“عانيت مؤخراً من آلام مزمنة في الرقبة، مما اضطرني لاستشارة الطبيب وارتداء النظارة الطبية نتيجة الساعات الطويلة التي أقضيها أمام اللابتوب والموبايل، كما أنني أعاني بين الحين والآخر من تشتت الذهن وعدم القدرة على التركيز، خاصة بعد ساعات العمل الطويلة في المنزل.”
يقول الإعلامي جانو شاكر، من مدينة قامشلي، الذي انتقل إلى العمل عن بُعد قبل ثلاث سنوات، إن هذا النمط هو أكثر من مجرد تغيير في مكان أداء المهام، بل هو “اختيار لنمط حياة مختلف تماماً.”
ويصف جانو التبعات الصحية لهذا الأسلوب في العمل قائلاً: “اضطررت للتعامل مع أجهزة الموبايل واللابتوب لساعات طويلة يومياً، ولاحظت أن هذا الأمر يؤثر بشكل واضح على الصحة الجسدية والنفسية. هناك خطر حقيقي للإصابة بالسمنة نتيجة قلة الحركة، كما أن اللياقة البدنية تتراجع مع الوقت، مما قد يؤدي إلى أمراض مختلفة مع مرور السنوات.”
ولا يقف الأمر عند المشكلات الجسدية، بل يتجاوزها إلى ضغوط نفسية ملحوظة: “هناك ميل متزايد للكسل وتأجيل المهام، ناهيك عن الإرهاق العصبي والنفسي الذي ينتج عن ساعات العمل الطويلة، خاصة عندما يكون حجم العمل كبيراً ويتطلب جهداً مضاعفاً. كل هذه العوامل تفرض علينا ضرورة الوعي الكبير والانضباط الذاتي لتلافي هذه السلبيات.”
هذا النمط يحمل تحدياتٍ كبيرة قد تؤثر سلباً على الجوانب الاجتماعية والعائلية لمن يمارسه، فعلى الرغم من أن هذه التجربة تمنح قدراً أكبر من الرضى الوظيفي، لكنها في المقابل تتطلب مستوى عالياً من الانضباط الذاتي.
أما ضحى محفوض، أستاذة جامعية من مدينة دمشق، فتقول إن العمل عن بعد أثّر بوضوح على صحتها الجسدية، وتضيف: “في بعض الأحيان أعاني من آلام الرأس، كما أن العيون تتأثر وتصاب بالإجهاد، أما آلام الرقبة والظهر أيضاً فأصبحت من الأمور المعتادة بسبب الجلوس الطويل.”
كما واجهت ضحى تحديات مركّبة خلال تجربتها مع التعليم عن بُعد، وتصف المخاوف الأولى بقولها: “في البداية، كانت لدي مخاوف كبيرة من عدم وصول المعلومة بشكل صحيح للطالب، لأن التواصل المباشر وجهاً لوجه كان دائماً الأكثر فعالية، فالطالب يستطيع رؤية الأستاذ مباشرة وأخذ المعلومات منه، ولغة الجسد تلعب دوراً كبيراً في عملية الإقناع والتأثير، وبالتالي التعليم.”
وتتابع: “مع مرور الوقت، بدأت هذه المخاوف تتلاشى شيئاً فشيئاً، لكن التحديات العملية بقيت قائمة،” و من أبرز السلبيات التي واجهتها هي ساعات العمل الطويلة، وفي بعض الأحيان، كانت تضطر لإعادة شرح المعلومة أكثر من مرة، تصل أحياناً إلى خمس أو ست مرات، بينما في عملها الفيزيائي كانت المعلومة تصل للطالب من المرة الأولى أو الثانية.
من جانبها، تقول روجين حبو، ناشطة مدنية من مدينة قامشلي: “هناك تأثيرات نفسية متراكمة للعمل عن بعد، فأنت تشعر أنك في المنزل، لكنك في نفس الوقت في جو العمل.” وتتابع أنّ التحدي الأكبر هو العلاقات الاجتماعية، حيث يرى الناس الشخص الذي يعمل عن بعد في منزله/ها، لكنه/ها غير قادر/ة على استقبالهم/نّ أو زيارة الأصدقاء والأقارب، لأن ساعات العمل تمتد من الثامنة صباحاً حتى الرابعة عصراً، وأحياناً أكثر، بحس روجين التي ترى أن هذا الأمر يخلق شعوراً سلبياً، حيث يبدأ المرء بالنظر إلى المنزل ليس كملاذ للراحة، بل كسجن للعمل.
