العيادات الخاصة أسيرة الفوضى وغياب التنظيم

في عيادة مزدحمة بمدينة قامشلي، جلست خديجة محمد (55 عاماً) من مدينة ديريك/ المالكية منذ السابعة صباحاً تنتظر دورها في إحدى العيادات، وكانت الساعة تقترب من الواحدة ظهراً حين دخل رجل مباشرةً إلى غرفة الطبيب، متجاوزاً جميع المنتظرين/ات. اعترض البعض، واستنكرت خديجة بصوتٍ عالٍ: “أنا من السابعة هنا، لم أره من قبل!” لكن الرد جاء من موظفة الاستقبال: “لقد حجز في وقتٍ سابق”، دون أي توضيحٍ إضافي.

وفي مشهدٍ مشابه، تضطر سلام خليل (56 عاماً) من مدينة الدرباسية إلى حجز موعدها عند طبيب العيون قبل أسبوع، ومع ذلك تجد العيادة مكتظة يوم مراجعتها، ويتداخل صوت الممرض الغاضب مع ضجيج المرافقين/ات، وتقول: “أحياناً أقرر ألّا أذهب، حتى لو كنت أشعر بالألم، لأن الوضع لا يُطاق،” غياب التنظيم وسوء معاملة بعض الموظفين/ات جعلا من كل مراجعة لسلام عبئاً نفسياً إضافياً.

أما جاسم محمد العلي (45 عاماً) من الشدادي، فلم ينجُ من هذا النمط، إذ اضطر لدفع ما يعادل نصف راتبه للعلاج في عيادة مزدحمة، وهناك أيضاً رأى بأمّ عينيه دخول أشخاص متجاوزين/ات دور غيرهم/نّ، ليصف الواقع بمرارة: “لا رقابة، ولا عدالة..”.

هذه القصص ليست استثناءً، بل تعكس واقعاً مألوفاً في كثير من العيادات والمراكز الطبية في شمال شرقي سوريا، وبالرغم من الدور الحاسم الذي يفترض أن تلعبه الجهات الرسمية في تنظيم القطاع الصحي، يُلاحظ غياب شبه تام لدور الرقابة والمتابعة، خاصةً فيما يتعلق بالعيادات الخاصة، ما يترك مساحة واسعة للعشوائية وعدم الالتزام بالمعايير الطبية والإدارية. وبين الضغط والاتهام، يبقى المريض/ة هو/ي الخاسر/ة الوحيد/ة، وفي هذا السياق لم تحصل معدّة التقرير على أي تصريح من هيئة الصحة حول دورهم/نّ في تنظيم هذه الحالات.

وسط هذه الفوضى، تُوجه أصابع الاتهام غالباً إلى موظفي/ات الاستقبال، لكن من خلف الطاولة، تُروى قصة مختلفة، تسافر سلام من مدينة الدرباسية إلى حسكة كلما احتاجت إلى مراجعة الطبيب، مسافة ساعة كاملة تقطعها وهي مرهقة، تحجز موعدها قبل أيام، وأحياناً قبل أسبوع، لضمان الحصول على “دور”، لكن حتى هذا الحجز لا يضمن لها شيئاً، تقول سلام وهي تستعيد مشاهد تكررت معها أكثر من مرة: “أصل في الموعد المحدد، ومع ذلك، أجد العيادة مكتظة، الجميع جالس بشكل متلاصق، ومنهم من لا يجد مكاناً يستريح فيه، إضافة إلى عدد المرافقين الذي يفوق عدد المرضى، أجواء خانقة، ضجيج، وصراخ: اجلسوا، ابتعدوا، انتظروا الدور.”

بالرغم من أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الأطباء والطبيبات والممرضين/ات وموظفي/ات الاستقبال، إلا أن للمرضى والمريضات أيضاً دوراً في زيادة هذه الفوضى، وذلك عندما لا يلتزمون/ن بالهدوء، ويصعب عليهم/نّ تقبّل بعض الإجراءات، بالإضافة إلى جلبهم/نّ عدداً كبيراً من المرافقين/ات، ما يؤدي إلى تضييق المساحة وزيادة الازدحام، هذا ما تؤكده آرين حمي، موظفة استقبال في عيادة نسائية بالحسكة: “لدينا نظامان للتسجيل، هاتفي وبالحضور الصباحي، الحالات الإسعافية نعطيها أولوية، إلا أن المراجعين يرفضون ذلك ويعتبرون كل حالة استثناء.”

