بعد سنواتٍ كانت فيها الزراعة ركيزة الأمن الاقتصادي في سوريا عامة، وشمال شرقي سوريا بشكل خاص، يدخل عام 2025 محمّلًا بخيبة أمل الكثير من المزارعين، الذين يقفون أمام أراضٍ جرداء وأحلام زراعية مهدورة.
في ريف الدرباسية، يتجسد هذا الواقع مع عدنان عيسو في أرضه التي زرعها بالشعير البعلي، ويقول “زرعتُ ما يقارب من 10 آلاف دونم من الشعير، لكن المحصول لم ينجح على الإطلاق، فلم تهطل الأمطار هذا العام، والزراعة البعلية فشلت بالكامل.”
كانت الزراعة دائماً مصدر رزق لعدنان الذي يقيم في مدينة قامشلي، واليوم باتت مجازفة باهظة التكلفة، في الوقت الذي لا يمكن الاعتماد فيه على الزراعة المروية، التي ليست في أفضل حال، فهي تعتمد بشكل رئيسي على المياه الجوفية، والمحروقات والبذار ذو التكلفة العالية، فضلاً عن انخفاض أسعار المحاصيل عند البيع.
“بلغت تكلفة الدونم الواحد نحو 100 دولار أمريكي (ما يقارب 900 ألف ليرة سورية)، بينما قمنا ببيع الكيلوغرام الواحد بـ 30 سنت فقط في العام الفائت (ما يقارب 9 آلاف ليرة سورية)، وهذه المعادلة جعلت من 80 إلى 90% من المزارعين، خاسرين، الأمر الذي دفع بالكثيرين للعزوف عن الزراعة المروية أيضاً.” يقول عدنان.
بحسب عدنان، فإن أكثر ما يحتاجه مزارعو المنطقة لضمان العودة إلى مواسم زراعية ناجحة كما في السابق، هو الدعم من قِبل الجهات المسؤولة، دعم يشمل المحروقات والأسمدة، وسعر شراء تشجيعي، إلى جانب نظام قروض من شأنه مساعدة المزارعين على النهوض مجدداً، وإحياء الواقع الزراعي من جديد.
زراعة تُحتضر ومزارعون على حافة اليأس
الحال التي يعيشها آلان خلو من مدينة الدرباسية ليست بالأفضل، وهو يملك أرضاً ورثها عن والده، وكانت مصدر رزقه الوحيد لسنواتٍ طويلة، اعتاد أن يزرعها بالقمح، والشعير، والفول، وحبة البركة، والكزبرة، لكن في العام الحالي، لم تكن السماء ولا الأرض، ولا حتى السياسات، في صفه، ولا حتى السياسات الزراعية في المنطقة، على حد وصفه.
“أملك 400 دونم أرضاً زراعية، أزرع منها عادةً، 250 دونماً بالسقي، و150 دونماً بعلي، إلا أنني في هذا العام، لم أزرع سوى 150 دونماً، لأنه ما من ضمان لنجاح الموسم الزراعي،” يقول آلان مشيراً بيده إلى أراضٍ زراعية بقيت بوراً رغم جهوزيتها.
يواجه آلان تحدياتٍ كبيرة في المواسم الزراعية، وعلى الرغم من الوصول إلى نهاية الموسم الزراعي، لم يستلم الدفعة الأخيرة من مخصصات المازوت حتى الآن، متسائلاً كيف له أن يسقي ويحصد، في ظل قلة المحروقات وارتفاع تكلفتها، مشيراً إلى أنّ التكاليف جميعها تنعكس سلباً على واقعهم الاقتصادي.
“أقصى ما أطمح إليه هو تجنّب الخسارة، لا تحقيق الربح، وفي كل سنة تأتي تسعيرة القمح مخيبة للآمال أكثر من سابقتها، ومع ذلك نستمر بالعمل الزراعي لأننا لا نملك بديلاً عنه،” يقول آلان واصفاً الزرعة في المنطقة بأنها أقرب إلى العمل المجّاني، لذا فقد قرر زراعة 110 دونماً من أرضه بالقمح، و30 دونماً بالشعير.
