أكثر ما يرهقه في هذا العمل، ليس طول الساعات ولا كثافة الطلبات، بل الطقس الذي يتحكم بكل تفاصيل يومه. محمد عبد الله (32 عاماً) من مدينة قامشلي، يعمل في مهنة توصيل الطلبات داخل المدينة منذ سنوات، ويصارع المناخ يومياً، حيث يبدأ يومه في التاسعة صباحاً ولا ينتهي قبل الحادية عشرة ليلاً.
في مدن وبلدات شمال شرقي سوريا، تتقلب درجات الحرارة بين صيف لاهب وشتاء قارس، يعمل الكثيرون/ات من السوريين/ات في ظروف ميدانية قاسية، دون أدنى معايير الحماية أو العدالة المناخية، من العاملين/ات في خدمة التوصيل إلى الفلاحين/ات، وسائقي الأجرة، والعمال في قطاع البناء، حيث يواجه هؤلاء واقعاً لا يرحم، يزداد قسوةً عاماً بعد عام بسبب التغيرات المناخية المتسارعة.
في الصيف، يتحول الجو إلى “خانق” كما يصفه محمد بأن الحرارة تصل إلى مستويات تجعله يشعر وكأنه سيفقد وعيه. يقول: “في أحد أيام شهر آب الفائت أوصلتُ طلباً وأنا في حالة دوّار شديد (بسبب عدم شربي لكميةٍ كافية من الماء)، واضطررتُ للجلوس على الرصيف خمسة عشر دقيقة حتى استعدتُ وعيي،” أما في الشتاء فلا يختلف الوضع كثيراً، بحسب محمد “الأمطار تجعل الطرق زلقة وخطرة، والبرد الشديد يجعلني عرضة للمرض، وقد انزلقت من دراجتي مرة بسبب مطر مفاجئ وأُصبتُ إصابة خفيفة، لكنني أكملت يومي كالمعتاد”.
السعي لتأمين لقمة العيش في ظل ظروف بيئية قاسية ليس خياراً، بل ضرورة، ولا يملك محمد ترف اختيار التوقيت أو الطقس المناسب للعمل، ففي أقسى الظروف، عليه أن يكون مستعداً، “طبيعة عملنا تتطلب العمل في كل الأوقات، ولا نملك رفاهية رفض الطلب، لأن الرفض قد يفقدنا عملنا الوحيد الذي نقتات منه.” يقول محمد.

الطقس خصمهم اليومي: سهاد وماجد في مواجهة تغيّر المناخ
في ريف أبو راسين بريف حسكة الشمالي، تقضي سهاد أحمد (20 عاماً)، صيفها في مواجهة الشمس والغبار، وتتولى العناية بالخضراوات التي زرعها والدها في قطعة أرض تبعد عن منزل العائلة ما يقارب 3 كيلومترات. تبدأ يومها مع الفجر، تستيقظ في السادسة صباحاً وتسلك طريقاً يقودها إلى ساعات طويلة تحت أشعة الشمس القاسية دون أي مكان للاستراحة، تقول: “تعرضت مؤخراً لضربة شمس ألزمتني الفراش لأيام، وبرغم ذلك عدت إلى العمل قبل أن أتعافى تماماً،” وتتابع: “الأرض لا تنتظر، وهي الآن بأمس الحاجة للرعاية والسقي، ونحن بأمس الحاجة إلى ما سنجنيه منها.”
رغم اختلاف طبيعة المهن في شمال شرقي سوريا، يجمعها قاسم مشترك: العمل تحت رحمة الطقس القاسي، في الزراعة كما في النقل، يضطر كثيرون/ات للعمل طيلة النهار دون امتلاك رفاهية اختيار الوقت أو الظروف المناسبة.
ماجد حبو (54 عاماً)، من مدينة قامشلي، يعمل سائقاً لسيارة أجرة منذ 34 عاماً، ورغم خبرته الطويلة، يقول إن ظروف العمل باتت في السنوات الأخيرة “أقسى من أي وقت مضى”، ولاسيّما مع تفاقم آثار التغيرات المناخية، في الصيف، يبدأ يومه في الرابعة والنصف صباحاً ولا ينتهي قبل الحادية عشرة ليلاً، ويتنقل طوال النهار بين الزبائن تحت شمسٍ حارقة تصل درجات حرارتها أحياناً إلى 46 درجة مئوية.
