“في لحظاتها الأخيرة، أمسكت بيدي وقالت لي: “أنتِ ابنتي التي لم ألدها.” في تلك اللحظة، أدركتُ أنني لم أكن مجرد ضيفة في بيتها، بل أصبحتُ جزءًا لا يتجزأ من حياتها.” بهذه الكلمات تسرد زوزان سيدو (30 عام/ من مدينة سري كانيه/ رأس العين) قصة العلاقة القوية التي جمعتها مع سيدة أرمنية مسنّة. هذه السيّدة التي تعرّفتْ عليها خلال ظروف الحرب والنزوح، قصةٌّ تختصر تجاوز الإنسانية لكل الحدود والقيود المجتمعية، وفي أقسى الظروف.
حين تعرّضت مدينة سري كانيه/ رأس العين للاجتياح من قبل الفصائل السورية الموالية لتركيا في العام 2019، وجدت زوزان نفسها مع عائلتها وسط قوافل من النازحين/ات الذين/اللواتي تركوا/ن كل ما يملكون/ن خلفهم/نّ، بحثًا عن الأمان، تقول زوزان: “غادرنا منازلنا، واتجهنا إلى القامشلي، لقد كانت الرحلة صعبة، ومليئة بالخوف والقلق من المجهول.”
بعد أيامٍ قضتها العائلة في منزلٍ احتضن الكثير من أقربائها، قررت زوزان وعائلتها استئجار منزل في حي الوسطى بمدينة قامشلي، “كان المنزل في حالة سيئة جداً، نوافذه مكسورة، ولا يتوفر ماء أو كهرباء، حينها شعرتُ وكأننا انتقلنا من حياة مليئة بالاستقرار إلى كابوس حقيقي.”
في ذلك البناء، كان اللقاء الأول بين زوزان والسيدة الأرمنية، وذلك حين كانت الأولى تحاول مع عائلتها توصيل الكهرباء بهدف ملء خزان المياه، حيث عرضت السيدة المساعدة. “كانت سيدة سبعينية، تعيش وحدها بعد سفر أولادها إلى خارج البلاد وبعضهم إلى مناطق سورية أخرى، وكانت تعاني من أمراض عدّة أجبرها أحد تلك الأمراض على استخدام الكرسي المتحرك للتنقل، وعلى الرغم من حالتها الصحية الصعبة، لم تتردد في فتح الباب وعرض المساعدة.” تقول زوزان.
كانت زوزان في بداية الأمر تقوم بزيارة جارتها بين الحين والآخر للاطمنئان عليها، لكن سرعان ما أصبحت جزءاً من حياتها اليومية، حيث كانت تساعدها في الأعمال المنزلية، وجلب لوازمها، والاهتمام بصحتها، إلى جانب إعداد الطعام الصحي لها، ولا تزال كلمات الشكر ترنّ على مسامعها حتى الآن.
تلك اللقاءات المتكررة، كوّنت صداقة فريدة جمعت بين امرأتين من أعمار وانتماءات ومدن مختلفة، وباتت أشبه بعلاقة تربط أم مع ابنتها، بحسب ما تذكره زوزان وتكمل القول “كنت أطمئن عليها من باب الجيرة، ولكنها مع الأيام، سدّت الفراغ الذي تركه سفر والدتي، ولم أشعر يوماً بالوحدة بوجودها.” وفي الوقت نفسه، كانت السيدة تشاركها قصصاً من حياتها، وذكرياتها مع أولادها، كما أنها كانت تشاركها الدروس التي تعلمتها في تجربة حياتها.
بين الرعاية والرحيل: ذكريات باقية من الجارة الراحلة
“في ليلة رأس السنة، قامت جارتي بدعوتنا للاحتفال معها، وبالفعل، قمت مع إخوتي بتزيين شجرة الميلاد في زاوية منزلها، كانت تتابعنا وقالت لنا إننا أولادها الآن، وهذه الشجرة أعادت البهجة لقلبي، بعد أن حُرمت من رؤية الطبيعة لسبع سنوات نتيجة مرضي.” تقول زوزان، وتكمل أنهم قاموا بتجهيز طاولة الطعام، وكانت تلك الليلة كفيلة بخلق ساعات من السعادة والوقت الممتع لهم جميعاً.
تقول زوزان إنها حاولت تعويض السيدة عن غياب أولادها، لذا فقد قدّمت هديةً صغيرة لها في كل عيد أم خلال فترة جيرتهما، وقامت بطمأنتها على الدوام أنها ستظل بجانبها، وكان الرد دوماً: “الله يرضى عليكي يا بنتي.” ومع تقدم السيدة في العمر وتدهور حالتها الصحية، أصبحت تعتمد كلياً على زوزان وأفراد عائلتها، “كانت تثق بنا بشكل كبير، حتى أنها أعطتني مفتاح منزلها، وقالت: هذا بيتك الآن، كنت أشعر بثقل هذه الثقة، لكنها كانت أيضًا شهادة على العلاقة القوية التي نشأت بيننا.”
قبل وفاة السيدة بأيام، كانت زوزان على تواصل مع ابنتها المقيمة في حلب، إلا أن صعوبة الوضع الأمني حينذاك كان يحول دون قدرة الابنة على الوصول لوالدتها، وبعد محاولات كثيرة، وصلت الابنة إلى وداع والدتها الأخير، وفي تلك الأيام، عايشت زوزان مشاعر صعبة، لكنها استمرت في تقديم الدعم النفسي لجارتها المسنّة، التي تركت فراغاً كبيراً بعد وفاتها، تاركةً ذكرى احتفظت بها زوزان، وهي عقد يحمل الصليب، كانت تضعه السيدة حول عنقها دوماً.
“لقد علّمتني هذه السيدة أن الإنسانية والعلاقات المجتمعية لا تعرف ديناً أو لغة أو عمراً، أو أي اختلاف آخر، ومن خلال تجربتي معها لثلاث سنوات، تعلّمت قيمة الصبر والعطاء، وأدركت أن العلاقات الإنسانية هي التي تبقى وتدوم في النهاية. لقد علمتني أن أخفف الملح في الطعام واستبدله بالكثير من الحب.” تقول زوزان التي لا زالت تتذكر أدق تفاصيل جيرتها مع المسنّة بعد مرور عامين على وفاتها.