطاب أصبح واضحاً بشكلٍ لا لبس فيه، حتى داخل العائلات، حيث أن الانتماء السياسي أو الطائفي تحول في بعض الحالات إلى سببٍ للقطيعة بين الأفراد، وهو أمر يعمّق من هشاشة النسيج الاجتماعي، محذّرةً من استمرار هذا المسار الذي يقود إلى المزيد من العزلة وانعدام الثقة، مما يجعل فكرة المصالحة أكثر تعقيداً.

أما عباس موسى، فيضيء على بُعد آخر من تأثيرات خطاب الكراهية، مشيراً إلى امتداد هذا الخطاب من الفضاءات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي إلى الشارع مباشرة، حيث تصبح نتائجه ملموسة وخطيرة، ويؤكّد أن التحريض المتكرر والممنهج يمكن أن يؤدي إلى اعتداءات أو حتى جرائم قتل، كما حدث في بعض الحالات التي طالت العلويين،  مشدداً أن الكراهية حين تُروّج علناً، فإنها لا تبقى في حدود الكلام، بل تتحول إلى سلوك يُهدد السلام المجتمعي بشكل مباشر.

هل يُمكن للإعلام السوري أن يواجه خطاب الكراهية؟

في ظل هذا الواقع، لا يمكن إعفاء الصحافة من مسؤوليتها في التصدي لخطابات التحريض، بل إن لها دوراً محورياً في توجيه الرأي العام، ويرى عباس  أن بعض الإعلاميين/ات والناشطين/ات “بكل أسف” ساهموا/ن في تكريس هذا الخطاب، رغم وجود محاولات فردية لمواجهته بخطاب بديل.

“أنا لا أتفاعل مع المحتوى المحرّض على الكراهية مهما كنت مختلفاً مع الجهة التي يُوجَّه ضدها، ولا أساهم في النشر والتداول، بل أنشر الأمور ذات المصداقية والتي تحمل قيم العدالة والديمقراطية واحترام الآخر، لأنها الكفيلة بإنقاذنا من الطوفان،” يقول عباس ويؤكد أن هذا الموقف لا يخلو من الضغوط، خاصة حين يشعر بأن خطاب الكراهية أوسع وأكبر وأعلى من صوته.

لكن العمل الإعلامي في سوريا يواجه تحديات بنيوية كبيرة، منها غياب الضوابط المؤسسية وانفلات معايير العمل الصحفي، وفي هذا الصدد تُشير زينة إلى أن بعض المؤسسات الإعلامية تنادي بالمسؤولية، لكن الأداء الفعلي يُظهر غير ذلك، خاصة حين تكون هذه المؤسسات مموّلة من أطراف سياسية في النزاع.

 “من يمتلك عدداً كبيراً من المتابعين يتحمّل مسؤولية مضاعفة، وينبغي أن يكون أكثر وعياً في خطابه.” تقول زينة.

أما غيداء فإنها تتعامل مع القضايا الحساسة – دينية أو طائفية أو سياسية – بأقصى درجات الحذر، وتحرص على تقديم الرواية من زوايا متعددة، دون شيطنة أو مبالغة، وتضيف: “نواجه ضغوطاً كبيرة، سواءً أكانت من أطراف سياسية أو من جمهور متعصب، لكن الالتزام بأخلاقيات المهنة يبقى الخيار الأصعب والأكثر ضرورة.”

عدالة بلا انتقام: العدالة الانتقالية كجسر نحو مستقبل مشترك

رغم أن معالجة خطاب الكراهية خطوة مهمة نحو إعادة التماسك المجتمعي، إلا أن تجاوز آثاره يتطلب مساراً أوسع، هو مسار العدالة الانتقالية، ووفقًا لتعريف “المركز الدولي للعدالة الانتقالية” (ICTJ)، تشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتشمل كشف الحقيقة، ورد الاعتبار للضحايا، والمحاسبة، والمصالحة.

لكن في السياق السوري، يواجه هذا المفهوم تحديات كبيرة، أهمها التوظيف السياسي أو الانتقائي له. يقول رواد: “العدالة الانتقالية يجب أن تكون شاملة وغير انتقامية، وتضمن المحاسبة دون تحميل جماعات بأكملها تبعات أفعال أفراد منها،” ويقترح خطوات عملية منها تشكيل محاكم مختلطة بدعم دولي، ولجان محلية لكشف الحقيقة، إلى جانب توثيق الانتهاكات، وتخليد ذكرى الضحايا دون تمييز.

وتُحذّر زينة من غياب الفهم الشعبي لهذا المفهوم، مشيرة إلى أن الحديث عنه ظل غائباً لسنوات في ظل حكم النظام السوري السابق، مما يستدعي حواراً عاماً عميقاً حوله، وتقول: “مع انفتاح الحوار في بعض الأوساط، تبقى هذه القضية محاطة بالكثير من التساؤلات والمخاوف بشأن قدرتها على المساهمة في بناء مستقبل أفضل.”

من جهته، يؤكد عباس أن تحقيق العدالة الانتقالية يتطلب أولاً توفير بيئة مستقرة وآمنة سياسياً، ووعياً مجتمعياً واسعاً يُمكّن من تشكيل لجان الحقيقة على أسس عادلة، ويُحذر من أن استمرار خطاب التخوين والكراهية قد يقود إلى عدالة انتقائية أو انتقامية، تُعيد إنتاج الانقسام بدلاً من تجاوزه.

ختاماً، يمكن القول إنّ خطاب الكراهية في سوريا ليس مجرد مظهر من مظاهر الانقسام، بل أداة فعالة في تعميقه، ومنصة تُشرعن الإقصاء وتُغذّي العنف، سواء في الإعلام أو في الحياة اليومية، ورغم استمرار النزاع، هناك جهود حقيقية تُبذل من قبل فاعلين/ات إعلاميين/ات وناشطين/ات يسعون لنشر خطاب بديل، قائم على احترام الآخر والتمسك بالمهنية.

كما أن مسار العدالة الانتقالية – الذي يهدف إلى إنصاف الضحايا وبناء مستقبل مشترك – لا يزال ممكناً، لكنه يتطلب شجاعة في المصارحة، وإرادة جماعية تتجاوز الانقسام نحو التفاهم.

ربما السؤال الأهم لم يعد: متى تنتهي الحرب؟

بل: كيف يمكن منع ولادة حرب أخرى في سوريا؟