يقول ماجد: “رغم الحرارة المرتفعة، لا أستطيع تشغيل التكييف في السيارة لأن ذلك يدمر المحرك، ونوعية البنزين رديئة، والسيارة لا تحتمل.” ويضيف: “لا أستطيع أن أدفع 600 دولار أمريكي (أكثر من 6 مليون ليرة سورية) للتصليح إن تعطلت،” ويصف الشتاء بأنه أقل قسوة من الصيف، لكنه لا يخلو من الصعوبات، خاصة مع العواصف والغبار.
انطلاقاً من هذه الحالات، فإن التغيرات المناخية لم تعد قضية بيئية فقط، بل باتت أزمة حقوق إنسان تمس شرائح واسعة من المجتمع، وعلى رأسها العمال والعاملات في القطاعات الميدانية، كما تقول نالين أسعد، ناشطة في المجتمع المدني ومدربة مناصرة.

بين لهيب الشمس وقسوة البرد: العمال والعاملات ضحايا تغير المناخ
ترى نالين أسعد أن العمالة اليومية تُعد من الفئات الأكثر تهميشاً وهشاشة في مواجهة التغيرات المناخية، حيث يعملون/ن لساعاتٍ طويلة في ظروفٍ قاسية دون حماية كافية أو دعم.
وفي السياق ذاته، يقول بشار الكراف، ناشط مدني من مدينة الرقة: “التباين الحاد في درجات الحرارة من فصل لآخر لا يشكل فقط تحدياً بيئياً، بل يمس بشكل مباشر حياة آلاف العمال الذين يعملون في الزراعة، والبناء، والنقل، والخدمات، والعمالة الحرة، دون أيّة حماية تذكر.”
وحدهم/نّ في مواجهة المناخ، في ظل غياب دعم رسمي، لا مظلات تقيهم/نّ شمس الظهيرة، ولا غرف يستريحون/يسترحن فيها من تعب الطريق، ولا حتى تقدير لما يواجهونه/يواجهنه من مشقةٍ يومية، وفي ظل تصاعد تأثيرات التغير المناخي، يقف العاملون/ات في الشوارع والمهن الميدانية وحدهم/نّ في المواجهة، فقط باجتهادات فردية بسيطة لا تصمد كثيراً أمام قسوة الطبيعة.
يروي ماجد كيف اضطر للوقوف لنصف ساعة تحت الشمس أمام منزل مهجور ينتظر زبوناً لم يعد، بينما قارورة الماء التي يحملها “بحرارة يمكن الاستحمام بها،” حسب تعبيره، بينما تصف سهاد كيف أن غياب أبسط مقومات الراحة يزيد من إنهاكها اليومي: “لا ظل، لا غرفة، ولا حتى شجرة نستلقي تحتها، نحاول أن نحمي أنفسنا بقبعة أو شال، لكن الشمس تهاجمنا من كل الجهات،” أما محمد، فابتكر طريقته الخاصة لمواجهة الحر: “أربط ترمساً للمياه معي على الدراجة،” ويحاول التكيف بملابس قطنية، وماء يغسل به وجهه ويديه، وبحث دائم عن بقعة ظل، لكن كل هذا لا يُجدي في ساعات الذروة.
تفتقر بيئات العمل في معظم هذه القطاعات – الزراعية والخدمية والبناء – إلى أدنى مقومات السلامة المهنية، ويؤكد بشار: “لا توجد أجور عادلة، ولا معدّات حماية، ولا استجابات فعالة لظروف الطقس المتقلبة،” متابعاً: “العاملون يواصلون مهامهم في ظل الحر الشديد والبرد القارس، ويتعرضون لضربات شمس، نزلات برد، وإرهاق بدني دائم، دون أي نوع من التأمين الصحي أو الدعم الطبي المناسب.”

وما يفاقم الأزمة، بحسب بشار، غياب الخطط الحكومية والاستراتيجيات التي تستجيب للتحولات المناخية، ويقول: “لا توجد أنظمة زراعة أو ري حديثة تُراعي شُح المياه، ولا بحوث علمية تدعم استخدام محاصيل مقاومة للظروف المناخية،” مضيفاً أن هذا القصور يعمّق آثار التغير المناخي ويجعل المجتمع أكثر هشاشة أمام التحديات.