أما شمسة مجيد، فإنها فقدت مصدر رزقها الوحيد نتيجةً لانهيار الواقع الزراعي، وهي المعيلة لعائلتها المكونة من ثلاثة أبناء وطفلتين، إلى جانب زوجها الذي يقاسمها العمل في الأراضي الزراعية، تنحدر من ريف بلدة زركان، والتي اضطرت لمغادرتها بحثاً عن عملٍ آخر، ولم تنجح في الحصول عليه حتى الآن، فهي لم تعمل يوماً سوى في الزراعة مذ كانت في سنٍّ صغيرة، حيث عملت في جني الثمار، والحصاد، وحراسة المحاصيل.
كانت شمسة تعتمد في إيجاد العمل في الأراضي الزراعية على المعارف والأقارب، وغالباً ما كان عملها موسمياً، ويومياً، تتقاضى أجرتها بعد يومٍ شاق في الشمس أو تحت المطر، لكنها كانت كافية لتبعث الحياة في منزلها، تقول: “أستطيع العمل في أي شيء متعلق بالزراعة والأرض، ولم أرفض أي عملٍ يوماً، كان المهم أن نتمكن من العيش، لكنّي اليوم لا أجد أية فرصة عمل، وأُغلقت كل الأبواب في وجوهنا.”
تواصلت شمسة وزوجها مع العديد من المزارعين ممن اعتادا العمل في أراضيهم، إلا أن الردود كانت متشابهة، منهم من قرر العمل في أرضه بنفسه لتوفير التكاليف، ومنهم من قرر العزوف عن الزراعة.
الخسارة المشتركة حرمت شمسة وزوجها من أية فرصة عمل هذا العام، وفرضت واقعاً مرّاً دفع بهذه العائلة لمغادرة القرية والانتقال إلى مدينة حسكة للعثور على عمل، دون أن ينجحا في ذلك حتى الآن.
تراجع القطاع الزراعي ليس مجرد أزمة: بل خطر يهدد المجتمع واقتصاده
إنّ السبب الرئيسي للعزوف عن الزراعة البعلية هو التغيرات المناخية، حيث انخفض معدّل هطول الأمطار خلال السنوات الأخيرة بشكل حادّ، أما الزراعة المروية، فإنها تعاني من أزمة مختلفة تتعلق بعدم توافّر المازوت أو ارتفاع سعره، وغياب خطة توزيع واضحة ومنظّمة للوقود الزراعي، بحسب ما يوضّحه المهندس الزراعي شيفكر اسماعيل.
يضيف شيفكر أن التحديات لا تقتصر على هذه العوامل فقط، بل أيضاً الأسعار التي تشتري بها المؤسسات المحصول من المزارعين، لا تتناسب مع التكاليف العالية التي يتكبدها هؤلاء في مراحل الزراعة كافةً، إلى جانب غياب أصناف جيدة للبذور لضمان الإنتاج الجيد.
“من الضروري دعم المزارعين بأسمدة وبذار هجينة ذات إنتاجية عالية وبأسعار معقولة، إضافة إلى منحهم قروضاً زراعية، سواء كانت على شكل بذار أو أسمدة بالدين، بهدف تحفيزهم على الاستمرار بالزراعة، وإلا فإن الواقع الزراعي سيكون مهدداً بالانهيار.” يقول شيفكر.
في مقارنةٍ بين إنتاجية الأراضي الزراعية في شمال شرقي سوريا، في العامين 2024 و2025، فإنّه في العام 2024، بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح المروي أربعة ملايين دونم، والقمح البعلي ثلاثة ملايين دونم، بما مجموعه سبعة ملايين دونم، كما بلغت التنظيمات الزراعية (الأراضي المرخّصة لزراعة القمح) سبعون ألف تنظيمٍ زراعي.