العمل عن بُعد… خيار الضرورة أم رفاهية واقعية؟
يقول جانو شاكر إن خياره في العمل عن بعد لم يكن نابعاً من رغبة شخصية، بل نتيجة للظروف وفرص العمل المتاحة، مضيفاً: “أعتقد أن الخيار الأمثل قد يكون في المزج بين العمل عن بُعد والعمل الجزئي من المكتب، لما في ذلك من فوائد للموظف والمؤسسة على حدٍ سَواء.”
استطاع جانو أن يتأقلم مع الطبيعة الجديدة لعمله بابتكار أنماط حياة جديدة وإدخالها إلى جوّه المنزلي: “عليك أن تخصص مكاناً مناسباً للعمل داخل المنزل، وتحدد ساعات معينة للإنجاز، وتنظم أوقات الراحة والنوم، وتحاول التوفيق بين الواجبات المنزلية والمهنية. ويُعد هذا تحدياً كبيراً، لاسيما أن التجربة لا تزال جديدة نسبياً في مجتمعنا.”
ورغم هذه المعاناة، حاول التخفيف من آثارها بوضع حلول ذاتية، حيث بدأ بتحديد يوم عطلة ثابت كل أسبوع، كما أنه يحاول الالتزام بجدول زمني محدد للعمل، ويحرص على إنجاز المهام في الأوقات المخصصة لها، بالإضافة إلى أنه قام أيضاً بتغيير إعدادات الشاشة واللابتوب لتكون الإضاءة أكثر ملاءمة وتأثيرها السلبي أقل.
فيما ترى ضحى أن عملها في التدريس عن بعد أكثر ملاءمة لوضعها الاجتماعي كونها أمّاً لطفلتين وربة منزل في الوقت نفسه، ما دفعها إلى تبني استراتيجيات بسيطة في روتينها اليومي لكنها فعالة كما ثبت بعد التجربة، وتوضح ضحى قائلة: “أحاول شخصياً أخذ فترات راحة بين الجلسات، وأوصي كل من يعمل عبر الإنترنت بضرورة أخذ استراحة لمدة ربع ساعة كل ساعة، يقوم خلالها الشخص من مكانه، يتحرك قليلاً، يشرب كوباً من الماء أو يعد فنجاناً من القهوة، يشاهد مقطع فيديو مضحكاً لإزالة التوتر، هذه الأمور البسيطة تساعد كثيراً في استعادة النشاط وتخفيف ضغط العمل.”
وتضيف ضحى: “أمتنع خلال ساعات الصباح الأولى من تلقي أي اتصال هاتفي، لأن هذا الوقت يعتبر من حق عائلتي، ساعدني ذلك كثيراً في إدارة وقتي، كما حددت لنفسي يوم عطلة أسبوعياً لإعادة التوازن النفسي والجسدي واستعادة نشاطي من جديد.”
كما تحاول روجين التخفيف من ضغوط العمل عن بعد عبر فصل واضح بين الحياة الشخصية والعمل: “حاولت قدر الإمكان تجنب هذه المشكلة بتخصيص غرفة معينة للعمل، وعدم نقل جو العمل إلى كل أرجاء المنزل، كما حاولت تعويد أطفالي على احترام أوقات عملي، وأخبرت المحيطين بي عن طبيعة عملي الجديدة.”
ورغم الانتقادات التي توجّه لهذا الأسلوب، تعترف كل من ضحى وروجين بوجود إيجابيات لطريقة العمل هذه، حيث تقول روجين: “رغم كل التحديات، هناك إيجابيات كبيرة، خاصة للأمهات العاملات، فالوجود في المنزل يخفف العبء عن الأطفال، خاصة في ظل غياب مراكز الرعاية المناسبة في منطقتنا، وأنا كأم أعتبر هذه الميزة لا تقدر بثمن.”
في حين تعبّر ضحى عن امتنانها لميزة العمل عن بعد لما توفره من تقريب للمسافات واختصار للجهد الذي تبذله في سبيل الوصول إلى مكان العمل، وتقول: “طلابي الجامعيون من مختلف المحافظات السورية، وهذه إيجابية علينا عدم إغفالها للعمل عن بعد، وإلا لما استطاع الطلاب من محافظات بعيدة تلقي الدروس والاستفادة من خبرتي في مجال التدريس الجامعي.”