ظلّ صغير وماء بارد.. حق بسيط لمن يقفون تحت لهيب الشمس
وسط هذا الغياب التام للحماية، تبرز أصوات تطالب بأن العدالة المناخية لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية، حيث تقول نالين: “حين نطالب بالعدالة المناخية، فنحن لا نتحدث فقط عن تقليل الانبعاثات، بل عن العدالة الاجتماعية أيضاً، وعن ضرورة أن يُمنح كل فرد بيئة عمل آمنة تضمن كرامته وسلامته،” وتضيف: “العمل تحت الشمس الحارقة أو في البرد القارس، ليس مجرد تفاصيل موسمية، إنه اختبار حقيقي لقدرتنا على بناء مجتمع عادل، يُنصف من يقفون على خطوط الإنتاج الأولى، ويضمن لهم حياة كريمة وآمنة.”
وفي بلد مثل سوريا، حيث تنهار البنية التحتية تدريجياً وتُهمل ملفات البيئة والعمل معاً، تبدو هذه المطالب أكثر من ضرورية، خاصة مع غياب التشريعات المرتبطة بالمناخ وظروف العمل، وحتى من دون أرقام دقيقة، فإن الشهادات التي يسردها العاملون/ات كفيلة بإظهار عمق الأزمة.
ومن هنا، تبرز مجموعة من الخطوات الضرورية التي يمكن أن تفتح الطريق نحو بيئة عمل أكثر عدلاً، حيث يقول محمد: “ما نحتاجه ليس معجزة، إنما إجراءات بسيطة تحترم تعبنا اليومي،” موضحاً أنه لا يطلب أكثر من ظل، ووقت مستقطع، وماء بارد في يوم صيفي شديد الحرارة.
وعلى مستوى السياسات العامة، ترى نالين أنه من الضروري تضمين حماية العمال من آثار التغير المناخي ضمن برامج المناصرة المجتمعية، والاستراتيجيات الوطنية، مع إشراك العمال والعاملات في صياغة السياسات التي تمس حياتهم/نّ، لا أن تُفرض عليهم/نّ من مكاتب مغلقة، وتشدد على أهمية تفعيل دور النقابات والاتحادات العمالية لتكون صوتاً حقيقياً للعاملين/ات، ليس فقط في الحقوق الاقتصادية، بل في الدفاع عن بيئة عمل صحية.
ويؤكد بشار: “ما نشهده اليوم ليس مجرد إهمال، بل تواطؤ بالصمت، فالجهات الرسمية، أرباب العمل، وحتى بعض مؤسسات المجتمع المدني، يتهربون من مسؤولياتهم تجاه الفئات الأضعف،” ويقسّم المسؤوليات بحسب وجهة نظره على الجهات الرسمية، كونها مطالبة بسن قوانين واضحة تضمن أجوراً عادلة، وساعات عمل إنسانية، وتأميناً صحياً خاصاً بالمهن الميدانية، أما أرباب العمل، فعليهم/نّ مسؤولية مباشرة في توفير أدوات الوقاية، وتجنّب التشغيل في ساعات الذروة، واعتماد برامج رعاية صحية تأخذ المناخ بعين الاعتبار، بحسب بشار
ويشير بشار أيضاً إلى دور المجتمع المدني والنقابات قائلاً: “يقع عليهم الدور الأثقل في الضغط لتبني سياسات عادلة، وتنظيم حملات توعية، وتوفير برامج دعم للعاملين المتضررين من تغير المناخ، كالمزارعين أو عمّال التوصيل أو الباعة الجوالين.”
ختاماً، رغم قسوة المناخ وشحّ الإمكانات، يواصل العاملون والعاملات في القطاعات اليومية وغير الرسمية أداء أعمالهم/نّ بوسائل بسيطة ومبادرات فردية، يحتمون بما تيسّر من ظل أو قبعة أو زجاجة ماء وإن كانت دافئة، ويواجهون/ن الحرارة والغبار والبرد من دون حماية تُذكر أو دعم يُشعرهم/نّ بقيمتهم/نّ.
وتكشف الشهادات التي وردت في هذا التقرير عن واقع يتجاوز مجرد صعوبة الطقس، ليعكس هشاشة البنى الاجتماعية والاقتصادية، وضعف تمثيل الفئات العاملة في صياغة القرارات والسياسات، رغم أن هذه الفئات هي الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية، وفي ظل هذا الواقع، تصبح العدالة المناخية مطلباً لا يقتصر على البيئة، بل يمتد ليشمل الكرامة والعدالة الاجتماعية، والعمل الآمن، وحق الإنسان في أن يُنظر إليه كأكثر من مجرد وسيلة إنتاج.