تقول آرين وتتابع: “في بعض الأحيان، يقوم الشخص بحجز موعد عبر الهاتف، لكنه لا يستطيع الحضور إلا متأخراً، مما يظن البعض أنه يدخل بدون دور. نحن نوثق كل اسم، ولكن لا توجد شاشة تعرض الأدوار، وهذا يخلق نوعاً من الشك والتوتر،” وتوضح آرين رفضها التام لأية محسوبيات أو رشاوى، لكنها تعترف أن هناك ضغطاً كبيراً ونقصاً في الموارد: “لا يوجد عدد كافٍ من الكراسي، وأحياناً يأتي المريض متعباً ويُلقي اللوم علينا، لكننا أيضاً لا نملك الأدوات الكافية، والتنظيم بدون نظام فعّال يصبح أمراً صعباً.”

“الانتظار الطويل يؤثر بشكل كبير على نفسية المريض، خصوصاً الحوامل أو أولئك الذين يعانون من الألم، وقت الطبيب محدود، وإذا حدث خلل في تنظيم الدور، تزداد احتمالات حدوث الأخطاء الطبية،” تقول شورش عثمان، طبيبة أمراض نسائية، وتضيف حول الواسطة وتجاوز الدور: “هذا الأمر موجود للأسف، ويؤثر على ثقة الناس، فعندما يرى المريض شخصاً يدخل قبل موعده، يشعر بالظلم، حتى وإن كانت الحالة فعلًا طارئة.”

في ظل الفوضى المستمرة داخل العيادات والمراكز الصحية، يتعرض موظفو/ات الاستقبال لضغوطات كبيرة، فهم/نّ يتعاملون مع العديد من المرضى والمريضات، والمواقف الصعبة في وقت واحد، مما يضعهم/نّ في موقع حساس، وحول ذلك توضح الطبيبة شورش أن الموظفين/ات يتحملون عبئاً كبيراً، وتقول: “موظف الاستقبال هو خط الدفاع الأول، وإذا لم يكن لديه تدريب وتنظيم واضح، فإن الأمور قد تفلت. في بعض الأحيان، يتعرض للشتائم من المرضى أو يُلقى عليه اللوم عن مشاكل ليس له علاقة بها.”

أسباب طفيفة تؤدي إلى فوضى تؤثر على جودة الرعاية الصحية

تعاني المنطقة من نقص واضح في البيانات والإحصائيات الدقيقة حول عدد العيادات الخاصة، طبيعة الخدمات التي تقدمها، أو مدى رضا المرضى/المريضات عنها.،وهذا الغياب للمعلومات يحول دون إمكانية بناء سياسات صحية فاعلة أو حتى مراقبة جودة الخدمات.

مع مرور الوقت، تأخذ شكاوى المرضى والمريضات بالازدياد والتفاوت من حيث حدّتها ومضامينها، بين من يتحدث عن خلل تنظيمي عام، ومن يعبّر عن شعوره/ها بالإهمال أو غياب العدالة في تلقي الخدمة، تقول سلام إنها قصدت إحدى العيادات الداخلية وهي تعاني من خمول مستمر، لكن الطبيب اكتفى بطرح بعض الأسئلة السريعة ووصف دواءً دون طلب أي تحاليل، ما جعلها تشعر بعدم الثقة، وأن الوقت لم يكن كافياً لتوضيح أوجاعها.

ويقرّ العديد من الأطباء والطبيبات بوجود فوضى في هذا القطاع تؤثر مباشرة على جودة الخدمة الصحية، في حين تشير الطبيبة شورش إلى أبرز أسباب الفوضى، والتي تتمثل بقلة الكادر الطبي والإداري، وغياب نظام حجز واضح وشفاف، واستخدام طرق بدائية لتسجيل الدور (مثل ورقة على الباب)، وضعف التنسيق بين الطبيب/ة والاستقبال، وحول ظاهرة الواسطة والتمييز في تقديم الخدمات، تؤكد: “للأسف، في بعض العيادات من الشائع أن يتجاوز المريض الذي لديه واسطة أو توصية الدور، حتى إن كانت حالته بسيطة، ما يخلق شعوراً بالظلم وعدم العدالة لدى بقية المراجعين، ويؤثر على ثقة الناس بالطبيب وبالمركز.”