أما في العام 2025، فقد بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالقمح المروي ثلاثة ملايين دونم، والقمح البعلي مليون دونم، بما مجموعه أربعة ملايين دونم، كما بلغت التنظيمات الزراعية (الأراضي المرخّصة لزراعة القمح) 46 ألف تنظيم زراعي، أي بلغت الخسارة في المساحات ما يقارب ثلاثة ملايين دونم، بحسب ما توضّحه سارة العطية الرئيسة المشتركة للشؤون الزراعية في شمال شرقي سوريا.
توضح سارة أن المؤسسات المعنية بالزراعة تُبقي باب التقديم على تنظيم وترخيص الأراضي الزراعية مفتوحاً لمدةٍ طويلة، ولا تُلزم أحداً بالتسجيل من عدمه، إلا أن تسعيرة القمح المفاجِئة للمزارعين تدفع بهم للعزوف عن الزراعة أو التسجيل، وبالتالي فإن الإقبال على الترخيص يقل، أما المساحات البعلية فإن المزارع يتكبد التكاليف العالية من بذار وحراثة إلا أنه يعتمد على الحظوظ من الهطولات المطرية، وفي ظل الجفاف لسنوات متتالية، انخفضت المساحة المزروعة بعلياً.
تشير سارة إلى أنّ انخفاض المساحات المزروعة بالقمح ينعكس سلباً على المنطقة، حتى وإن كانت الصوامع ممتلئة، فإن الحاجة لهذا المحصول الاستراتيجي تبقى مستمرة، وفي حديثها عن التحديات التي تواجه العملية الزراعية، تؤكّد أن السبب يكمن في عدم ضبط توزيع المحروقات من قبل المؤسسات الزراعية، حيث انتقل التوزيع ليصبح من مهام مؤسسة المحروقات.
اشتكى آلان خلو من أنّه توجّه للمؤسسات الزراعية للتقديم على ترخيص أرضه الزراعية لزراعة القمح بمساحة 150 دونم، إلا أن المؤسسة حددت المساحة بـ 110 دونم، وبالتالي فإنه سيحصل على الدعم من المحروقات لهذه المساحة فقط، الأمر الذي دفعه لترك ما تبقّى من المساحة أرضاً بور.
في هذا الصدد، تقول سارة إنّ ترخيص الأراضي الزراعية يتم وفق خطةٍ زراعية تتجدد كل سنة، ويتم وضعها حسب الاحتياج، لذا فإن الخطة لهذا العام تنطوي على السماح لكل مزارع بترخيص 60% من أرضه لزراعة القمح، وما يزيد عن هذه المساحة يكون مخالفاً للخطة.
أمام هذا الواقع، تحاول المؤسسات المعنية البحث عن حلول بديلة، إذ بدأت بحسب سارة في منطقة ديريك/المالكية تجربة أولية للاعتماد على الطاقة الشمسية لتشغيل مضخات المياه، كبديل عن المحروقات، وقد تجاوب بعض المزارعين وبدأوا بشراء منظومات طاقة شمسية بأنفسهم، وضمن هذه الجهود، تم توسيع المساحات المزروعة بالخضروات، في محاولة لتنويع الموارد الزراعية في المنطقة، إلا أنه لا خطة لتوسيع هذه التجربة لتشمل المناطق الأخرى في شمال شرقي سوريا.
ورغم ذلك، لا تزال الزراعة في شمال شرقي سوريا تواجه خطر التراجع الحاد، وسط غياب سياسات زراعية متكاملة، وضعف في منظومات الدعم، وتغيرات مناخية غير مسبوقة، وفي ظل كل ذلك، يبقى المزارع الحلقة الأضعف، يعمل بأدوات محدودة وإمكانات متواضعة، في معركة مستمرة مع أرض جافة ومؤسسات غير قادرة بعد على تلبية احتياجاته الحقيقية.