“تعرّضتُ لاكتئابٍ شديد حين أخبرني الطبيب المختص أن ابنتي مصابة بطيف التوحد. كانت لحظةً قاسية جداً،” تقول سلوى، التي اختارت الحديث باسمٍ مستعار لأسباب تتعلّق بالنظرة المجتمعية لحالة طفلتها، والظروف النفسية التي قد يمرّ بها أي شخص في موقف مماثل.
سلوى، المنحدرة من مدينة سري كانيه/رأس العين، تشير إلى أنها بعد معرفة التشخيص، دخلت في حالة من القلق وبدأت تراودها أسئلة كثيرة من دون أن تجد لها أجوبة: “كيف سأتمكّن من التواصل مع طفلتي؟ كيف سيكون مستقبلها؟ وكيف سأواجه نظرة المجتمع؟”
تُشير سلوى إلى أن صعوبة الوصول إلى خدمات الدعم النفسي شكّلت العائق الأكبر أمام قدرتها على تقبّل الواقع الجديد. وزاد من ثقل الموقف شعورها بالعزلة عن محيطها الاجتماعي، نتيجة الخوف من ردود فعل الآخرين إذا عرفوا بالأمر.
وتتابع سلوى: “ما زلتُ أتحمّل نظرات الغرباء لتصرفات طفلتي في الأماكن العامة، وتعيدني تلك النظرات دائماً إلى اللحظة الأولى التي أبلغني فيها الطبيب بالخبر.” وتختتم قائلة: “لماذا يصعب علينا الوصول إلى مراكز متخصصة في الدعم النفسي؟ ما نحتاجه حقاً هو من يُصغي لنا ويفهمنا بصدق، مختصون يساعدوننا على تجاوز الأزمات النفسية التي تعصف بنا.”
تجربة سلوى تجربة شائعة بين سكان شمال شرقي سوريا، تفتقر إلى سهولة الوصول لخدمات الدعم النفسي، وسط بيئةٍ مجتمعية لا تزال تُحاصر من يعانون من أزماتٍ نفسية بالوصم والتمييز.
تتنوع الأزمات النفسية والاحتياج هو ذاته .. دعمٌ نفسي سهل الوصول إليه
هوزان جميل، شاب ثلاثيني ينحدر من مدينة سري كانيه/ رأس العين، تعرّض للاعتقال سنة 2012، من قِبل فصائل مسلحة سورية سيطرت على المدينة حينذاك، وكان سبب الاعتقال “تشابهٌ في الأسماء”، أفضى لاعتقالٍ دام لأكثر من أسبوعين، تعرّض فيها لتعذيبٍ شديد، خلق لديه حالة نفسية متأزمة لم يتخلص منها حتى الآن.
“تعرّضت للتعذيب على مدار 17 يوماً، وحين خرجت، لم أتمكن من النوم في فراشي، ونمت على الأرض كما كنا نفعل في المعتقل،” يقول هوزان ويشير إلى أن الأيام تلك، قد تركت له ذكرياتٍ سيئة لم يتمكن من نسيانها يوماً، فكان ذلك سبباً في اتخاذه قرار السفر إلى خارج البلاد، إذ فقد الشعور بالأمان في بلده، على حد تعبيره.
“لم أعلم أنني بحاجة لدعمٍ نفسي، وعانيت من الكوابيس لفترة ٍ طويلة.. ما زلت أخشى التفكير بزيارة البلد.” يقول هوزان.
أما سعاد ابراهيم، السيدة المنحدرة من مدينة قامشلي، فقدت زوجها بأزمة قلبية عام 2009، فوجدت نفسها فجأة مسؤولة لوحدها عن طفلين، الأمر الذي سبّب لها أزمةً نفسية استمرت لسنواتٍ قبل أن تتأقلم مع وضعها الجديد في غياب زوجها.