ولا شك أن الأسباب التي تعزز من إثارة الفوضى في العيادات الطبية الخاصة هي كثيرة ومتعددة وقد تختلف وجهات النظر من مريض/ة لآخر/أخرى وحتى قد يكون للكوادر الطبية رؤى مختلفة حول مسببات هذه الفوضى، وقد تتجسد بعضها في عدم إعطاء مواعيد دقيقة وثابت، وعدم الالتزام بالمواعيد المحددة، والضغط الزائد على جدول العيادة وعدد المواعيد في اليوم الواحد، وهذا يؤثر سلباً على جودة المعالجة ويؤدي إلى زيادة عدد الجلسات، ما قد يتسبب بانقطاع المريض/ة عن إكمال علاجه/ها بحسب الطبيب كلكامش حنا، المختص في طب الأسنان.

التنظيم أساس الجودة في المعالجة الطبية

التنظيم الدقيق والتخطيط المسبق يمكن أن يُحدثا فارقاً كبيراً في تقديم الرعاية الصحية، ويعززا من الثقة بين المريض والطبيب، بينما يساهمان في تقليل التوتر وزيادة فعالية العلاج.

وبناءً على ذلك، تقترح سلام تحديث تقنيات تنظيم الأدوار والتخلي عن الورقيات لضمان حقوق المرضى والمريضات في الحصول على دورهم/نّ، وتعزيز الثقة بين الكادر الطبي والمريض/ة، كما هو الحال في بعض المراكز في مدن مثل دمشق وحتى في دول الغرب.

في هذا السياق، يقدم الطبيب كلكامش مثالاً ناجحاً على تطبيق نظام فعّال في مركزه الطبي: “يتم تقسيم اليوم إلى جلسات محددة وتُمنح كل حالة وقتاً خاصاً،” ويضيف: “يُوثق التاريخ الطبي لكل مريض، ويُمنح وقتاً كافياً، وتُقلل فترة الانتظار إلى ما لا يتجاوز عشر دقائق، كما يُوفر المركز بيئة مريحة ومهيأة نفسيًا لتخفيف التوتر، مما يزيد من فعالية العلاج.”

ويتابع: “اعتمدنا النموذج الألماني في تنظيم العمل داخل العيادة، حيث نستخدم تقويماً سنوياً لتسجيل المواعيد، ويُقسم اليوم الواحد إلى خمسة مواعيد رئيسية: ثلاثة في الفترة الصباحية واثنان في الفترة المسائية، ويُمنح المريض/ة موعدًا أو أكثر بحسب حاجته/ها العلاجية، مع كتابة الموعد على التقويم وتسليم نسخة للمريض/ة كتذكير.”


وتؤكد الطبيبة شورش أن تحسين التنظيم يبدأ من اعتماد نظام مواعيد مسبقة عبر الهاتف أو تطبيقات بسيطة، وإجراء فرز أولي للحالات بمجرد دخول المريض/ة لتحديد مدى استعجال حالته/ها، وتدريب موظفي/ات الاستقبال على مهارات التواصل والتنظيم، وتقسيم ساعات الدوام بحسب نوع الحالات (مثل تخصيص الصباح للحوامل)، واستخدام شاشات عرض داخل العيادة لتقليل توتر الانتظار، والتنسيق المستمر بين الفريق الطبي والاستقبال لتقييم عدد المرضى والمريضات وتنظيم الوقت.

وتقول: “أنا أؤمن أن احترام الدور هو احترام لحقوق المريض/ة، وحتى مع الضغط، أحاول دائماً أن أُعطي كل حالة وقتها المناسب، وأوضح للمرضى متى نتدخل بحالات إسعافية، لتبقى الثقة متبادلة بين المراجع والطبيب.”

ختاماً ما يبدو أحياناً كفوضى عابرة أو خلل بسيط في التنسيق داخل العيادات، ليس مجرد نتيجة طبيعية لضغط العمل أو نقص الموارد، بل هو انعكاس مباشر لخلل بنيوي أعمق يطال النظام الصحي المحلي برمّته. إن غياب السياسات الناظمة، وعدم وجود رقابة فعّالة من الجهات المعنية، وافتقار العيادات إلى أنظمة واضحة لإدارة الوقت والدور، كلها عوامل تجعل من الفوضى أمراً شبه دائم لا طارئ.

وفي حين تتداخل مسؤوليات الأطباء والطبيبات وموظفي/ات الاستقبال وحتى المرضى والمريضات أنفسهم/نّ في صناعة هذا المشهد، يبقى الحل الحقيقي رهيناً بإرادة جماعية واعية، تتجاوز تبادل اللوم إلى تبنّي إصلاحات فعلية تبدأ من تفاصيل صغيرة، مثل تنظيم الدور، توفير بيئة مريحة، تدريب الطواقم على إدارة التوتر، وتحسين أدوات التواصل.