كيف تحمي صحتك في زمن العمل عن بعد؟
ينصح الدكتور عبد الحليم حسن، اختصاصي في الأمراض النفسية، بالعودة للدور الاجتماعي الفطري وقضاء وقت أطول مع العائلة، لتجنب الآثار النفسية السلبية الحاصلة بسبب الإفراط في استخدام الشاشات الذكية، ويؤكد على أهمية الانتباه للإشارات النفسية التي يرسلها الجسم والعقل أثناء العمل الطويل من المنزل، مشيراً إلى بعض التوصيات البسيطة مثل “المشي لخمس دقائق يومياً لتفادي البدانة والأمراض الاستقلابية”، واستخدام المواد الطبيعية التي تساعد في التوازن النفسي.
من النصائح التي يقدمها عبد الحليم أيضاً، المشي حافي/ة القدمين على التراب إن أمكن، كوسيلة تفريغ نفسي واستعادة التوازن، ويشدد على ضرورة أن يكون مكان العمل هادئاً وخالياً من المشتتات، مع إتاحة المجال للتوقف التام عن العمل عند الشعور بفقدان السيطرة أو الإرهاق النفسي، على أن يتم استئناف العمل فقط بعد الشعور بالتحسن.
ويحذر عبد الحليم من إهمال الأعراض النفسية التي تستمر طويلاً، مشدداً على أن الشعور المستمر بالقلق، التوتر، العصبية، أو حتى الإحساس العام بفقدان المعنى، جميعها مؤشرات تستوجب التوجه إلى العلاج النفسي. ويضيف: “مشاكل النوم المستمرة وتأثيرها على حياة الشخص تعني أنه يستوجب تدخلاً علاجياً مبكراً، والأفضل ألا يُنتظر حتى تتفاقم الأمور.”
ومن جانبه، يوضح الدكتور مظلوم عيسو، اختصاصي في الجراحة التجميلية ومعالجة أمراض البدانة، أن العمل لساعات طويلة أمام الحاسوب يؤثر على كامل الجسد، من العيون والعمود الفقري إلى الجهاز العضلي والهيكلي، مضيفاً أن قلة الحركة تضعف عملية الاستقلاب، مما يؤدي إلى تراكم الدهون وزيادة الوزن.
ويشير إلى أن إحدى أكثر العادات الضارة التي ترافق العمل المكتبي هي اللجوء للطعام كتعويض عن الملل أو الاكتئاب، خاصة المأكولات الغنية بالسعرات الحرارية مثل البسكويت، الشوكولا، والمشروبات السكرية، والتي غالباً ما تُستهلك أثناء ساعات العمل.
ويوضح: “هذا النوع من التغذية غير المتوازنة، في ظل قلة الحركة، يؤدي إلى تخزين الدهون في الجسم، والتي مع مرور الوقت تتحول إلى بدانة تؤدي إلى مشاكل مزمنة كأمراض القلب، الكوليسترول، اضطرابات النوم، التنفس، وحتى العقم.” ويؤكد على أهمية مراقبة مؤشر كتلة الجسم، والذي عند تجاوزه نسباً معينة، قد يجعل التدخل الجراحي لعلاج البدانة أمراً ضرورياً.
ينصح مظلوم باتباع عدة خطوات وقائية لتجنب آثار العمل عن بعد، منها، تخفيف السعرات الحرارية في الطعام اليومي، والاعتماد على السوائل، ممارسة نشاط خفيف كل نصف ساعة مثل المشي لدقائق قليلة، وتجنب العمل المسائي، لأن الاستقلاب في الجسم يكون في أدنى مستوياته ليلاً، مما يزيد من خطر تراكم الدهون. ويضيف: “الالتزام بمواعيد عمل ثابتة يومياً ضروري للحفاظ على توازن الساعة البيولوجية في الجسم وتفادي الأرق.”
في عالم تتداخل فيه حدود المكتب وغرف المعيشة، يصبح العمل عن بُعد أكثر من مجرد خيار مهني؛ إنه تجربة يومية تُعيد تشكيل العلاقات مع الجسد، الوقت، والمحيط، وهي مساحة مرنة، لكنها أيضاً ساحة اختبار للقدرة على التنظيم والتوازن، ويبقى السؤال الأهم: كيف يمكن خلق بيئة عمل عن بُعد تُراعي الإنسان قبل الإنجاز؟