“لم يكن الدعم الذي تلقيته من عائلتي كافياً، فإن فقداني لزوجي، أمرٌ يحتاج لمختصين لمساعدتي في تجاوز المصيبة، ومعرفة الآليات للتعامل مع تلك الفترة الصعبة جداً،” تقول سعاد إنّ تأثير أزمتها النفسية لم يقتصر عليها فقط، بل تجاوزها ليؤثر على تربية طفليها، وتوضّح أنها كانت بحاجة للجلوس مع نساءٍ مررن بتجربة مماثلة للاستماع لتجاربهن، كما أنها تتمنى لو تمكنت من الوصول لجمعياتٍ تعمل مع النساء ممن فقدن أزواجهن، لتقديم الدعم النفسي لهنّ.
في استبيانٍ نفّذته منظمة نيكستيب، استهدف 800 شاب وشابة من مدن مختلفة بشمال شرقي سوريا، قال أكثر من 78% من المستهدفين/ات إن مناطقهم/نّ لا تلبّي الاحتياجات المتعلقة بالصحة النفسية، من خلال وجود أطباء/طبيبات الصحة النفسية أو المراكز والمنظمات المختصة بذلك، كما أن أكثر من 73% من المستهدفين/ات في الاستبيان قالوا/قلن إنّ المجتمع المحيط يمارس ضغطاً يؤثّر على قرارهم/نّ في الحصول على دعمٍ نفسي.
الدعم النفسي احتياج رئيسي وليس ترف
في مدينة قامشلي، يروي محمد (اسم مستعار) معاناة والدته النفسية بعد تعافيها من مرضٍ مزمن، فرغم الشفاء الجسدي، ظلت فوبيا عودة المرض تطاردها، وتحولت نوبات البكاء والانهيار إلى طقس يومي يصعب التعايش معه.
يقول محمد: “لا نتركها وحدها خوفاً من أن تؤذي نفسها، وراجعنا أطباء نفسيين، لكن من دون جدوى. نحن بحاجة إلى مراكز دعم متخصصة ترافق الناس بعد التعافي أو أثناء العلاج، كي لا يشعروا بالوحدة، بل يجدوا الأمل من جديد.”
من جانبه، يؤكد الناشط المجتمعي محمد علي أن الحاجة لمراكز الدعم النفسي في شمال شرقي سوريا لم تعد خياراً، بل ضرورة، فسنوات الحرب بحسب محمد وما خلّفته من ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية أثّرت على الجميع، من الأطفال/الطفلات وصولاً إلى كبار/كبيرات السن.
“رغم تحسن وعي الناس بالصحة النفسية، لا يزال هذا الوعي محدوداً، لذا فإننا نحتاج لحملات توعية مستمرة، ومراكز قادرة على تقديم الدعم المجتمعي الحقيقي، في المقابل، فإنّ التفاوت في الاهتمام بالخدمات النفسية بين مناطق السيطرة المختلفة في سوريا يزيد من تعقيد المشكلة.” يقول محمد.
أما جوانا، المعالجة النفسية لدى مؤسسة “جيان” لحقوق الإنسان في مدينة قامشلي، فتشير إلى أن مركزهم/نّ يبذل جهده لتلبية الطلب المتزايد، لكن الحاجة تتجاوز الإمكانيات، وتوضح: “لدينا نقطة دعم في مخيم سري كانيه، لكننا غير قادرين على تغطية مدن مثل الحسكة، المالكية، عامودا، القحطانية… نحتاج إلى توسيع البنية التحتية النفسية والاجتماعية.” تقول جوانا.
وتشير إلى أنّ النساء والأطفال يشكّلون النسبة الأكبر من مراجعي/ات المركز، لكن الذكور أيضاً بحاجة إلى الدعم، ويسعون لتشجيعهم عبر التوعية، وتضيف أن المركز يقدّم تقنيات الرعاية الذاتية، ورفع الوعي تجاه قضية الانتحار، وتؤكّد أن الاحتياج يفوق الإمكانيات المتوفرة، في ظل محدودية عدد المعالجين/ات النفسيين/ات في المنطقة.